عصمة أئمةِ أهلِ البيت (ع) في القرونِ الثلاثةِ الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
المسألة:
ثمة من يدَّعي أنَّ اعتقاد الشيعة الاثني عشريَّة في عصمة الأئمة (ع) طارئ وأنَّ الشيعة المعاصرين للأئمة (ع) وعلى امتداد ثلاثة قرون لم يكونوا يعتقدون بعصمة الأئمة (ع)، وغاية ما يعتقدونه فيهم أنَّهم علماءُ أبرار وأنَّ الدين يُؤخذ عنهم كما يأخذُ أبناءُ العامَّة دينَهم من أئمة مذاهبِهم وكما يأخذُ الشيعة في عصر الغيبة دينَهم من فقهائهم. فالاعتقادُ بعصمة الأئمة (ع) شيءٌ استحدثه الشيعة في القرون المتأخرة عن عصر الأئمة (ع) ولم يكن معروفًا في عصرهم (ع).
الجواب:
هذه الدعوى لا تصحُّ ولا تقومُ على أساسٍ علميٍّ، وهي من الوهن بمستوىً لا يسترعي تفنيدها جهدًا يُذكر، فإنَّ نظرةً فاحصةً ومتأنِّية بل وعابرة في أحوال الشيعة الإماميَّة وأحوال الرواة عن الأئمة (ع) وكيفيَّة تعاطيهم مع أقوال الأئمة (ع) وأوامرهم تُفضي إلى الإذعان والجزم بأنَّ ماعليه الشيعة الإماميَّة هو الاعتقاد بأنَّ الأئمة الاثني عشر هم الهداة بعد الرسول (ص) وأنَّ طاعتهم في كلِّ ما يأمرون وينهون مفروضة وأنَّ قولهم صدقٌ وحقٌّ ودين، فهذا المقدار يُؤمنُ به كلُّ الشيعة الإمامية الاثني عشريَّة في عصر الأئمة (ع) وهو مساوقٌ لمعنى العصمة في الجملة بقطع النظر عن التسمية والاصطلاح وبقطع النظر عن التفاصيل.
ولذلك تجدُ الشيعة المعاصرين للأئمة عند متابعة أحوالِهم أنَّه لو أجمع علماءُ المذاهب بل ومع غيرهم من علماء العامَّة على حكمِ مسألةٍ وثبتَ لهم أنَّ الإمام (ع) يقولُ بغير ما يقولون فإنَّهم يبنون على صوابيَّة ما أفاده الإمام (ع) وأنَّ احتمال الخطأ لا يتطرَّق إلى ما يقولُه الإمام (ع)، وكذلك لو استفاضَ عن ثقاة العامَّة حديثٌ ينسبونه إلى النبيِّ (ص) وتصدَّى الإمامُ (ع) إلى تكذيبه أو تخطئة الناقلين له في الفهم فإنَّ الشيعةَ منذُ العهد الأول لا يتردَّدون في اعتماد قول الإمام (ع) والإعراض عن كلِّ ما ينقلُه رواةُ العامَّة حتى وإنْ وقفوا على وثاقتِهم وتثبُّتِهم في النقل، وكذلك لو تصدَّى الإمامُ لتفسير آيةٍ وثبت لهم ذلك فإنَّهم يقطعون بأنَّ تفسير الإمام (ع) هو المطابِق للواقع، ولذلك تجدُهم يحتجُّون به ويدينون اللهَ تعالى به ويستنبطون منه الأحكام والمُعتقدات ولا يحتملون ولو بنسبةٍ ضئيلة أنَّ الأمام (ع) أخطأ في فهمِه للآية، رغم أنَّ كلَّ ذلك من مظانِّ الخطأ والاشتباه والغفلة، فلو لم يكونوا يعتقدون بعصمتِهم لما ساغ لهم الاعتقادُ بصحَّةِ كلِّ ما يصدرُ عنهم والإذعان الجازم بأنَّه من الدين، وكذلك تجدُ الشيعة حين يعتمدُ الإمام (ع) موقفًا في مختلف القضايا العامَّة أو الجزئية فإنَّهم يعتقدون بأنَّ هذا الموقف هو الصواب وانَّ كلَّ موقفٍ مناقضٍ لموقفِه فهو باطل.
ومن ذلك يتضح أنَّ اعتقادُ الشيعة في أئمتِهم (ع) ليس كاعتقاد العامَّة في علمائهم ورواتِهم، فإنَّ الواضحَ من سيرة أبناءِ العامَّة أنَّهم يرونَ في علمائهم وأئمة مذاهبِهم بل وفي الصحابة والتابعين أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُؤخذُ منه ويردُّ عليه وأنَّه قد يشتبهُ في الفتوى أو النقل وقد يُخطأ الصواب فإنْ أخطأ فله أجرٌ وإنْ أصاب فله أجران، ولا يرون غضاضةً في عالِمهم ومَن يعتمدون قولَه أن يعدِلَ عن رأيٍ كان قد تبنَّاه، ولذلك تعارفَ بين الشافعيَّة التعبير بقال الشافعي في القديم وقال الشافعي في الجديد، وتعارف بين الأحناف أنْ يكون لأبي حنيفة قولٌ ولأبي يوسُفَ أو غيره من كبار تلامذتِه قولٌ آخر وهكذا هو الشأن عند سائر أتباع أئمة المذاهب الفقهيَّة بل والعقائدية، فالمعروفُ بينهم أنَّ أبا الحسن الأشعري مثلًا كان له مذهبٌ في العقيدة ثم تحوَّل منه إلى مذهبٍ آخر، فهذا ما يعتقده العامَّة في علمائهم وأئمة مذاهبهم بل وفي الصحابة والتابعين، وكذلك يعتقدُ الشيعة في علمائهم وفقهائهم فهم وإن كانوا يأخذون أحكام الشريعة عنهم لكنهم يعتقدون أنَّهم يُخطئون ويُصيبون وأنَّ أحدهم قد يتبنَّى رأيًا في مسألةٍ ثم يعدل عن ذلك الرأى إلى رأيٍ آخر ولا يرونَ غضاضةً في ذلك.
