شمول الإطلاق للأفراد النادرة أو المعدومة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما هو وجهُ دعوى عدم شمول الإطلاق للحُصص النادرة أو المعدومة -حال صدور النص- مع كون الخطاب على نحو القضيَّة الحقيقيَّة لا الخارجيَّة؟

 

الجواب:

الوجهُ في ذلك هي دعوى الاِنصراف، فإنَّ المناط في حجيَّة الإطلاق هو الظهور العرفي، ومعنى الظهور هو الوضوح، فلا يكون معنى الخطاب حجَّةً على المتلقِّي إلا بالمقدار الواضح والمُحرَز -عرفًا- إرادة المتكلِّم له جدًّا، وحيثُ إنَّ من غير الواضح لدى العرف إرادة المتكلِّم للإفراد النادرة والمعدومة عند إطلاقه لاسم الجنس مثلاً لذلك لا يكون إطلاق اسم الجنس حجَّةً في الأفراد المعدومة والنادرة لأنَّ مناط الحجيَّة هو الظهور، والظهور يعني الوضوح، والوضوح منتفٍ أي أنَّ وضوحَ إرادة المتكلِّم -للأفراد النادرة والمعدومة من إطلاقه لاسم الجنس مثلاً- منتفٍ.

 

ومنشأُ الانصراف وعدم الوضوح هو نُدرة هذه الأفراد أو عدم وجودها بحيثُ يستبعدُ العرف دخولَها في مراد المتكلِّم لاستبعاده تصوُّر المتكلِّم لها أساسًا عند إطلاقه لاسم الجنس مثلاً، وحيثُ إنَّ ما تثبت له الحجيَّة هو ما يُستظهر إرادة المتكلم له جدًّا، وليس ما يتَّسع له اللفظ المستعمَل من المتكلِّم لذلك قيل بعدم شمول الإطلاق للأفراد النادرة والمعدومة أي أنَّ حجيَّة ظهور الإطلاق في الخطاب لا تتناول الأفراد النادرة والمعدومة.

 

إلا أنَّ الصحيح هو عدم تماميَّة هذا المبنى فإنَّ المطلق إذا كان صادقًا عرفًا على الأفراد النادرة والمعدومة بحيث هي متساوية في الصدق مع الأفراد الشائعة ولا تختلف عنها إلا من جهة نُدرة وجودها أو من جهة عدمها في زمن الخطاب، فإنَّ نُدرتها في هذا الفرض أو عدم وجودها لا يمنع من شمول حجيَّة الإطلاق لها.

 

ودعوى عدم وضوح إرادة المتكلم لها لاستبعاد تصوُّره للأفراد النادرة والمعدومة ليست تامَّة فإنَّ المتكلِّم وإنْ سلَّمنا عدم تصوره تفصيلاً للأفراد النادرة والمعدومة ولكنَّها متصوَّرة ارتكازًا وإجمالاً، وذلك وحده كافٍ في ظهور إرادة المتكلِّم لمثل هذه الأفراد من الإطلاق، إذ أنَّ المصحِّح لاستظهار إرادة المتكلِّم للإطلاق ليس هو التصوُّر التفصيلي لأفراد المطلق وحصصه فإنَّ ذلك لا يكاد يقع حتى لمثل الأفراد الشائعة، فإنَّ المتكلِّم إنَّما يتصوَّر إجمالاً أفراد اسم الجنس مثلاً ثم يجعل الحكم على الطبيعي قاصدًا انحلال الحكم على مطلق ما يصدقُ عليه الطبيعي من أفراد.

 

فلو قال المشرِّع مثلاً: إنَّ على كلِّ مكلفٍ أنْ يذبح طيرًا، فإنَّ عنوان الطير يصدق على الأفراد الشائعة وعلى الأفراد النادرة وكذلك لو اتَّفق تخلُّقُ طيرٍ من صنفين من الطيور، فلم يكن لذلك الطير نظير في زمن النص فإنَّ أحدًا لا ينبغي أنْ يشكَّ في أنَّ امتثال الأمر بذبح طيرٍ يتحقَّق بذبح ذلك الطير، رغم أنَّ ذلك الصنف من الطيور لم يكن موجودًا في زمن النص، وهذا ما يُنبِّه على أنَّ انعدام الأفراد أو نُدرتها ليس مانعًا من استظهار العُرف شمول إرادة المتكلِّم لها، وأنَّ مجرَّد عدم تصوُّرها تفصيلاً لا يمنع من إرادتها واستظهار إرادتها بعد اتَّحادها ومساواتها للأفراد الشائعة في صدق العنوان المجعول له الحكم عليها.

 

ولهذا نجد العقلاءَ يُصحِّحون احتجاج السيِّد على عبيده بالإطلاق الشامل لمثل هذه الأفراد كما يُصحِّح العقلاء احتجاج العبيد أو الأُجَراء على سيِّدهم بشمول خطابه لمثل هذه الأفراد. نعم لو كان منشأ الشك في إرادة فردٍ هو الشك في صدق العنوان عليه فإنَّه لا يصحُّ في مثل هذا الفرض استظهار إرادة المتكلِّم له إلا أنَّ ذلك خارجٌ عن مورد الفرض، وكذلك لا يصحُّ التمسُّك بالإطلاق لاستظهار الشمول لأفرادٍ يصدق عليها العنوان بحسب السعة اللغوية إلا أنَّه لم يتعارف استعمال ذلك العنوان في تلك الأفراد عند أهل المحاورة أو كان المتعارف إخراج تلك الأفراد في مقام الاستعمال لذلك العنوان، ففي كلا الفرضين لا يصحُّ التمسُّك بالإطلاق لاستظهار الشمول لتلك الأفراد، فإنَّ تعارف عدم الاستعمال أو تعارف الإخراج إنْ لم يكن قرينة على التقييد فهو صالحٌ للقرينيَّة، وذلك ما يمنع من استظهار إرادة الشمول لتلك الأفراد.

 

ويُمكن التمثيل لذلك بعنوان الحيوان فإنَّه يصدق بحسب سعته اللغوية على أفراد الإنسان إلا أنَّ المتعارف عند أهل المحاورة عدم استعمال عنوان الحيوان في أفراد الإنسان بل قد يُدَّعى أنَّ المتعارف بينهم هو اعتبار عنوان الحيوان مباينًا لعنوان الإنسان وهو ما يمنع من استظهار إرادة أفراد الإنسان من إطلاق عنوان الحيوان.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور