استقرار المهر أو نصفه بموت الزوج قبل الدخول 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما الذي تستحقُّه الزوجةُ من المهر بموت زوجها قبل الدخول؟

 

الجواب:

ما تستحقُّه الزوجة من المهر بموت الزوج قبل الدخول:

الرواياتُ في ذلك مختلفة، فطائفةٌ منها أفادت أنَّ للزوجة نصفَ المهر المسمَّى بموت زوجها قبل الدخول، وهذه الطائفة هي الأكثر عدداً، وقد وُصفت بالمستفيضة بل وصفها صاحبُ الوسائل (رحمه الله) بالمتواترة.

 

والطائفة الثانية أفادت أنَّ للزوجة غير المدخول بها تمام المهر بموت زوجها، وهذه الطائفة وإنْ كانت أقلَّ عددًا من الطائفة الأولى إلا أنَّ المشهور قد أفتى بمضمونِها، فقد أفاد صاحبُ الجواهر (رحمه الله) أنَّ: "استقرار المهر بموتِ الزوج قبل الدخول هو خيرة الشيخين، والمرتضى، والقاضي، وابني حمزة، وإدريس وكافَّةِ المتأخرين، ولعلَّه لذا نسبه في محكيِّ غاية المراد والمهذَّب البارع إلى فتوى الأصحاب، نحو ما عن ابن إدريس من أنَّ الموت عند محصِّلي أصحابنا يجري مجري الدخول في استقرار المهر جميعِه، بل في ناصريَّات المرتضى الإجماع عليه، وفي الغُنية نفيُ الخلاف فيه"(1).

 

ثم إنَّ صاحب الجواهر أفاد أنَّه لم يجد مخالفاً فيما عليه المشهور من استقرار تمام المهر بموت الزوج قبل الدخول إلا ما يُحكى عن الشيخ الصدوق في المقنع وظاهر الفقيه.

 

هذا وقد شكَّك صاحبُ الحدائق (رحمه الله) في نسبة الخلاف إلى الصدوق في المقنع، وأفاد بأنَّ النسخة التي بيده من كتاب المقنع تقتضي خلاف ما نُسب اليه من البناء على أنَّ للزوجة نصف المهر بموت زوجها قبل الدخول فهو إنَّما ذكر ذلك بعد قوله: "وفي حديثٍ آخر" وكان قد أفاد قبل ذلك أنَّ للزوجة بموت زوجها قبل الدخول تمام المهر، وظاهر ذلك هو أنَّه يُفتي باستقرار تمام المهر للزوجة بموت زوجها قبل الدخول، غايته أنَّه أراد من قوله بعد ذلك: "وفي حديثٍ آخر" التنبيه على وجود ما يقتضي أنَّ لها نصف المهر في الروايات وإلا فإنَّ فتواه هي ما صدَّر به حديثَه عن المسألة.

 

ومنشأ نسبة الخلاف إلى الصدوق في المقنع هو أنَّه بعد ما أفاد بقوله "وفي حديث آخر إنْ لم يكن دخَل بها وقد فرض لها مهراً فلها نصفُه" قال: "وهو الذي أعتمده وأُفتي به"(2).

 

وهذه الفقرة هي التي أفاد صاحبُ الحدائق أنَّها غير موجودة في النسخة التي عنده، وهي كذلك غير موجودة في النسخة المطبوعة التي وقفنا عليها، وقد وضَعَ محقِّقُ الكتاب الفقرة المذكورة بين معقوفين وذكر أنَّه أثبتها نقلاً عن كتاب المختلف للعلامة الحلِّي، فيقوى في الظنِّ انَّ هذه الفقرة غير موجودة في النُسخِ المخطوطة والحجريَّة التي حُقِّق منها كتاب المقنع المطبوع فعلاً، وعلى أيِّ تقديرٍ فإنَّ نسبة الخِلاف إلى الشيخ الصدوق في المقنع غير مُحرَزة، وأمَّا نسبة الخلافِ اليه في الفقيه فمنشأه أنَّه لم ينقل فيه إلا روايات التنصيف، وكذلك هو منشأ نسبة البعض الخلاف للكليني (رحمه الله).

 

استعراض روايات الطائفتين:

وكيف كان فلا بدَّ من ملاحظة الطائفتين من الروايات الواردتين في هذه المسألة للوقوف على كيفيَّة المعالجة للاختلاف الواقعِ بينهما.

 

أمَّا الطائفةُ الأولى المقتضية لعدم استحقاقِ الزوجة لأكثر من نصف المهر إذا مات زوجُها قبل الدخول بها فنذكرُ منها أربعَ روايات:

 

الأولى: معتبرة محمد بن مسلم، عن أحدهما (ع) في الرجل يموت وتحته إمرأة لم يدخل بها، قال:"لها نصفُ المهر، ولها الميراث كاملاً، وعليها العدَّة كاملة"(3).

 

الثانية: معتبرة علي بن رئاب، عن زرارة، قال: سألتُه عن المرأة تموتُ قبل أنْ يُدخل بها؟ أو يموت الزوجُ قبل أنْ يَدخل بها؟ قال: "أيُّهما مات فللمرأة نصفُ ما فُرض لها، وإنْ لم يكن فُرض لها فلا مهرَ لها"(4).

 

الثالثة: معتبرة عبيد بن زرارة وفضل أبي العباس قالا: قلنا لأبي عبد الله (ع): ما تقولُ في رجلٍ تزوَّج امرأةً ثم مات عنها وقد فرضَ الصداق؟ قال: "لها نصفُ الصداق وترثُه من كلِّ شيءٍ، وإنْ ماتتْ فهو كذلك"(5).

 

الرابعة: معتبرة عبيد بن زرارة، قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن رجلٍ تزوَّج امرأةً ولم يدخل بها؟ قال: "إنْ هلكت أو هلك أو طلَّقها فلها النصف، وعليها العدَّة كملاً، ولها الميراث"(6).

 

وأمَّا الطائفة الثانية المقتضية لاستحقاق الزوجة لتمامِ المهر المسمَّى بموتِ الزوج قبل الدخول فنذكرُ منها ثلاث روايات:

 

الأولى: معتبرة الحلبي، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال في المتوفَّى عنها زوجُها اذا لم يدخل بها: "إنْ كان فرض لها مهراً فلها مهرُها الذي فُرض لها، ولها الميراث، وعدَّتُها أربعة اشهر وعشراً كعدَّة التي دُخل بها، وإنْ لم يكن فرض لها مهرًا فلا مهرَ لها، وعليها العدَّة، ولها الميراث"(7).

 

الثانية: معتبرة ابن مسكان، عن منصور بن حازم، قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن الرجل يتزوَّج المرأة فيموتُ عنها قبل أنْ يدخل بها؟ قال: "لها صداقُها كاملاً، وترثُه، وتعتدُّ أربعة أشهر وعشراً، كعدَّة المتوفَّى عنها زوجها"(8).

 

الثالثة: معتبرة سليمان بن خالد قال: سألتُه عن المتوفَّى عنها زوجُها ولم يدخل بها؟ فقال: "إنْ كان فرض لها مهرًا فلها مهرُها، وعليها العدَّة، ولها الميراث، وعدَّتُها أربعة أشهر وعشراً، وإنْ لم يكن فرضَ لها مهراً فليس لها مهرٌ، ولها الميراثُ، وعليها العدَّة"(9).