وأما اعتقادهم في أئمتهم (ع) فمختلفٌ عن ذلك تمامًا، فهم يعتقدون مثلًا أنَّ ما ثبت من تفسيرهم للقرآن حقٌ لا يشوبُه باطل ولا يتطرَّق إليه وهمٌ أو خطأٌ في الفهم، ويعتقدون فيهم أنَّ كلَّ حكم يتصدَّون لبيانه ولم يصدر عن تقيةٍ فهو حكمُ الله الواقعي وأنَّهم لم يخطئوا في بيانه ولا في تلقِّيه وفهمِه من القرآن أو السنَّة التي يعتقدون أنَّها وصلت إليهم كاملةً غير منقوصة، ويعتقدون فيهم أنَّ كلَّ ما ينسبونه للدين فهو من الدين واقعًا وأنَّهم لم يُخطئوا في نسبتهم له وأنَّهم قطُ لم ينطقوا في ذلك عن جهلٍ أو نسيانٍ أو ذهولٍ وغفلةٍ أو قصورٍ في الفهم. وهذا هو معنى اعتقادِهم بعصمتهم في الجملة، ولا نقولُ ذلك جزافًا بل إنَّ نظرةً فاحصة ومتأنيِّة بل وعابرة في أحوال الشيعة وأحوال الرواة وأصحاب الأئمة (ع) وكيفية تعاطيهم مع أقوال الأئمة (ع) ومواقفهم يُفضي إلى الإذعان والجزم بما ذكرناه من اعتقادهم بعصمة الأئمة (ع) في الجملة، ومما يؤشِّر إلى ذلك بجلاء هو اعتقادهم بإمامة الإمام الجواد (ع) وأنَّ ما ينسبُه إلى الدين فهو حقٌّ رغم أنَّ عمره حين تسلُّمِه للإمامة لم يتجاوز الثامنة، وكذلك هو اعتقادهم في إمامة الإمام الهادي (ع) والذي لم يتجاوز عمره العاشرة حين تسلَّم زمام الإمامة الدينيَّة للشيعة، وكذلك هو الشأن في اعتقادهم بإمامة الإمام المهدي (ع) والذي لم يتجاوز السادسة حين اضطلع بدور الإمامة، فهؤلاءِ الأئمة الثلاثة كانوا كما كان سائر الأئمة (ع) يُفسِّرون القرآن ويُبينون تفاصيل الأحكام الشرعيَّة ويُجيبون على تساؤلات الناس في جزئيات المسائل الاعتقاديَّة وكان الشيعة -وفيهم العلماء والرواة وفيهم مَن عاصر الصادق والكاظم (ع)- يُذعنون إلى ما يصدرُ عن هؤلاء الأئمة (ع) دون أن يتطرَّق إليهم شكٌّ في أنَّهم قد أخطأوا في الفهم أو أنَّهم لا يُحيطون علمًا بما يقولون أو فاتهم من الحكمةِ والصواب ما يفوتُ العلماء من ذوي الأسنان فضلًا عمَّن هم في مثل سنِّهم. وهذا مؤشِّر واضحٌ وجليٌّ يُؤكد اعتقاد الشيعة في عصمة أئمتهم منذُ العهد الأول وإلا فلا مُسوِّغ لإعتقادهم بإمامة هؤلاء الأئمة الثلاثة وأنَّ ما يقولونه في مختلف الشئون الدينيَّة حقٌّ وصدقٌّ ودين، رغم أنَّ هذه الشئون هي مزلَّةُ الأقدام ومظنَّة الخطأ، فلماذا يعتقدُ الشيعة المعاصرون لهؤلاء الأئمة الثلاثة أنَّ كلَّ ما يصدر عنهم في مختلف القضايا الدينيَّة حقٌّ وصدقٌ ودينٌ لولا ايمانهم بعصمتِهم، إذ لو كانوا غيرُ مؤمنين بعصمتهم لاحتملوا أنَّهم قد أخطأوا في بعض ما يقولون ويشرحون ولما ساغ لهم الاحتجاج بأقوالهم والإذعان لهم والانقياد لأوامرهم واعتبارهم حجج الله عليهم على خلقه وأنَّ طاعتهم مفروضة رغم أنَّهم كانوا في عمر الصبى وكانوا يحتجُّون على خصومهم بأنَّ هؤلاء الأئمة الثلاثة مثلهم مثل عيسى ابن مريم الذي علَّمه الله الكتاب في المهد ومثل يحيى بن زكريا الذي آتاه اللهُ الحكمَ صبيا.
وخلاصة القول إنَّ دعوى عدم اعتقاد الشيعة الإماميَّة في القرون الثلاثة الأولى بعصمة الأئمة (ع) لمجرَّد أنَّ هذا المصطلح لم يكن شائعًا في عصرهم كشيوعه في العصور المتأخِّرة هذه الدعوى في غاية الوهن فإنَّ مناط النفي والإثبات ليس هو شيوع هذا المصطلح وعدم شيوعه بل المناط هو ملاحظة واقع ما عليه الشيعة من اعتقادٍ في أئمتهم (ع) فحيثُ إنَّ المُحرَز جزمًا انَّ عامَّتهم كانوا يعتقدون بأنَّ الأئمة الإثني عشر (ع) هم الهداة بعد رسول الله (ع) وأنَّ كلَّ ما يصدرُ عنهم في مختلف الشئون الدينيَّة فهو حقٌّ وصدقٌ ودين دون أنْ ينتابهم في ذلك أدنى شكٍّ أو ارتياب فهذا وحده كافٍ للتثبُّت من أنَّ عامَّة الشيعة كانوا معتقدين بعصمة الأئمة (ع) حتى لو سلَّمنا انَّهم لم يكونوا يتداولون هذا المصطلح في أدبياتهم. هذا أولًا
وثانيًا: إنَّ واحدًا من وسائل التثبُّت ممَّا كان عليه عامَّة الشيعة الإماميَّة من اعتقادٍ في أئمتهم هو مراجعة الروايات التي كان يتناقلُها رواتُهم وثقاتهم ويدونونها في مدوَّناتهم وأصولهم ويتداولونها في محافلهم ويستجيز الرواة روايتها ونقلها عن شيوخهم، إنَّ مَن يُراجع هذه الروايات يقفُ ليس على العشرات بل المئات من الروايات المتصدِّية لبيان ما عليه أئمة أهل البيت (ع) من كمالاتٍ، وهذه الكمالات المنصوصة بعضُها مُستلزمةٌ بنحو اللزوم البيِّن لعصمتِهم وبعضُها مستلزمةٌ لوجدانهم لما يفوقُ ملكة العصمة بمراتب.
