معنى قوله (ع): "إِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ"

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

"وإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وسَمَّوْه إِمَامًا كَانَ ذَلِكَ لِلَّه رِضًا، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوه إِلَى مَا خَرَجَ مِنْه، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوه عَلَى اتِّبَاعِه غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، ووَلَّاه الله مَا تَوَلَّى .."(1).

ما معنى هذه الرّواية الواردة في نهج البلاغة؟ ألا تعني أنَّ الإمام عليَّاً (ع) أعطى الشّرعيَّة لخلافة مَن سبقه؟

الجواب:

لا يصحُّ القولُ بأنَّ الإمامَ عليًّا (ع) أعطى الشرعيَّة لخلافة مَن سبقه إلا بعد التثبُّت من أمرين:

الأول: صدورُ هذه المقولةِ من الإمام (ع).

الثاني: ظهورُها في إعطاء الشرعيَّة لخلافة مَن سبقَه في الخلافة الظاهريَّة، وكلا الأمرين غيرُ ثابت.

أمَّا الأمر الأول: فالروايةُ ضعيفةُ السند، فقد رفعَها الشريفُ الرضي (رحمه الله) إلى الإمام (ع) دون أنْ يذكر لها سندًا، فهي مرسلة، وبذلك تكون ساقطةً عن الاعتبار والحجيَّة.

وأمَّا الأمر الثاني: فالروايةُ المذكورة بحسب ما ورد في نهج البلاغة كانت رسالةً بعثَها الإمام (ع) إلى معاوية، وهي كما هو واضح جدًا مسوقةٌ لغرض الاحتجاجِ والإلزامِ لمعاوية بما يلتزمُ به، على أساس القاعدة العقلائيَّة: (ألزِمُوهم بما ألزمُوا به أنفسَهم)(2).

فقد بدأ الإمام (ع) رسالته بقوله: "إِنَّه بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْه، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، ولَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ .."(3).

فالإمامُ (ع) كان في مقامِ الاِحتجاج بأمرٍ يقبلُ به معاوية، فكان عليه أنْ يلتزِمَ به، ولو احتجَّ عليه الإمام (ع) بالنصِّ لما كان المنتظَرُ من معاويةَ الاِلتزامَ به لأنَّه سيزعُمُ بأنَّه لا يقرُّ بالنصِّ وعلى خلافِ ذلك الاحتجاجُ عليه بما وقع للخلفاء الذين سبقوه فإنَّ معاويةَ على ظاهر الالتزام بسيرتهم ثمَّ إنَّ احتجاج الإمام (ع) على معاوية بالنصِّ يستبطنُ الطعن في شرعيَّة خلافة الخلفاء، وهذا ما يُمكِّن معاوية من استثماره لصالحه في وقتٍ كان الإمام (ع) في أمسِّ الحاجة إلى إحكام ولايتِه الظاهريَّة، فإنَّ الكثير ممَّن كانوا مع الإمام (ع) كانوا يعتقدون بشرعيَّة خلافة الخلفاء ويمتثلون أمرَه باعتبار بيعتِهم له لا باعتبار الاستحقاقِ الناشئ عن النصِّ من اللهِ تعالى ورسولِه (ص).

إذن لم يكنِ الإمامُ (ع) بصددِ بيان الرؤيةِ الشرعيَّة التي يتبنَّاها وإنَّما كان بصدد الاحتجاج على معاوية والإلزام له بما يدَّعي الاِلتزام به، وهو ما يُحتِّم التماس ما يُوجب الإفحام للخصم وإيقاعه في حرج الاِلتزام بما هو معتقِدٌ به، هذا أولًا.

وثانيًا: الروايةُ المذكورةُ ليس فيها -بعد ملاحظة الواقع- إقرارٌ من الإمام (ع) بشرعيَّة خلافة أبي بكر وذلك لأنَّها أفادتْ: "وإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وسَمَّوْه إِمَامًا كَانَ ذَلِكَ لِلَّه رِضًا .." وبيعةُ أبيٍ بكر لم تنعقد بشورى المهاجرين والأنصار، فلم يكن في سقيفة بني ساعدة حيثُ وقعتْ البيعة إلا ثلاثة من المهاجرين، أحدُهم أبو بكر والثاني عمر والثالث أبو عبيدة بن الجراح، فلم يُستشَر من المهاجرين غير هؤلاء الثلاثة، وما خرجوا من السقيفة إلا بعد أنْ بويع أبو بكر على الخلافة، فكان على الناس أنْ يبايعوا، فأين هي شورى المهاجرينَ والأنصار واجتماعُهم على رجلٍ وتسميته إمامًا؟!!.

فالرواية إذن لا تُعطي الشرعيَّة لخلافة أبي بكر بعد أنْ لم تكن خلافتُه قد نشاتْ عن شورى المهاجرينَ والأنصار، ثم إنَّنا لسنا بصدد المناقشةِ لِما وقع في سقيفة بني ساعدة، إذ أنَّ ما وقع هناك لم يكن تشاورًا ويكفينا في المقام ما اشتهرَ عن الخليفةِ عمر في تقييمِه لخلافةِ أبي بكر والتي وصفها بالفلتة التي وقى اللهُ شرَّها، فقد ورد في صحيح البخاري وغيره قال : إنَّ عُمر بن الخطَّاب قال وهو على منبر المدينة في محضرٍ من الصحابة: (.. إنّهُ بَلَغَنِي أنَّ قائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: والله لوْ ماتَ عُمَرُ بايَعْتُ فُلانًا، فَلا يَغْتَرَّنَ امْرُؤٌ أنْ يَقُولَ: إنّما كانَتْ بَيْعَةُ أبي بَكْرٍ فَلْتَةً، وتَمَّتْ، ألاَّ وإنَّها قَدْ كانَتْ كَذلِكَ، ولكِنَّ اللهَ وَقى شَرَّها، ولَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأعْناقُ إلَيْهِ مِثْلُ أبي بَكْرٍ، مَنْ بايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلا يُبايَعُ هُوَ، ولا الّذِي بايَعَه ..)(4).