 

ما قيل للجمع بين الطائفتين وجوابه:

هذا وقد جمع الشيخُ الطوسي (رحمه الله) بين الطائفتين بحمل روايات التنصيف على استحباب أن تُعفي الزوجةُ الورثة من المطالبة بحقِّها في النصف الثاني من المهر إلا أنَّ ما يردُ على هذا الجمع أنَّه ليس عرفيَّاً، وذلك لاستحكام التعارض بين الطائفتين، فمفاد الطائفة الأولى أنَّ الزوجة لا تستحقُّ النصف الثاني من المهر، ومفاد الطائفة الثانية أنَّها تستحقُّه، وهذا من التعارض المستحكِم الذي لا سبيل معه للجمع بنظر العرف، إذ لا يرى العرف وجهاً معقولاً لإثبات الحقِّ ونفيه في آنٍ واحد مع اتِّحاد الموضوع والمتعلَّق، فالطائفتان متكاذبتان وإحداهما منافيةٌ للواقع بنظر العرف، ولذلك لابدَّ من معالجة الاختلاف بين الطائفتين على أساس مرجِّحات باب التعارض، وقد أفاد عددٌ من الأعلام أنَّ الترجيح للطائفة الأولى المقتضية لعدم استحقاق الزوجة لغير نصف المهر وذكروا وجوهاً عديدة أهمُّها:

 

ترجيح روايات التنصيف بالأكثريَّة وجوابه:

الوجه الأول: أنَّ الطائفة الأولى هي الأكثر عدداً، لذلك يكون الظنُّ بمطابقة مؤدَّاها للواقع أقوى من الظنِّ الحاصل من الطائفةِ الثانية.

 

وهذا الوجه لا يتمُّ ألا بناءً على القول بأنَّ الترجيح في حالات التعارض يكون بمطلق المرجِّح وإنْ لم يكن منصوصاً، إذ من الواضح أنَّ الترجيح بالأكثرية ليس من المرجِّحات المنصوصة، على أنَّه لو تمَّ القبول بصحَّة هذا المبنى لكان مختصًا بفرضيَّة خلوِّ الطائفة الأخرى من كلِّ مرجِّح، أما لوكانت كلُّ طائفةٍ واجدة لمرجِّح وكانت الأخرى فاقدة له فإنَّ ترجيح إحداهما لمجرَّد وجدانها لمرجِّحٍ ما ليس بأولى من ترجيح الأخرى إلا أنْ يكون أحد المرجِّحين أقوى من الآخر وتكون أقوائيتُه بيِّنة، والأمرُ ليس كذلك في المقام ظاهراً، فإنَّ الطائفة الثانية المقتضية لاستقرار تمام المهر بموت الزوج وإنْ كانت رواياتها أقلَّ عدداً إلا أنَّ المشهور قد عمل بها حتى أُدعي عدم وجدان المخالف إلا ما نُسب إلى الشيخ الصدوق في المقنع والفقيه، على أنَّ نسبة الخلاف اليه في المقنع محلُّ تشكيك، ولا يبعد أنَّ مبناه في المقنع هو مبنى المشهور.

 

فشهرةُ العمل إنْ لم تكن أجدر بالترجيح من الأكثريَّة فإنَّ الأكثريَّة في العدد ليست بأولى بالترجيح منها، وأمَّا دعوى أنَّ روايات التنصيف الأكثرَ عدداً تبلغ حدَّ التواتر فهي دعوى يصعبُ الاطمئنان بصحَّتها، إذ أنَّ ورود ما يُنافي مفادَ الروايات الكثيرة يسترعي الحاجة إلى عددٍ أكبر ممَّا عليه عدد روايات التنصيف حتى يصحَّ وصفُها بالمتواترة، إذ أنَّ الاحتمال بالمطابقة الناشئ عن كلِّ رواية يكون أضعف عندما يكون لهذه الرواية ما يُناقضها، ولهذا يُستعاض عن ضعف الاحتمال الناتج عن كلِّ رواية بمضاعفة العدد، على أنَّ غاية ما يُنتجُه التواتر هو القطع او الاطمئنان بالصدور وليس ذلك مورداً للإشكال في المقام فإنَّ من المُحرَز صدورُ روايات التنصيف في الجملة، والإشكال إنَّما هو من جهة صدورها لبيان الحكم الواقعي.

 

ترجيح روايات التنصيف بشهرة العمل وجوابه:

الوجه الثاني: هي دعوى شهرة العمل بروايات التنصيف عند القدماء كما أفاد ذلك صاحب الرياض، والشهرة من المرجِّحات المنصوصة لقوله (ع) في مرفوعة زرارة: "خذ بما اشتهر بين أصحابك ودعِ الشاذِّ النادر"(10).

