الوجهُ في عدم صحَّة الاستدلال بالقراءات المختلفة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

أفاد بعضُ الفقهاء بأنَّه لا يصحُّ الاستدلال بالقراءاتِ المختلفة على الحكم الشرعي، أي أنَّه لا يصح للمجتهد التمسُّك بقراءةٍ لاستنباط حكم شرعيٍّ منها إذا كان لهذه القراءة ما يُخالفها، فما هو الوجهُ في ذلك؟

الجواب:

القراءاتُ المتعارَفة المعتبرة وإنْ كان يصحُّ للمكلَّف القراءةُ في الصلاة وغيرها بأيِّها شاء، وذلك للأمر بالقراءة كما يقرأُ الناس ولكنَّه لا يصحُّ الاستدلالُ بشيءٍ منها لاستنباط حكمٍ شرعي إذا كان اختلافُها مقتضيًا لاختلاف مدلول الآية، وذلك لعدم العلم بما هي القراءة النازلة من هذه القراءات.

فالقراءةُ النازلةُ على الرسول (ص) واحدة، وهي التي يصحُّ الاستدلالُ بها على الحكم الشرعي، وحيثُ لا علم لنا بما هو النازل من هذه القراءات المختلفة، ولا يُمكن أنْ يكون حكمُ اللهِ في الواقعة الواحد متعدِّدًا ومختلفًا لذلك تكونُ هذه القراءات المختلفة فاقدةً للحجيَّة من هذه الجهة لعدم امكان التعبُّد في الواقعة الواحدة بأحكامٍ مختلفة.

فقولًه تعالى مثلًا: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾(1) لو اختلفت القراءة في "يطهرن" فكانت إحدى القراءتين بتشديد الطاء وكانت القراءة الأخرى بالتخفيف فإنَّ مقتضى التشديد هو عدمُ جواز مقاربة الحائض بعد النقاء إلا بعد الاغتسال والتطهُّر، ومقتضى القراءة بالتخفيف هو الجواز بمجرَّد النقاء، فالفرق بين التطهُّر والطهر هو أنَّ التطهُّر فعلٌ اختياري للمكلَّف، فله أنْ يتطهَّر وله أنْ لا يتطهَّر فيكون ذلك ظاهرًا في مثل الاغتسال، وأمَّا الطهر فهو أمرٌ خارج عن اختيار المكلَّف فيكون ظاهرًا في النقاء، إذ هو الذي يكون تحقُّقه وعدمه خارجًا عن اختيار المكلَّف، فلو كانت الآية بالتشديد فهذا معناه أنَّ الآية قد أناطت جوازَ الوطأ بالاغتسال، فلا يجوز الوطأُ قبله، ولو كانت القراءةُ النازلة هو التخفيف لكان مقتضى ذلك هو أنَّ الآية قد أناطت جوازَ الوطأ بحصول النقاء دون اعتبار الاغتسال، وحيث إنَّنا -بحسب الفرض- لا نعلمُ أيَّ القراءتين هي النازلة لذلك لا يصحُّ التمسُّك بأيٍّ من القراءتين لإثبات الحكم الشرعي كما لا يصحُّ التمسُّك بهما معًا لأنَّ ذلك معناه التعبُّد بالمتعارضين، فتسقطُ كلا القراءتين عن الحجيَّة تمامًا كما هو الشأن عند تعارض الخبرين المُعتبرين.

فالقراءاتُ المختلفة ليست شيئًا آخر، عن اختلاف الأخبار، فالقراءةُ بتشديد الطاء هي واقعًا خبرٌ معتبر مفادُه أنَّ الآية نزلتْ بالتشديد، والقراءة بالتخفيف خبرٌ آخر معتبرٌ مفاده أنَّ الآية نزلتْ بالتخفيف، فهما خبران متعارضان، إذ لا يُمكن أنْ تكون الآية نزلتْ بالتخفيف والتشديد معًا، وحيثُ إنَّ مقتضى احدى القراءتين منافٍ لمقتضى القراءة الأخرى ولا يُعلَم ما هو النازلُ واقعًا لذلك لا يصحُّ اعتماد أيٍّ من المقتضيين مالم يكن مرجٍّح من المرجِّحات المنصوصة كما هو الشأن عند تعارض الأخبار.

وخلاصة القول: إنَّ المُحرَز قرآنيتُه بالتواتر في موارد اختلاف القراءة هو الآيات بألفاظها وتراكيبها دون قراءتِها، نعم في موارد عدم الاختلاف في القراءة كما هو غالبُ الآيات يكون المُحرَز قرآنيتُه بالتواتر هو المجموع من الألفاظ والتراكيب والقراءة، ولذلك يصحٌّ الاستدلال بها على الحكم الشرعي.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة البقرة / 222.