رواياتُ النحوسة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

سمعتُ في إحدى محاضراتكم القيِّمة النفي لنحوسة صفر ولكن كيف نتعامل مع مثل هذه الرواية الواردة في الْمَكَارِمُ عَنِ الصَّادِقِ (ع) قال: "اتَّقِ الْخُرُوجَ إِلَى السَّفَرِ يَوْمَ: الثَّالِثِ مِنَ الشَّهْرِ، وَالرَّابِعَ مِنْهُ، وَالْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَالْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، فَإِنَّهَا أَيَّامٌ مَنْحُوسَةٌ"(1)؟

 

الجواب:

الرواياتُ التي يظهر منها أنَّ ثمة أيامًا في السنة منحوسةٌ أي مقتضيةٌ للشرور أو مقارنةٌ للأسباب المقتضيةِ للشرور والبلايا هذه الروايات لا اعتبار لها، فهي إمَّا ضعيفةُ السند أو مراسيل أو هي ممَّا لا أصلَ له، ولا يبعدُ أنَّ بعضَها مختلَقٌ ومكذوب.

 

منشأ توصيف بعض الأيام بالنحوسة:

نعم ثمة رواياتٌ معتبرة وصفتْ بعضَ الأيام بالنُحوسة إلا أنَّ المقصودَ من ذلك هو أنَّ هذه الأيام اقترنتْ في تاريخ الإسلام أو تاريخ الرسالات بأحداثٍ مُحزِنةٍ لا أنَّ هذه الأيام مُقتضيةٌ للشرور في كلِّ دوراتِها الزمنيَّة أو أنَّها مقارنةٌ لِما يقتضي الشرور دائمًا أو غالبًا، فتوصيفُ هذه الأيام -كيوم عاشوراء، ويوم وفاة الرسول (ص)- بالنُحوسة إنَّما هو للتعبير عن أنَّها كانت أيامًا تبعثُ على الحُزن والأسى أو أنَّ توصيفها بالمنحوسة كان لغرض الحثِّ على أنْ تبقى هذه الأحداث في الذاكرة لِما لذلك من أثرٍ تربويٍّ على الناس.

 

فالغرضُ من قرْنِ بعضِ الأحداث بالأيام التي وقعتْ فيها هو أنَّ لحساب الأيام دورانًا في كلِّ سنة، فحينما تقترنُ بعضُ الأحداث ببعض الأيام فإنَّ دوران تلك الأيام يقتضي تذكُّر تلك الأحداث بما لها من تأثيرٍ تربويٍّ.

 

مدلول روايات النهي عن التطيُّر:

والذي يُؤيِّد ما ذكرناه من عدم وجود أيامٍ منحوسة ومقتضية بعنوانها للشرور أو مقارنة للأسباب المقتضية للشرور الذي يُؤيِّدُ ذلك هو ما ورد عن الرسول (ص) وأهل بيتِه (ع) من النهي عن التطيُّر والتأكيد على انُّه لا يعدو الأوهام والهواجس النفسيَّة، فهي تشتدُّ بالنظر لها والعناية بها وتهونُ بتهوينها وعدم الرعاية لها فليس للتطيُّر واقعٌ وراء ما يعتمِل في النفس من هواجس.

 

فممَّا ورد في ذلك ما أورده الكليني في الكافي بسندٍ صحيحٍ عن النضر بن قرواش، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلم) في -حديث-: "لا طيرة"(2).

 

فالمراد من قوله (ص): "لا طيرة" هو إمَّا نفيُ الوجود لمقتضيات التطيُّر والتشاؤم أو أنَّ المراد منه النهي عن التطيُّر والتشاؤم فيكون النفي للطيرة سِيق لغرض الإنشاء والنهي كما في قوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(3).

 

فبناءً على الأول يكون الحديثُ بصدد التصحيح لثقافةٍ سائدة وخاطئة وهي أنَّ ثمة ما يُوجب الخوف والخشية من شرورٍ تقترنُ ببعض الأزمنة وبعض الأمكنة أو شرورٍ تقترنُ بالرؤية لبعض الحيوانات والطيور أو شرورٍ تقترنُ بالسماع لأصوات بعض الطيور والحيوانات كنعيب الغُراب والبوم وعِواء الذئب وهو في حالة الإقعاء على ذنبِه، فكانت العرب تتشاءمُ من ذلك وتعتقدُ أنَّ وراء هذا النعيب وهذا العواء شرٌّ قادم، وكانت تُحاذر من السفر أو السعي لقضاء بعض الحوائج في أزمنةٍ مخصوصة وتعتقدُ أنَّ السفرَ فيها مجلبةٌ للشرور وأنَّ السعي في هذه الأزمنة خائبٌ دائماً أو غالبًا، فالحديثُ بصدد النفي لكلِّ ذلك وأنَّه لا واقع لها ولا حقيقةَ وراءها.