 

وكذلك قوله (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: "يُنظر إلى ما كان من روايتِهم عنَّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيُوخذُ به من حكمنا ويُترك الشاذُّ الذي ليس بمشهورٍ عند أصحابك"(11).

 

إلا أنَّ ما يرد على هذه الدعوى هو أنَّ الشهرة ليست مسلَّمة في جانب روايات التنصيف، فإنَّ الشيخ المفيد والطوسي والسيد المرتضى وابن حمزة والقاضي يذهبون إلى استحقاق الزوجة لتمام المهر المسمَّى بموت الزوج قبل الدخول بل ادَّعى السيد المرتضى وكذلك ابن زهرة الإجماع على ذلك، وأفاد صاحب الجواهر أنَّه لم يجد مخالفاً الا ما يُحكى عن الشيخ الصدوق، فدعوى شهرة عمل القدماء بروايات التنصيف ليست مُحرَزة، نعم قد يكون المقصود من القدماء هم الرواة الذين رووا عن الأئمة (ع) روايات التنصيف، وذلك بأنْ يُستظهر من روايتهم لها الإفتاء بمضمونها، وهم كثيرون ومنهم زراة ومحمد بن مسلم وعبيد بن زرارة وسماعة والحسن الصيقل وأبو العباس البقباق وغيرهم مضافاً إلى الشيخ الكليني والشيخ الصدوق حيث إنَّهما لم يُوردا في كتابيهما الكافي والفقيه إلا رواياتِ التنصيف إلا أنَّ ما يردُ على ذلك هو أنَّ مجرَّد روايتهم لما يقتضي التنصيف لا يُوجب الجزم أنَّ ذلك هو ما يُفتون به، فكثيرًا ما ينقل الرواة عن الأئمة (ع) أكثر من رواية، كلُّ واحدةٍ منها يقتضي خلاف ماتقتضيه الأخرى، نعم يصحُّ نسبة الإفتاء بالتنصيف للشيخ الصدوق، وذلك لأنَّه أورد فيه روايات التنصيف ولم يُورد فيه روايات الاستقرار لتمام المهر، وذلك يقتضي استظهار إفتائه بمضمون روايات التنصيف نظراً لكونه قد أخبر عن التزامِه بذلك في مقدَّمة كتابه، وأمَّا الكليني فلم يلتزم ظاهرًا بذلك، ولو سُلِّم أنَّ كلاً منهما قد التزم بذلك إلا أنَّ من غير المُتاح إحراز التزام الرواة كزرارة ومحمد بن مسلم بذلك، على أنَّ دعوى الاشتهار لمجرَّد التزام هذا العدد من الرواة فيه مجازفة واضحة، فإنَّ هذا العدد من فقهاء الرواة يسيرٌ في مقابل مجموع فقهاء الرواة، ودعوى استكشاف رأي البقيةِ من رأي هذا العددِ فيه مجازفةٌ واضحة.

 

هذا من جهة الصغرى، وأمَّا الكبرى -وهي أنَّ الشهرة من مرجِّحات باب التعارض- فهي غير تامَّةٍ أيضاً، فما جاء في المرفوعة -بعد تجاوز السند- من ترجيح ما اشتهر ليس مورده الأخبار المتكافئة الواجدة لشرائط الحجية لولا التعارض بل أنَّ مورده إنَّما هو تعارض الحجَّة مع اللاحجَّة، وذلك بقرينة قوله "ودع الشاذِّ النادر" فإنَّ جعل المشتهر بين الأصحاب في مقابل الشاذِّ النادر قرينةٌ على أنَّ المراد من المشتهر هو الظاهر البيِّن من السنَّة في مقابل المُحرَز منافاته للسنَّة الشريفة وأين هذا من محلِّ البحث فإنَّه لو سُلِّم اشتهار العمل برواياتِ التننصيف فإنَّ ما يقابل ذلك ليس من الشاذِّ النادر كما اتَّضح ذلك من مذهب قدماء الفقهاء، وكذلك فإنَّ مَن روى ما يقتضي استحقاق الزوجة لتمام المهر لا يصحُّ توصيف عددهم بالشاذِّ النادر.