ولولا خشيةُ الإطالة لاستعرضتُ جملةً وافرةً من هذه الروايات إلا أنِّي سوف أستعرضُ عددًا من عناوين أبواب هذه الروايات والتي لن يجدَ الباحثُ عناءً يُذكر في الوقوف عليها في كتب الحديث مثل كتاب الكافي وكتب الشيخ الصدوق وغيرها من المجاميع الروائية.
فمن ذلك -مضافًا إلى ما ورد في بيان ما نزل فيهم من الآيات كآية التطهير- باب فرض طاعة الأئمة وأنَّهم الأوصياء وأن طاعتهم بعد معرفتهم على حدِّ طاعة الرسول (ص) وباب أنَّ الأئمة شهداءُ الله على خلقه، وباب أنَّ الأئمة هم الهداة، وباب أنَّ الأئمة هم ولاة أمر الله وخزنة علمه في سمائه أرضه وأنَّهم عيبةُ وحيِ الله وتراجمةُ وحيِّ الله والقائمون بذلك، وباب أنَّ الأئمة هم خلفاء الله في أرضه وأبوابه التي منه يُؤتى، وباب أنَّ الأئمة أركانُ الأرض وأنَّ المتعقِّب عليهم في شيءٍ من أحكام الله كالمتعقِّب على الله ورسوله (ص) والراد عليهم في صغيرةٍ أو كبيرة على حدِّ الشرك بالله، وبابُ ما جاء في وصف الإمام وقد اشتمل هذا الباب على أنَّ الإمام مطهَّر من الذنوب مبرأٌ من العيوب ليس له مثل ولا نظير أودع اللهُ قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهامًا، فلم يعْيَ بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصومٌ مؤيَّد، موفَّق مسدَّد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصُّه الله بذلك ليكون حجَّته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وباب أنَّ الأئمة هم الراسخون في العلم يعلمون بالكتاب كلِّه تنزيله وتأويله، وباب أنَّ الله قد اصطفاهم وأورثهم كتابه، وباب أنَّ الأئمة هم شجرة النبوَّة ومعدن العلم وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، وباب أنَّ الأئمة ورثوا علم النبيِّ (ص) وجميع الأنبياء، وباب أنَّ الأئمة (ع) عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجل وأنَّهم يعرفونها، وباب ما أُعطيَ الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم، وباب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء، وباب أنَّ الأئمة (ع) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل، وباب أنَّ الأئمة (ع) مُحدَّثون مُفهَّمون، وباب الروح التي يُسدِّدُ الله بها الأئمة (ع) وغيرها من الأبواب الكثيرة والتي يشتمل كلُّ بابٍ منها على الروايتين والثلاث والخمس والعشر والعشرين والثلاثين والأربعين والأكثر والأقل، وعند الوقوف على رواياتِ هذه الأبواب نجدُ أنَّها واضحة الدلالة في التصدِّي للإخبار عن وجدانهم لملكة العصمة، فهي إمَّا أن تكون صريحةً في الإخبار عن وجدانِهم لملَكة العصمة أو تكون متضمِّنة للإخبار عن وجدان أئمة أهل البيت (ع) لملكاتٍ هي ملازمة بنحو اللزوم البيِّن للعصمة أو ملازمة لوجدانِهم لملكاتٍ ومقامات تفوق ملكة العصمة بمراتب، وهذه الروايات إنَّما وصلتنا من طرق رواة الشيعة وثقاتهم والذين يمتدُّ تاريخ وجودهم بامتداد القرون الثلاثة الأولى فهي منقولة عن المعاصرين لعليٍّ والحسن والحسين والسجاد والباقر الصادق (ع) إلى الإمام المهديِّ (ع) وهي مُسندَةٌ عنهم عليهم السلام، فكيف يُجازفُ مجازِفٌ فيدَّعي أنَّ الشيعة في القرون الأولى لم تكن تعتقدُ العصمة لأئمة أهل البيت (ع)!! فهل يأخذُ الشيعة دينَهم ومعتقداتهم إلا عن أئمة أهل البيت (ع)، فإذا كان أهل البيت (ع) قد تصدَّوا للتأكيد على أنَّهم معصومون ونقلتْ ذلك عنهم رواةُ الشيعة وثقاتُهم والمعوَّلُ عليهم لدى الشيعة في التعريف بمذهب أهل البيت (ع) فهل يكون بعد ذلك من شكٍّ في أنَّهم ملتزمون بما ثبت لهم صدورُه عن أهل البيت (ع) فكما أنَّ الشيعة تعتمدُ هؤلاء الرواة في التعرُّف على فقه أهل البيت (ع) كذلك كانوا يعتمدونهم في التعرُّف على المعتقدات التي تصدَّى أهلُ البيت (ع) لبيانِها لهم وتكليفهم بنقلها إليهم، ومِن هؤلاء الكرام وصَلنا مذهبُ أهل البيت (ع) في الفقه والعقيدة والتفسير.
وأذكر في المقام عددًا من التنبيهات إتمامًا للجواب عن الشبهة المذكورة:
التنبيه الأول: استشهد صاحبُ الشبهة على دعواه عدم اعتقاد الشيعة في عصر الأئمة (ع) بالعصمة استَشهدَ بما نُقل في التأريخ من اعتراض بعض الشيعة على الإمام الحسن (ع) لقبوله بالصلح، وذكر أنَّ المعترضين هم خواصُّ الشيعة وحواريو الإمام الحسن (ع) وكانت لغتُهم في مقام الاعتراض مُذلَّة على حدِّ تعبيره، فلو كانوا يعتقدون بعصمة الإمام (ع) لما ساغ لهم الاعتراض على قبولِه للصلح.