 

وبناءً على أنَّ المراد من قوله (ص): "لاطيرة" هو النهي عن التطيُّر يكون مفادُ الحديث هو النهي عن ترتيب الأثر على ما ينقدحُ في النفس من تشاؤم، فلو عزم في يومٍ على سفرٍ أو السعي في قضاء حاجةٍ فيتَّفق أنَّ ذلك اليوم من الأيام التي تعارفَ بين الناس التشاؤمُ منها فينقدحُ في نفسِه خوفٌ وتوجُّسٌ من السفر في ذلك أو خشيةٌ من أنْ لا تقضى حاجتُه لو سعى في هذا اليوم إليها فإنَّ معنى النهي عن الطيرة هو النهيُ عن الاعتناء بهذا الهاجس، ومعنى النهي عن الطيرة هو الأمر بالمُضيِّ فيما عزمَ عليه دون الاكتراث بما انقدحَ في نفسه.

 

فيكون مؤدَّى النهي عن التطيُّر هو النفي لواقعيَّة ما انقدح في نفسِه من هاجسٍ، إذ لو كان لهذا الهاجس واقعٌ لما ساغ النهي عن ترتيب الأثر عليه، فالمحاذير الواقعيَّة ممَّا ينبغي للعقلاء الحذرُ من الوقوع فيها، ولذلك يكون النهيُ عن التطيُّر مساوقًا للإخبار عن أنَّ هذه المحاذير التي يُحاذِر الناس من مقارفتِها ليس لها واقعٌ، فيكون مؤدَّى الحديث على كلا التقديرين واحداً وهو النفي لواقعيَّة ما يُتشاءَمُ منه والنفيُ لنحوستها.

 

وكذلك يُمكن التأييد لِما ذكرناه بما أورده الكلينيُّ أيضًا في الكافي بسندٍ صحيحٍ عن عمرو بن حُريث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "الطيرةُ على ما تجعلُها، إنْ هوَّنتها تهوَّنتْ، وإنْ شدَّدتها تشدَّدتْ، وإنْ لم تجعلْها شيئًا لم تكن شيئًا"(4).

 

فمفادُ الرواية أنَّ ما يُتشاءَم منه وما يَعتقِد الناسُ نُحوستَه ليس له واقعٌ، وهو لا يعدو الهاجسَ النفسي، ولذلك فهو يَشتدُّ ويضعفُ تبعًا لاشتدادِه وضعفه في النفس، فإذا زال هذا الهاجسُ من النفس لم يكن شيئًا، فلو كان لِما يُتشاءم منه أثرٌ واقعي فإنَّ عدم الاكتراث به لا يمنعُ من وقوعِه، على أنَّه لا يصحُّ لدى العقلاء الإغضاء عن المحاذير التي لها مقتضياتٌ واقعيَّة، فالحثُّ من الإمام (ع) على تهوين ما يُتشاءَم منه بل وعدم الاكتراث به صريحٌ فيعدم وجود مقتضيات واقعيَّة لما يُتشاءم منه ولما يَعتقِدُ الناسُ نحوسته.

 

وكذلك يمكن التأييد لما ذكرناه بمعتبرة السكونيِّ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "كفَّارة الطَّيرة، التوكُّل"(5).