 

وهكذا الحال بالنسبة لمقبولة عمر بن حنظلة فإنَّ المقابلة بين المجمع عليه بين الأصحاب وبين الشاذِّ من مقابلة الحجَّة باللاحجَّة، وذلك لأنَّ المراد من المجمع عليه في الرواية هو السنَّة القطعيَّة بقرينة ما أفاده الإمام (ع) بعد ذلك: "وانَّما الامور ثلاثة، أمرٌ بيِّنٌ رشدُه فيُتَّبع، وأمرٌ بيِّنٌ غيِّه فيُجتَنب، وأمرٌ مشكلٌ يُردُّ حكمُه إلى الله عز وجل والى الرسول"(12).

 

فإنَّ الظاهر الواضح من هذا التعقيب هو إرادة بيان منشأ الأمر بالأخذ بالمجمع عليه وأنَّه من البيِّن الرشد الواجب اتباعه، ومعنى البيِّن الرشد هو المُحرَز كونه من السنَّة، فالمقابل للبيِّن الرُشد الذي وصفه الإمام (ع) بالشاذِّ، وهو إما البيِّنُ الغيِّ الذي ليس من السنَّة قطعاً أو المشكل الساقط هو أيضاً عن الحجيَّة بنفسه بقطع النظر عن وقوعِه طرفاً في المعارضة، وعلى كلا التقديرين تكون المقابلة بين المجمعِ عليه وبين الشاذِّ من تقابل الحجَّة باللاحجَّة، فكما أنَّ بيِّنَ الغيِّ لا حجيَّة له في نفسه فكذلك المُشكِل، ومِن الواضح عدم صحَّة توصيف الروايات المقابلة لروايات التنصيف بالبيِّنة الغيِّ ولا بالمشكلة، وذلك لواجديتها لشرائط الحجيَّة في نفسها لولا المعارضة بخلاف المشكِل من الروايات فإنَّها فاقدة لشرائط الحجيَّة حتى لولم تقع طرفًا في المعارضة.

 

ترجيح روايات التنصيف بالصفات وجوابه:

الوجه الثالث: الترجيح لروايات التنصيف، لأنَّ رواتها أعدل وأورع وأفقه وأصدق من رواة الطائفة الثانية، والترجيح بصفات الراوي من المرجِّحات المنصوصة كما هو مقتضى مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة.

 

والجواب انَّه لو سُلِّمت الصغرى فإنَّ الكبرى غير مسلَّمة، إذ الترجيح بصفات الرواي وإنْ نصَّت عليه المرفوعة إلا أنَّها ضعيفة السند بل هي شديدة الضعف، وأمَّا المقبولة فكانت بصدد ما يترجَّح به حكما الحاكمين في فرض الاختلاف، ولم تكن بصدد بيان ما يقتضي ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى في فرض التعارض بين مؤدَّاهما، فالوارد في المقبولة هو قوله (ع): "الحكم ما حكم به أعدلُهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يُلتفت إلى ما يَحكمُ به الاخر"(13).

 

تعيُّن الترجيح لروايات التنصيف بمخالفة العامَّة:

الوجه الرابع: الترجيح بمخالفة العامَّة، فإنَّ رواياتِ التنصيف مخالفةٌ لفتوى العامَّة، وأمَّا روايات استقرار تمام المهر للزوجة بموت الزوج قبل الدخول فهو مبنى أكثر العامَّة.