والجواب عن ذلك هو أنَّ الإعتراض الذي وقع من بعض الشيعة لو قبلنا بصدوره وقطعنا النظر عن التحفُّظ على سنده فإنَّ المقدار المنقول لا يُعبِّر عن أكثر من مبادرات شخصيَّة من أفرادٍ محدودين لا يتجاوزُ بل لا يبلغُ عددُهم أصابع الكفِّ، فلم يكن الاعتراض هو الحالة العامَّة لدى الشيعة حتى يسوغَ الاستشهادُ بها على دعوى عدم اعتقادِهم بعصمة الإمام (ع) فلا يليقُ بمقتضيات الأمانة العلميَّة المبالغة في عرض هذه القضية وتضخيمها بالخطابات الإنشائيَّة والحال انَّها لم تكن تُمثِّل أكثر من مواقف فرديَّة لبعض أفراد الشيعة وليكن بعضُهم وليس كلهم من خواصِّ الشيعة هذا أولًا
وثانيًا: إنَّ اعتراض هؤلاء الأفراد لا يُعبِّر بالضرورة عن عدم اعتقادِهم بعصمة الإمام (ع) فقد يكونُ ناشئًا عن الحماس والانفعال والذي يُخرِجُ الإنسان في كثيرٍ من الأحيان عن صوابه ثم لا يلبثُ أنْ يثوبَ إلى رُشده إنْ كان عاقلًا، ويُؤكِّدُ ذلك أنَّ التعبير الذي خاطبوا به الإمام (ع) لم يكن يليقُ بهم أنْ يُخاطبوا به رجلًا من سائر الناس فكيف بمثل سبط الرسول (ص) فإذا كانوا لا يُؤمنون بعصمتِه فليرعوا فيه حقَّ الإيمان وحقَّ القرابة القريبةِ من رسول الله (ص) وحقَّ الإمامة التي لا يُنكر مثيرُ الشبهة أنَّهم معتقدون للإمام الحسن (ع) بها، إذن ما الذي دفعهم لمخاطبته بهذا الخطاب المجرَّد من أبسط مقتضيات اللياقةِ والأدب؟! ليس لذلك من مبرِّر سوى مشاعر الغيظ والأجواء السياسية الضاغطة التي جنحتْ بصوابهم.
فالخطابُ المذكورُ لا يُعبِّر عن عدم اعتقادهم بعصمة الإمام (ع)، وقد وقع نظير هذا الإعتراض من عدد وازنٍ من الصحابة الذين لا نشكُّ في إخلاص بعضِهم حينما أقدم الرسولُ (ص) على القبول بصلح الحديبيَّة، ووقع نظيرُه من عامَّة الأنصار من الأوس والخزرج -وفيهم الأجلاء- حين قسَّم الرسول (ص) غنائمَ غزوة حُنين على المؤلَّفة قلوبهم وحرَمَ جميع الأنصار منها وصدَر منهم ما يُمكن وصفُه بالتجاوز لمقتضيات الأدب، فهل كان كلُّ هؤلاء يُنكرون عصمةَ النبيِّ (ص)؟!! لمجرَّد اعتراضِهم الناشئ عن دوافع انفعاليَّة؟!.
ثم إنَّنا نجدُ المؤمنين الذين لا شكَّ في ايمانهم بعدلِ الله تعالى وحكمتِه المُطلقة إذا أصابَهم البلاء واشتدَّ عليهم فإنَّهم قد يعترضون على ربِّهم انسياقًا مع مشاعر الأذى والضيق، فهل يُعبِّرُ اعتراضُهم عن الشكِّ فضلًا عن الجحود لعدل الله تعالى وحكمته المطلقة؟!.
وأما الاستشهاد على عدم اعتقاد الشيعة بالعصمة بما وقع للإمام الحسين (ع) بعد نهضته من الإشارة عليه بعدم الخروج على يزيد فجوابُه أنَّه ليس فيمَن أشار عليه بذلك ممَّن يُتوهَّم تشيُّعه إلا السيد محمد بن الحنفية (رحمه الله تعالى) وعبد الله بن عباس (رحمه الله)، والواضح من سياق خطابيهما أنَّ الدافع لهما هو الإشفاقُ والخشية من خذلان أهل الكوفة ولعلَّهما توهَّما أنَّ المورد من موارد عرض المشورة كما كان الصحابةُ يُشيرون على النبيِّ (ص) في قضايا الحرب، فعرضُ المشورة لا يتنافى مع الإيمان بالعصمة، أما عدم اللحاق به بعد أنْ عرفا عزمه على المضيِّ في نهضته فذلك شأنُهما فلم نفترض في كلِّ شيعيٍّ العصمةَ من الخطأ وعدم الضعف عن امتثال أمرِ الله تعالى، على أنَّهما قد يكونان معذورَين فقد كان ابنُ عباس كفيفًا كما قيل.
وأما عبد الله بن جعفر الطيار (رحمه الله) فهو وإنْ كان قد أشار على الإمام الحسين (ع) -كما هو المنقول في التاريخ- بعدم الخروج لذات الدافع الذي ذكرناه إلا أنَّه بعد أنْ عرف عزم الإمام الحسين (ع)على المضيِّ في طريقه دون تردُّد بعث معه ولدَيه وأوصاهما بأنْ يُقتلا دونه وعبَّر بعد بلوغه مقتلهما بين يدي الحسين (ع) عن افتخاره بذلك ورجا أن يكون ذلك معذِّرًا له وتمنَّى لو أنَّه حظي بمقام الاستشهاد بين يدي الحسين (ع).
وأما الاستشهاد بعدم مشاركة بعض الهاشميّين فلا تصحُّ أيضًا إذ إنَّ بعضَهم لم يكونوا من الشيعة جزمًا بل لم يكونوا محبِّين كأولاد عبد الله بن عباس أجداد العباسيين على أنَّهم لو كانوا من الشيعة وكانوا معتقدين بالعصمة فإنَّ ذلك لا يُلازم ضرورة المشاركة والانقياد فإنَّ الإيمان بالشيء لا يُلازم عدم الضعف عن الإمتثال للتكليف، فالكثيرُ من الناس يُؤمنون بالله وباليوم الآخر ولكنَّهم يعصونَ الله تعالى بتركِ فرائضه لضعفِهم وانسياقهم مع رغباتهم وحبِّهم الشديد للعافية.