فبيعةُ أبي بكر لم تكن بمشورة المهاجرين والأنصار، وإنَّما كانت فلتةً ولكنَّ الله وقى شرَّها- بحسب قول عمر- فإذا لم تكنْ بيعته عن شورى المهاجرين والأنصار فكيف تكون هذه الرواية المنسوبة لعليٍّ (ع) معطيةً الشرعيَّةً لخلافة أبي بكر، والحال أنَّ خلافته لم تكن إلا فلتة وقى اللهُ المسلمين شرَّها.

والأمرُ يكونُ أكثرَ وضوحًا في خلافة عمر حيثُ كانت خلافتُه بالتنصيب من قبل أبي بكر وحده ودون مشورة للمهاجرين فضلًا عن الأنصار، ولم تكنْ خلافةُ عثمان بشورى المهاجرين والأنصار وإنَّما كانت الشورى بقرارٍ ملزمٍ من عمر ضمن ستةٍ يجلسون فيما بينهم ويتوافقون على أحدهم، ولم يكن بينهم أنصاريٌ، فلم تنعقد بيعةٌ بشورى المهاجرين والأنصار لواحدٍ من الخلفاء الثلاثة.

ثالثًا: لا يصحُّ التمسُّك بروايةٍ حالُ سندِها ما ذكرناه ويُغضُّ الطرف عن الكثير ممَّا ورد عن الإمام (ع) صريحًا في عدم القبول بشرعيَّة خلافة مَن سبقه، على أنَّه يكفينا من ذلك ما هو ثابتٌ بنحو القطع عند الفريقين من امتناع عليٍّ (ع) عن بيعة أبي بكر مدَّةً من الزمن وإصرارِه على أنَّه الأحقُّ بها منهُ، فهل يتنكَّر لذلك احدٌ إلا مكابر، فكيف نوفِّق حينئذٍ بين القول بأنَّ عليًّا (ع) كان يرى خلافة أبي بكر شرعيَّة وبين امتناعه عن بيعته شهورًا -هذا لو كان قد بايع-  ثم تصريحه في كلِّ مناسبةٍ إلى آخر عمره بأنَّه الأحقُّ بالخلافة وأنَّ من عداه قد تقمَّصوها على غير أهليَّة، وإذا كان البناء هو الاستدلال بما في نهج البلاغة فهو مليءٌ بذلك.

فمِّما ورد في نهج البلاغة قولُه: "فَوَاللَّه مَا زِلْتُ مَدْفُوعًا عَنْ حَقِّي، مُسْتَأْثَرًا عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وآله وسَلَّمَ حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا"(5).

ويقول (ع) في موضعٍ آخر: "وقَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ، فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ واللَّه لأَحْرَصُ وأَبْعَدُ وأَنَا أَخَصُّ وأَقْرَبُ، وإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقًّا لِي وأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وبَيْنَه، وتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَه، فَلَمَّا قَرَّعْتُه بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلإِ الْحَاضِرِينَ، هَبَّ كَأَنَّه بُهِتَ لَا يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِه"(6).

ثم يقول (ع): "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ ومَنْ أَعَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ، وأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْرًا هُوَ لِي، ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَه وفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَه"(7).

وقال (ع) في خطبته الشقشقيَّة: "أَمَا واللَّه لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وإِنَّه لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْبًا وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحًا .. فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْبًا حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِه، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَه .. فَيَا عَجَبًا بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِه، إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِه لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا .. حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِه، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّه ولِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِه النَّظَائِرِ .."(8).

وقال (ع) في جوابه على كتاب معاوية الذي ذكر فيه أنَّ عليَّاً (ع) بايع أبا بكر رغمًا قال (ع): "وقُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ، ولَعَمْرُ اللَّه لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ، وأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ، ومَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا مَا لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي دِينِه ولَا مُرْتَابًا بِيَقِينِه، وهَذِه حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا ولَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا .."(9).

وثمة الكثيرُ من الكلمات لأمير المؤمنين (ع) المنقولة في نهج البلاغة تُعبِّرُ عن رؤيته في خلافة مَن سبقَه إلا أنَّنا أعرضنا عن ذكرِها خشيةَ الإطالة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- نهج البلاغة -الشّريف الرّضيّ- ج3 / ص7.

2- وسائل الشّيعة -الحرّ العامليّ- ج26 / ص320.

3- نهج البلاغة -الشّريف الرّضيّ- ج3 / ص7.

4- صحيح البخاري ج8 / ص26.

5- نهج البلاغة -الشّريف الرّضيّ- ج1 / ص42.

6- نهج البلاغة -الشّريف الرّضيّ- ج2 / ص84-85.

7- نهج البلاغة -الشّريف الرّضيّ- ج2 / ص85.

8- نهج البلاغة -الشّريف الرّضيّ- ج1 / ص30-35.

9- نهج البلاغة -الشّريف الرّضيّ- ج3 / ص33-34.