 

وهذا الوجه هو المتعيَّن لتماميَّته صغرىً وكبرىً، أمَّا الصغرى فلثبوت أنَّ مذهب العامَّة جارٍ على استقرار تمام المهر للزوجة بموت الزوج قبل الدخول، فذلك إنْ لم يكن مورداً لإجماعهم فإنَّ ممَّا لا ريب فيه أنَّه مذهبُ أكثرهم، نعم وقع الخلاف بينهم فيما لو مات قبل الدخول وهو لم يُسمِّ لها مهراً، وأمَّا في فرض تسمية المهر -والذي هو مورد البحث- فجلُّهم أو كلُّهم ذهب إلى استحقاق الزوجة لتمام المهر. وأما الكبرى فلا ريب في أنَّ الترجيح بمخالفة العامَّة من المرجِّحات المنصوصة.

 

مما يؤيِّد ترجيح روايات التنصيف بالتقية:

ويمكن تأييد البناء على صدور روايات الاستقرار لتمام المهر تقيةً بمعتبرة منصور بن حازم قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): رجلٌ تزوَّج امرأةً وسمَّى لها صداقاً ثم مات عنها ولم يدخل بها؟ قال: لها المهر كاملاً، ولها الميراث، قلتُ: فإنَّهم رووا عنك انَّ لها نصف المهر؟ قال: لا يحفظون عنِّي، إنَّما ذلك للمطلَّقة"(14).

 

فإنَّ احتمال غفلة جميع رواة التنصيف عن مراد الإمام (ع) وعدم حفظهم في غاية البُعد خصوصاً مع ملاحظة كثرتهم وما عُرف عنهم من التميُّز بالفقه والحفظ والتثبُّت مثل زرارة بن أعين ومحمَّد بن مسلم والحلبي وغيرهم من رواة التنصيف، لذلك يتعيَّن صدور قوله (ع): "لا يحفظون عنِّي" تقيةً، فيكون ذلك قرينةً ظاهرةً على أنَّ جوابه لمنصور بن حازم بأنَّ الزوجة تستحقُّ تمام المهر بموت زوجِها قبل الدخول، يتعيَّن صدور هذا الجواب منه تقيةً.

 

الإشكال بموافقة الكتاب وجوابه:

وأمَّا ما قد يُقال من أنَّ الترجيح بمخالفة العامَّة لا تصلُ النوبة اليه إلا بعد فقدان المرجِّح بموافقة الكتاب المجيد، وحيث إنَّ روايات الاستقرار لتمام المهر بموت الزوج قبل الدخول موافقة لإطلاق قوله تعالى: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾(15) لذلك يتعيَّن ترجيح روايات الاستقرار على روايات التنصيف وإنْ كانت روايات الاستقرار موافقة للعامَّة.

 

فالجواب أنَّ الترجيح بمخالفة العامة وإنْ كان متأخراً رتبةً عن الترجيح بموافقة الكتاب المجيد إلا أنَّ انعقاد الظهور الجدِّي للآية في الإطلاق غيرُ محرَزٍ، فالظهور البدوي في الإطلاق للآية المباركة لو كان مسلَّماً إلا أنَّ الحجَّة من الظهور إنَّما هو المستقرُّ الكاشفُ عن الإرادة الجدِّيَّة، وهو ليس كذلك في الآيةِ المباركة.

 

وبيان ذلك: إنَّ إطلاق الآية المباركة مقيَّدٌ قطعاً بالدخول في فرض الطلاق، فمتى ما طلَّق الرجلُ زوجته قبل الدخول فإنَّها لا تستحق عليه أكثر من نصف المهر المسمَّى كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ وهنا يُمكن أنْ يدَّعى ظهور الآية في أنَّ المناط في تحديد ما تستحقُّه الزوجة من تمام المهر أو نصف المهر المسمَّى هو الدخول وعدمه، فمتى ما انتهت العُلقة بينهما بطلاقٍ أو موت فإنْ كان قد دخل بها كان لها تمام المهر، وإنْ لم يكن قد دخل بها فلها نصفُ المهر، فالمدارُ في استحقاق التمام أو النصف هو الدخول وعدمه، فذلك هو موضوع إستقرار تمام المهر أو نصفه بمقتضى ظهور الآية، فيكون إطلاق الأمر بإعطاء النساء صدقاتهن مقيَّد بالدخول في الموردين أعني الطلاق والموت.