التنبيه الثاني: إنَّ أحدًا لا يدَّعي أنَّ مسألة العصمة كانت من الوضوح والتبلور بالمستوى الذي آلت إليه بعد ذلك، وهذا الشأن لا تختصُّ به مسألة العصمة، فأكثر القضايا الدينيَّة -الفقهيِّ منها والعقائدي إنْ لم يكن جميعها- كانت كذلك أي بدأ العلم بها غائمًا وغير منضبط ثم أخذت في الوضوح والتبلور شيئًا فشيئًا، ولذلك فوضوحُ الكثير من المسائل العقائديَّة بل والفقهيَّة لدى الناس في زمن الإمام عليٍّ (ع) وزمن الإمامين الحسن والحسين (ع) ليس هو ذاتُه الوضوح في زمن السجَّاد والباقر (ع) ووضوحها في زمن الصادق والكاظم والرضا (ع) ليس هو كوضوحها في زمن الأئمة المتأخِّرين (ع) فإنَّ لتقدُّم الزمن وتراكم المعلومات وتنامي الوعي والنضوج وتفاوت الظروف السياسيَّة والأمنيَّة سعةً وضيقًا دخلًا في تبلور القضايا كما أنَّ لطبيعة المسائل من حيثُ كونها من القضايا التي تعمُّ بها البلوى أو من القضايا الهامشيَّة أو من حيثُ كونها من القضايا ذات الحساسيَّة المذهبيَّة أو السياسيَّة تأثيرًا في تباطئ وسرعة تبلورها، كلُّ هذه العوامل وغيرها ممَّا لا نودُّ الخوض في عرضها أسهم في أنْ يكونَ تنامي المعرفة الدينيَّة يأخذُ مسارًا تدريجيًّا لا يُمكن وصفه بالمُتسارِع، ثم حدثت نقلة نوعيَّة في مُجمل المعارف الدينيَّة بدأت في أواسط الغيبة الصغرى وذلك بعد أنْ تمَّ الجمع لشتات الكثير من المصنَّفات والكتب والأصول الروائيَّة التي دوَّنها المحدِّثون والرواة عن الأئمة (ع) على مدى ما يزيدُ على القرنين والنصف، حينذاك بدأ تصنيف الروايات بحسب موضوعاتها على أبواب متمايزة وصار لكلِّ بابٍ عنوان وأصبح من الميسور الرجوع في كلِّ مسألةٍ إلى الروايات المتَّصلة بها والمتصدِّية لبيانها عندئذٍ بدأ تبلور المسائل في مُختلف المعارف الدينيَّة يأخذا مسارًا تصاعديًّا مُتسارعًا، وكلَّما تقدَّم الزمن وأصبحت الكتب والمصنَّفات أكثر وفرةً وتدواولًا لدى العلماء والمحقِّقين انعكس ذلك على تحديد هوية القضايا الدينيَّة من حيثُ تصنيفها إلى قضايا ضروريَّة قطعيَّة وأخرى نظريَّة اجتهاديَّة وقضايا أخرى قابلة للإثبات الظنِّي وبعضها غير قابلٍ للإثبات.
ومن القضايا التي تعزَّز وضوحُها بعد عصر التصنيف وتأكَّد كونُها من أُمهات القضايا الضروريَّة القطعيَّة نظرًا لوضوح دلالة الروايات عليها وكثرتها هي قضيَّةُ العصمة لأئمة أهل البيت (ع)
فمسألةُ العصمة لأئمة أهل البيت (ع) لم تكن حدسًا ظنيًّا أو قضية اجتهاديَّة تختلفُ فيها الأنظار عند أتباع أئمة أهل البيت (ع) بل هي من القضايا الضروريَّة المنصوص عليها في جملةٍ وافرةٍ من الروايات تفوقُ حدَّ التواتر بمراتب، والاستدلالُ عليها بالقرائن المنطقيَّة والعقليَّة والعقلائيَّة إنَّما هو لتعزيزها وإلزامِ الخصم بها وإلا فهي مُتلقاة يقينًا ممَّن يلزمُنا أخذَ الدين عنهم (ع). نعم هي في بعض تفاصيلها اجتهاديَّة ولكنَّها في مُجملها قضيَّة ضروريَّة.
وبتعبيرٍ آخر: إنَّ أكثر القضايا الدينيَّة التي لا يرتابُ أحدٌ في عدِّها من القضايا الضروريَّة لم تكن في الوضوح كما هي عليه الآن، فالمسلمون في العهد الأول من صدر الدعوة لم يكونوا يعلمون من الإسلام سوى كلمتي التوحيد أعني الشهادتين ثم أخذ النبيُّ (ص) يتدرَّج في بيان معالم الإسلام للمسلمين، فعرض معالم الإسلام من قبل الرسول (ص) جاء تدريجيًّا، وبلورتها وتحديد معالمها جاء تدريجيًّا، واستيعابها كان تدريجيًّا، وانتشارها وشيوعها كان تدريجيًّا أيضًا، فلا يصحُّ نفي الضرورة عن قضيَّةٍ لمجرَّد أنَّها كانت غامضةً أو حتى مجهولةً في بعض الحُقَب.
التنبيه الثالث: ثمة فرقٌ بين مسألتين، يغفلُ أو يتعمَّد البعضُ الخلطَ بينهما:
المسألة الأولى: هي البحث عمَّا هي الأمور التي إذا عرفها الإنسان وآمنَ وأقرَّ بها كان إماميَّا اثني عشريًّا؟
المسألة الثانية: هي البحث عن المعارف التي تُعدُّ من القضايا الضروريَّة في مذهب الإماميَّة الاثني عشريَّة.
فالفرق بين هاتين المسألتين هو تمامًا الفرق بين البحث عمَّا يكفي الإقرار به في تحقُّق الإسلام -فهذه مسألة- وبين ما هي القضايا الضروريَّة والمُسلَّمة في دين الإسلام، وهذه مسألة ثانية، فيُقال عادةً في جواب المسألة الأولى إنَّه يكفي لصيرورة الإنسان مسلمًا الإقرارُ بأنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا (ص) عبدُه ورسولُه والتصديقُ بكلِّ ما جاء به (ص) على اجماله وإنْ جهله ولم يعرف تفاصيله، وأمَّا المسألة الثانية وهي البحث عن القضايا الضروريَّة والمسلَّمة في دين الإسلام فيُمثَّل لها بأنَّ محمدًا خاتمُ النبيِّين والمُرسلين وبأنّه لا ينطقُ عن الهوى، وبأنَّ القرآنَ وحيٌّ من عند الله تعالى، وبأنَّ المعادَ جسمانيٌّ، وبأنَّ الجنَّة والنار حقٌّ وغير ذلك من القضايا المُصنَّفة ضمن القضايا الضروريَّة في الإسلام.
وهذه القضايا رغم تصنيفها ضمن القضايا الضرورية لا يكون الإيمانُ بها شرطًا في تحقُّق الإسلام بمعنى أنَّ أحدًا لو كان مُقرًّا بالشهادتين ومُصدِّقًا بكلِّ ما صدر عن النبيِّ (ص) إجمالًا وكان يجهلُ بهذه القضايا وشبهها فإنَّ ذلك لا يضرُّ بصحَّة إسلامه بل لو كان يُنكرها أو بعضها لجهله بأنَّها قد ثبتت عن النبيِّ (ص) فإنَّه لا يخرج بإنكاره عن الإسلام، نعم لو أنكرها رغم علمِه بأنَّها قد صدرت عن الرسول (ص) فمثلُه غيرُ مصدِّقٍ واقعًا بأنَّ محمدًا رسولُ الله (ص) وبأنَّه صادقٌ في كلِّ ما يقول.
كذلك هو الشأنُ في الفرق بين ما يُعتبر شرطًا في صيرورة الإنسان إماميًّا اثني عشريًّا وبين ما هي القضايا الضروريَّة في المذهب الإماميِّ الإثني عشري، ففي البحث الأول يُقال عادةً إنَّه يكفي لصيرورة المسلم إماميًّا اثني عشريًّا الإقرارُ بإمامة الأئمة الإثني عشر (ع) بعد رسول الله (ص) وبأنَّ طاعتهم مفروضة في كلِّ ما يأمرون وينهون وبأنَّهم صادقون في كلِّ ما يقولون اجمالًا أي وإنْ جهل المُقرُّ بما قالوا.
وأما البحث في المسألة الثانية وهي تحديد القضايا المُصنَّفة ضمن القضايا الضروريَّة في المذهب الإمامي الإثني عشري فيُمثَّل لها بأنَّ الأئمةَ معصومون، وبأنَّ الإمام الثاني عشر يخرجُ فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا، وبأنَّ الأئمة أفضلُ الناس على الإطلاق بعد رسول الله (ص) وغير ذلك من القضايا التي تُعدُّ من القضايا الضروريَّة والمسلَّمة في المذهب الإمامي الاثني عشري.
فمثلُ هذه القضايا لو جهل بها مقرٌّ بإمامة الأئمة الاثني عشر (ع) فإنَّه لا يخرجُ من مذهب الإماميَّة الاثني عشريَّة بل لو أنكرها أحدٌ من المؤمنين بإمامة الأئمة الاثني عشر وكان منشأ انكاره الجهلَ بثبوتها عن الأئمة (ع) مع إقراره بصدقِهم إجمالًا في كلِّ ما يقولون فإنَّه لا يخرجُ عن مذهب الإماميَّة، نعم لو أنكرها رغم علمِه بصدورها عنهم فإنّه واقعًا غيرُ مقرٍّ بصدقِهم بل حتى لو لم يُنكرها ولكنَّه لم يُذعنْ بها رغم علمِه بصدورها عنهم فهو غيرُ مقرٍّ بصدقِهم وإمامتِهم لذلك فهو غيرُ اماميٍّ، إذ إنَّ الإماميَّ الإثني عشري هو المقرُّ بإمامة الأئمة (ع) وصدقهم في كلِّ ما يقولون، فإذا أنكر أو تردَّد في صدق قولٍ ثبت له صدورُه جدًّا عنهم فهو غيرُ مؤمنٍ واقعًا بإمامتهم. فكما انَّ من أنكر صدقَ قولٍ علِمَ صدورَه عن النبيِّ (ص) لا يكون مُقرًا بصدقِه ونبوَّته فلا يكون لذلك مُسلِمًا كذلك من أنكر أو تردَّد في صدق قولٍ علِمَ صدورَه عن الأئمة (ع) فإنَّه لا يكونُ مُقرًّا بإمامتِهم فلا يكونُ بذلك إماميًّا.
وهذا التفريق بين المسألتين هو ما كان الشيخُ الأنصاريُّ في فرائد الأصول(1) بصدد بيانه وإنْ التبس على صاحب الشبهة واختلط عليه ذلك أو تعمَّد الخلط بين المسأتين، ولا نجدُ حاجة إلى استعراض ما أفاده الشيخ الأنصاري وتأكيده في أكثر من موضعٍ من كلامه على انَّ العصمة من ضروريَّات المذهب رغم تأكيده كذلك على أنَّ عدم الإيمان أو الإنكار لذلك لا يضرُّ بإماميَّة المنكر إذا نشأ انكارُه عن جهلٍ أو شبهةٍ استحكَمتْ في ذهنه، وذلك ما يُؤكِّد -بما لا يسعُ المتأنِّي الغفلة عنه- انَّه بصدد بيان ما يُعتبرُ دخله في صيرورة المسلم اماميًّا ولم يكن بصدد نفي انَّ العصمة من ضروريَّات المذهب الإمامي، وكذلك فإنَّ الشهيد الثاني كان بهذا الصدد كما هو واضحٌ بأدنى تأمُّلٍ في كلامه في كتابه حقائق الإيمان(2)، وأما دعواه (رحمه الله) بأنَّ جلَّ الرواة عن الأئمة (ع) وشيعتهم لم يكونوا يعرفون العصمة لأئمة أهل البيت (ع) فذلك تشخيصُه الذي لا يخفى خطأُه كما اتَّضح ممَّا تقدَّم، هذا لو كانت النسخة مشتملةً على كلمة (جُلَّ) وهي مذكورة في الهامش وليست في الأصل وكان على صاحب الشبهة الإشارة إلى ذلك حذرًا من التدليس، وسياق كلام الشهيد في الأصل يُرجِّح عدم وجودها، إذ لا يستقيم الكلام بين التعبير أولًا بكلمة (جُلَّ) ثم التعبير بكلمة كثيرًا، وعلى كلِّ تقدير فعلى فرض وجودها فهو تشخيصُه الذي لا يخفى خطأه، ومن المُثير للعجب ما أحاط به صاحبُ الشبهة كلامه من التهويل والحماس والإغتباط بما ينقلُه عن الشهيد الثاني وكأنَّه عثرَ على آيةٍ محكمة أو نصٍّ جليٍّ ومتواترٍ عن الإمام جعفر الصادق (ع) يدعمُ دعواه!!