 

ففي الروايةِ حثٌّ على المُضيِّ وعدم العناية والاكتراث بما يعتملُ في النفس من تشاؤمٍ طرءَ عليها أو نشأَ عمَّا هو سائدٌ بين الناس من نُحوسة بعض الأيام أو بعض المصادفات، فمفادُ الحديثِ الشريف أنَّ مَن وَجد في نفسه توجُّساً من ذلك فليَمضِ ولا يكترثُ بل يتوكَّلُ على اللهِ تعالى، فليستْ هذه الهواجس ممَّا ينبغي الاعتدادُ بها والمحاذرةُ من تأثيرها كما هو الشأن في الهواجس الناشئة عن مقتضيات واقعيَّة، فتلك هي التي ينبغي الاعتناء بها، وأمَّا الهواجس التي عن تنشأُ التطيُّر والتشاؤمُ ممَّا يزعمُ الناس نُحوسته فتلك كفارتُها المضيُّ وعدمُ الاعتداد بها، فمعنى قوله (ص): "كفَّارة الطَّيرة التوكُّل" هو معنى ما ورد في النبويِّ الشريف: "إذا تطيَّرت فامضِ"(6) فلو كان لِما يَتشاءمُ الناس منه مقتضيات واقعيَّة لما كان من المناسب الأمر بالمضيِّ فيها بل كان المناسب الأمر بالتأنِّي والتريُّث والمحاذرة كما هو الشأن فيما صدر كثيرًا عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) من الأمر يالتأنِّي في الأمور وعدم المبادرة إليها دون تروٍّ ونظر.

 

هذا وقد تصدَّت بعضُ الروايات للتصحيح لهذه الثقافة الخاطئة بواسطة التشجيع على تعمُّدِ نقضِها وأنَّ الله تعالى يمنحُ - من عمِل على نقضها ومخالفتِها - العافيةَ والتوفيقَ والكفايةَ ممَّا يُحذِّر منه أهلُ الطيرة، فمِن ذلك ما أورده الشيخُ الصدوق في الخصال بسندِه عن محمد بن أحمد الدقَّاق البغدادي قال: كتبتُ إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسألُه عن الخروج يوم الأربعاء لا يدور؟ فكتبَ (عليه السلام) "مَن خرج يومَ الأربعاء لا يدور خلافًا على أهل الطَيرة وُقيَ من كلِّ آفة، وعُوفيَ من كلِّ داءٍ وعاهة، وقضى اللهُ له حاجتَه"(7).

 

قال: وكتبتُ إليه مرَّةً أُخرى أسألُه عن الحجامةِ يومَ الأربعاء لا يدور، فكتبَ (عليه السلام): "مَن احتجمَ في يوم الأربعاء لا يدور خلافًا على أهلِ الطَيرة عُوفيَ من كلِّ آفة، ووُقِي مِن كلِّ عاهةٍ، ولم تَخضرَّ محاجمُه"(8).

 

فالإمامُ (ع) في هذه المكاتبة يحثُّ على مناقضةِ ما يُروِّج له أهلُ الطيرة من دعوى أنَّ آخر أربعاءَ من كلِّ شهر مشئومةٌ ومنحوسة، يُبتلى مَن سافر فيها بالآفاتِ، ويخيبُ مسعى كلِّ من سَعى فيها لقضاءِ حوائجِه، ويُصاب مَن احتجم أو تداوى فيها بنقيضِ مطلوبِه بل قد تُصيبه مِن ذلك عاهةٌ أو تتورَّمُ جروحُه وتخضرُّ محاجمُه وتتعفَّن.

 

فالإمامُ (ع) في هذه المكاتبة يحثُّ على تكذيبِ هذه الدعوى وذلك بالعملِ على تعمُّدِ المناقضةِ لها ويُؤكِّد على أنَّ مَن سافر أو سعى في قضاء حوائجِه في آخر أربعاء من كلِّ شهر وقصَد من ذلك التكذيب والمخالفة لأهل الطيرة فإنَّ الله تعالى يمنحُه جزاءً له على المساهمة في توهين هذه الثقافة يمنحُه العافيةَ من الآفات، والكفايةَ من العاهات، والتوفيقَ لما سعى لتحصيله.

 

نعم لا مانع من الاِلتزام بما ورد من النهي عن التزويج والسفر مثلاً في بعض الأيام ولكن لا بعنوان أنَّها منحوسة بل لكون ذلك من الآداب والسُنن أو برجاء أنْ تكون كذلك أي من السُنن.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- بحار الأنوار -العلّامة المجلسيّ- ج56 / ص54.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج8 / ص196.

3- سورة البقرة / 197.

4- الكافي -الشيخ الكليني- ج8 / ص197-198.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج8 / ص198.

6- وسائل الشيعة -الحرّ العاملي- ج11 / ص363.

7- الخصال -الشيخ الصدوق- ص386.

8- الخصال -الشيخ الصدوق- ص387.