 

ومنشأ الاستظهار أنَّ العرف يفهم من الآية انَّ الدخول هو تمام الموضوع في استقرار تمام المهر طلَّق أو لم يطلِّق، وإذا كان قد طلَّق دون أنْ يتحقَّق منه الدخول فإنَّ موضوع الاستقرار لتمام المهر منتفٍ عنه لا لخصوصيَّةٍ في الطلاق بل لأنَّه لم يدخل بزوجته، وعليه فإنَّ من مات ولم يدخل بزوجته فإنَّها كذلك لا تستحقُّ عليه تمام المهر لانتفاء موضوع الأستقرار لتمام المهر عنه وهو الدخول.

 

ولعلَّ ممَّا يؤيِّد ذلك هو ما ورد في العديد من الروايات من أنَّ مناط وجوب المهر هو الدخول، فمن ذلك ما ورد في معتبرة يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (ع)، قال: سمعتُه يقول: "لا يُوجب المهر الا الوقاع في الفرج"(16).

 

وما ورد في معتبرة محمَّد بن مسلم قال: سالتُ أبا جعفر (ع): متى يجب المهر؟ قال: إذا دخل بها"(17).

 

وكذلك معتبرة علاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (ع)، قال: سالتُه عن الرجل والمراة، متى يجب عليهما الغسل؟ قال: اذا أدخله وجب الغسل والمهر والرجم"(18).

 

فإنْ تمَّ هذا الاستظهار من آية الطلاق فإنَّ آية: ﴿وآتوا النساء﴾ لا تكون ظاهرة في إرادة الإطلاق بالإضافة إلى موت الزوج قبل الدخول كماهي كذلك بالإضافة إلى الطلاق قبل الدخول، فلا تكون صالحة لترجيح روايات الاستقرار لتمام المهر بالموت قبل الدخول. بل تكون آية الطلاق مرجِّحاً آخر لروايات التنصيف مضافاً إلى مخالفة العامَّة وإنْ لم يتم القبول بظهور آية الطلاق في أنَّ مناط الاستقرار لتمام المهر وعدمه هو الدخول وعدمه فلا أقلَّ من صلاحيتها للمنع من الإطمئنان بظهور آية: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء﴾ في الإطلاق، وحنئذٍ لا تكون صالحة للترجيح.

 

وبتعبير آخر: إنَّ آية الطلاق وقوَّة احتمالها إناطة الاستقرار لتمام المهر بالدخول تُحدثُ تشويشاً على ظهور آية "وآتوا النساء" في الإطلاق، ومع عدم وضوحها في الإطلاق لا تكونُ صالحة للرجوع في مقام الترجيح لطائفةٍ على طائفةٍ أخرى من الروايات متكاثرة العدد واضحة الدلالة، ورواتها من فقهاء وأجلاء الرواة، وهي في ذات الوقت مناسبة لما هو محتملٌ قوياً لمفاد آية الطلاق ومخالفة لما عليه العامَّة.

 

هذا مضافاً إلى أنَّ روايات الباب من الطائفتين متَّفقة على أنَّ الزوجة إذا ماتت قبل الدخول بها فإنَّها لا تستحقُّ إلا نصف المهر المسمَّى رغم أنَّ إطلاق آية: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء﴾ لو كان مراداً جدَّاً لما كان فرقٌ بين موت الزوج قبل الدخول أوموت الزوجة، فليكن ذلك مؤيِّداً آخر.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الصحيح هو عدمُ استحقاق الزوجة أكثر من نصف المهر بموت الزوج قبل الدخول، ومع ذلك فالأحوط هو التصالح مع الورثة على النصف الآخر.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج39 / ص326.

2- المقنع -الشيخ الصدوق- ص358.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص326.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص328.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص329.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص315.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص332.

8- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص332.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص331.

10- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج17 / ص303.

11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص106.

12- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص157.

13- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص106.

14- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج39 / ص328.

15- سورة النساء / 4.

16- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص320.

17- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص320.

18- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص320.