وكيف كان فليس في كلام الشهيد الثاني ما ينفي كون العصمة من القضايا الضرورية وإنَّما كان بصدد بيان ما يكفي وما يُعتبر شرطًا في الإيمان الخاص أي ما يُعتبر شرطًا في صيرورة المعتقد به إماميًا.
ثم إنَّ هنا أمرًا يجدرُ بنا التنبيهُ عليه رغم وضوحِه وهو انَّ الإعتقاد بعصمة أئمة أهل البيت (ع) وإنْ لم يكن في نفسه شرطًا في صيرورة المسلم إماميًّا اثني عشريًا إلا أنَّه ونظرًا لصيرورة هذه القضية من الوضوح والجلاء بحيث لم يعُد لأحدٍ مُنتسبٍ لمذهب الإماميَّة ممَّن له أدنى اطلاع ادَّعاء الجهل باستنادها إلى الأئمة (ع) لذلك يكونُ منكرُها غيرَ مُصدِّقٍ لأئمة أهل البيت (ع) وهذا مساوقٌ لعدم ايمانه بإمامتِهم، ولهذا فهو خارجٌ عن مذهب الإمامية ليس لأنّه منكرٌ للعصمة وليس لأنَّ الإيمان بالعصمة شرطٌ في اعتبار المسلم إماميًّا بل لأنَّ إنكارها يساوقُ التكذيب للأئمة (ع) وذلك ما يُنافي ويناقضُ ادِّعاء الإيمان بإمامتِهم وصدقِهم والذي هو اساسُ اعتبار المسلم اماميًّا.
وهذا الشأنُ تمامًا هو ما يُقال في قضيَّة ختم النبوَّة بمحمَّدٍ (ص) مثلًا، فالإيمانُ بهذه القضية في نفسِها وإنْ لم يكن شرطًا في الإسلام إلا انَّه بعد أنْ بلغت هذه القضية من الوضوح والجلاء حدًّا لم يعُد في وسع أحدٍ الجهل باستنادها للدين وللرسول (ص) لذلك فإنَّ مُنكرَها يكون مُكذِّبًا للرسول (ص) وهو ما يساوقُ عدم الإيمان بنبوَّته والذي هو أساسُ صيرورة الإنسان مسلمًا، نعم لو اتَّفق أنْ كان المُقرُّ بنبوَّتِه جاهلًا واقعًا بكونه خاتم الأنبياء ولذلك أنكرَ هذه القضية أو تردَّد في صدقِها فإنَّ انكاره أو تردُّدَه لا يضرُّ بصحَّة اسلامه. وكذلك هو الشأنُ فيما لو اتَّفق جهلُ المسلم بعصمة الأئمة (ع) واقعًا رغم إقراره بإمامتِهم وتصديقه بكلِّ ما يقولون فإنَّ ذلك لا يُخرجُه مِن مذهب الإماميَّة.
ومن هنا يتبيَّن عدم صحَّة الاستدلالِ على نفي ضروريَّة العصمة للإئمة (ع) بما هو المعروف من الحكم بإماميَّة مَن كان يجهلُ بثبوتها للأئمة (ع) مع اقراره بإمامتهم، فإنَّ الحكم بإماميَّة هؤلاء نشأ عن أنَّ عدم اقرارهم بعصمة الأئمة (ع) لم يكن مُستلزمًا لتكذيبهم وذلك لعدم وضوح هذه القضية لهم، وأما إذا كان عدمُ الإقرار بعصمتهم مُستلزمًا لتكذيب الأئمة (ع) أو عدم تصديقهم فإنَّه لا ريب في خروج غير المُقرِّ في هذا الفرض من مذهب الإمامية إذ لا يمكن اجتماع الإيمان بإمامتِهم مع التكذيب لهم أو حتى التردُّد في صدقهم.
ولمزيدٍ من التوضيح نقولُ: في العهد الأول من صدر الدعوة لو عُرض الإسلام على أحدٍ فأقرَّ لله تعالى بالتوحيد ولمحمَّدٍ (ص) بالرسالة وكان خاليَ الذهن من كلِّ معالم الإسلام فإنَّ إسلامه يكون مقبولًا دون ريب إلا أنَّه بعد تقدُّم الزمن وصيرورة بعض معالم الإسلام واضحةً ومعلومةً بحيث أنَّ مَن أراد الدخول في الإسلام يعلمُ أنَّ من معالمه مثلًا هو أنَّ النبيَّ (ص) خاتمُ الأنبياء، ففي مثل هذا الفرض لا يُقبل منه الإسلام لو قال إنِّي اقرُّ لله تعالى بالتوحيد ولمحمَّد (ص) بالنبوَّة ولكنِّي أُنكرُ أنَّه خاتم الأنبياء، وهذا لا يعني أنَّ الإقرار بكون النبيِّ (ص) خاتم الأنبياء من شرائط الإسلام بل لأنَّ وضوح هذه القضية صيَّر من الإنكار لها إنكارًا لنبوَّة النبيِّ (ص) إذ إنَّ الإنكار لها يساوقُ التكذيب للنبيِّ (ص)، والتكذيبُ للنبيِّ (ص) لا يجتمعُ مع الإيمان بنبوَّتِه.
فاشتراط الإقرار بكون النبيِّ (ص) خاتم الأنبياء ليس شرطًا زائدًا على ما كان يُشترط في دخول الإسلام بدايةَ الدعوة، إذ إنَّ المُعتبر في صدر الدعوة هو الإيمانُ بنبوَّة النبيِّ (ص) وتصديقِه، وهذا الشرطُ هو ذاتُه الشرط المُعتبر بعد اكتمال الدعوة وهو وحده الشرط المُعتبر إلى قيام الساعة دون أنْ يكون قابلًا لأنْ يُزاد عليه شرطٌ آخر، وغايةُ ما في الأمر أنَّ الناس في بداية الدعوة لم تكن تعلم بأكثر معالم الإسلام إمَّا لأنَّ النبيَّ (ص) لم يعرضْها بعدُ عليهم أو انَّه عرَضها ولكنَّها لم تصلْ بعدُ إليهم أو أنَّها وصلتْ أو وصلَ بعضُها بأخبار الآحاد فلم يتثبَّتوا يقينًا من صدورِها لذلك يصحُّ الإسلامُ ابتداءً واستمرارًا من مثل هؤلاء رغم عدم اقرارِهم بمعالم الإسلام ويكفي لمثلهم الإقرارُ الإجماليِّ بصدق كلِّ ما يصدرُ عن النبيِّ (ص) وأمَّا بعد اتِّضاح بعض معالم الإسلام مثل كون النبيِّ (ص) خاتم الأنبياء فإنَّه لا يصحُّ الإسلامُ من أحدٍ ابتداءً واستمرارًا إلا مع الإقرار تفصيلًا بكون النبيِّ (ص) خاتم الأنبياء، وهذا هو عينُه ما يُقال في الإيمان بعصمة الأئمة (ع)، فإنَّ الإيمان بذلك وإنْ لم يكن شرطًا في صيرورة المسلم إماميًّا وانَّه يكفي في اعتبار كون المسلم اماميًّا التصديق الإجمالي بكلِّ ما ثبت صدوره عن الأئمة إلا انَّه وبعد أنْ عُلِمَ يقينًا انَّه صدر عنهم أنَّهم معصومون فإنَّ اعتبار كون المسلم اماميًّا ابتداءً واستمرارًا لا يتمُّ إلا بالإقرار تفصيلًا انَّهم معصومون وإلا فإنَّ عدم الإقرار بذلك يكون مُستلزما للتكذيب لهم أو عدم تصديقِهم وذلك لا يجتمعُ مع الإقرار بإمامتِهم.
فهذا كلُّ ما في الأمر، فليس في البين شرطٌ قد استجدَّ ولم يكن موجودًا ومعتبرًا وإنَّما هي طبيعةُ تقدُّم الزمن المقتضي لتبلور أمورٍ لم تكن متبلورة، فكان مقتضى الإيمان التصديق بها اجمالًا وبعد تبلورِها يكون مقتضى الإيمان للعارفين بها تعيُّن التصديق بها تفصيلًا، فلو سلَّمنا جدلًا انَّ ثبوت العصمة للأئمة (ع) لم تكن معلومةً تفصيلًا لأصحاب الأئمة (ع) وشيعتهم نظرًا لعدم تبلور معالم المذهب عندهم بسبب بدائية وسائل الإتصال والتواصل وبدائية وسائل التعليم وبسبب الظروف السياسيَّة والأمنيَّة والخصومات المذهبيَّة لو افترضنا انَّ ذلك منع من وضوح مسألة العصمة ثم انَّه وبعد أنْ جمعَ العلماءُ والرواة شتات ما صدر عن الأئمة (ع) وتبيَّن بما لا يدعُ مجالًا للشك انَّ الأئمة كانوا يؤكِّدون على أنَّ من شرائط الإمامة أن يكون الإمامُ معصومًا فهل يصحُّ عندئذٍ البناء على أنَّ الإقرار بعصمتِهم ليس شرطًا في إماميَّة المؤمن بإمامتهم ؟!.
التنبيه الرابع: المدار في صحَّة وصف قضيةٍ بأنَّها من القضايا الضروريَّة هو وضوحُ مدركِها بحيثُ لا يسعُ الواقف على دليلِها التنكُّر لها وإنْ كان قبل وقوفِه على دليلها جاهلًا بها أو بصحَّتِها، ولهذا لا يتوقَّف أحدٌ في أنَّ من القضايا الضروريَّة في الإسلام هي أنَّ محمدًا (ص) خاتم الأنبياء وأنَّ له مقام الشفاعة يوم القيامة وانَّه سيد المرسلين، وانَّ موسى كليمُ الله، وانَّ عيسى تكلَّم في المهد، وأنَّ نوحًا دعا قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، فكلُّ هذه القضايا وشبهها تُعدُّ من ضروريَّات الإسلام وذلك لوضوح مدركِها، فهي إمَّا تكون ممَّا نصَّ عليه القرآن أو ثبت صدوره بالنقل المتواتر عن النبيِّ (ص)، فجهلُ المسلمين بها في صدر الدَّعوة لا ينفي كونها من الضروريَّات الدينيَّة كما انَّ جهل الكثير من المسلمين بها إلى يومنا هذا لا ينفي عنها وصف الضروريَّة، فمناطُ كونها من القضايا الضرورية في الإسلام هو وضوح دليلها بحيث انَّ كلَّ مسلمٍ وقفَ على مدركها يحصلُ له اليقين والإذعان بصدقِها وصحَّتها، فذلك هو مناطُ صحَّة وصفها بالقضايا الضرورية في الدين، وهذا المناطُ هو ذاتُه المصحِّح لتصنيف مسألة ثبوت العصمة للأئمة (ع) ضمن القضايا الضروريَّة في المذهب، فمدركُ هذه القضية هو تواترُ الروايات عن أهل البيت (ع) ووضوح دلالتِها على انَّهم واجدون لملكة العصمة بحيثُ لا يسعُ مَن يقفُ عليها ممَّن يُؤمن بإمامتِهم إلا الإذعان بثبوتها لهم.
واعتبار هذه القضيَّة من القضايا الضروريَّة هو في مقابل القضايا الأخرى المُصنَّفة ضمن القضايا الإجتهاديَّة التي لا يُورِثُ مدركُها عند الوقوف عليه إلا الظنَّ المُعتبر في أحسن الأحوال وذلك إمَّا لأنَّ دلالته ظنيَّة أو لأنَّ صدوره ظنِّي.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمّد صنقور
1- فرائد الأصول -الشيخ الأنصاري- ص565- 568.
2- حقائق الإيمان -الشهيد الثاني- ص150-151