بحيرا الراهب ولقاؤه بالنبي (ص)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

مَن هو الراهب بحيرا؟ وما قصَّةُ لقائه بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله)؟

 

الجواب:

بحيرا الراهب يُوصف بأنَّه كان من علماء النصارى، وكان موجوداً في الفترة التي سبقت المبعث النبويِّ بما يقرب من ثلاثين سنة، وكان مُنقطعاً في صومعةٍ له في منطقةٍ يُقال لها "بُصرى" من أرض الشام، وقد وصفه ابنُ عساكر في تاريخ دمشق أنَّه أعلمُ أهل النصرانيَّة(1) في زمانه، وذكر ابنُ سعدٍ في الطبقات الكبرى أنَّه "كان راهباً وكان من علماء النصارى ويكونون في تلك الصومعة التي في بصرى يتوارثونها عن كتابٍ يدرسونه"(2) ولعلَّ مراده أنَّ الاختصاص بتلك الصومعة لا يستحقُّه إلا مَن أتقن ذلك الكتاب، وقد أفاد ابنُ عساكر في تاريخ مدينة دمشق ما يظهر منه هذا المعنى، وأفاد أنَّ هذا الكتاب يتوارثونه كابراً عن كابر(3).

 

ولم نجد -فيما وقفنا عليه من كُتب التأريخ والسيرة النبويَّة- تفصيلاً لترجمة بحيرا الراهب، وكلُّ ما تذكرُه كتبُ التاريخ والسيرة وكذلك الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) عن هذا الرجل أنَّه الْتقى بالنبيِّ محمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله) في صباه قبل المبعث بثمانية وعشرين سنة -بناءً على انَّه بُعث وهو ابنُ أربعين سنة- وأنَّه التقاه وعمره الشريف اثنتا عشرة سنة أو أنَّه (ص) اِلتقاه قبل المبعث بإحدى وثلاثين سنة -بناءً على ما قيل من أنَّ اللَّقاء كان وعمره الشريف تسع سنوات-، وكان لقاءً عابراً حيث كان في سفرٍ مع عمِّه أبي طالب للتجارة إلى الشام.

 

وكانت قريشُ تنزلُ قريباً من صومعة ذلك الراهب، فاتَّفق لهذا الراهب أنْ رأى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) ورأى فيه بعض أماراتِ النبوَّة فأخبر بذلك عمَّه أبا طالب وحذَّره من اليهود ومن قريش، وأخبره بأنَّ لهذا الصبيِّ شأناً عظيماً، فاللقاءُ كان عفوياً ولم يكن مخططاً له كما يحلو للمرجفين أن يصوِّروه.

 

وقد أوردت كتبُ الأحاديث من طُرق العامة رواياتٍ عديدة في تفاصيل ذلك اللقاء إلا أنَّ أكثرها غيرُ ثابتٍ بل إنَّ بعضها غير قابلٍ للتصديق مثل أنَّ أبا طالب (ع) أرسل النبيَّ (ص) بعد تحذير الراهب مع أبي بكر وبلال والحال أنَّهما كانا أصغرَ سنَّاً منه، فمِن غير المعقول أنْ يُجازف أبو طالب بإرساله معهما في تلك الفلاة الشاسعة المليئة بالأخطار وهو إنَّما أراد إرجاعه إلى مكة بحسب هذه النقولات خشيةً على حياته بعد تحذير الراهب بحيرا، فكيف يُرسلُه مع مَن هو أصغر منه سناً لحمايته!

 

نعم المقدار الذي يُمكن قبوله أنَّ بحيرا الراهب صادفَ أنْ رأى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) في قافلة قريش وهم في طريقِهم إلى الشام فرأى منه بعضَ أمارات النبوَّة مثل إسمه واسم أبيه، وسأل عن بعض أحواله فتبيَّن له أنَّ ذلك مطابقٌ للوصف الذي وصفتْ به كتبُهم النبيَّ الذي يُبعث في آخر الزمان، كما أنَّه التفت إلى الغمامة التي كانت تُظلِّلُ النبيَّ (ص) أينما ذهب، ورآه نائماً عند شجرةٍ كثيرةِ الهَوام دون أن يمسَّه منها أذى كما في بعض الروايات، ولعلَّ ذلك هو ما دفع بحيراإلى أنْ يطلب من أبي طالب أنْ يكشف له عن ظهر النبيِّ (ص) فوجد بين كتفيه خاتمَ النبوَّة.

 

ثم إنَّ أمرَ هذا الراهب قد انتهى عند هذا الحد، فلم يثبت انَّه إلتقى بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله) مرةً أخرى -كما يزعم المرجفون- وكذلك لم يثبت أنَّ بحيرا بقيَ على قيد الحياة إلى حين المبعث النبوي، على أنَّ سفرات النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) إلى الشام قبل البعثة لم تتجاوز المرَّتين، الأولى كانت مع عمِّه أبي طالب، وفيها اتفق لقاؤه ببحيرا الراهب، وكان عمره اثنتي عشرة سنة، وفي بعض النقولات أنَّ عمره لم يتجاوز التاسعة على أنَّ المحادثة في ذلك اللقاء كانت بين بحيرا وبين أبي طالب وليست بينه وبين النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) حيث كان حينذاك في عمر الصبى، وأما السفر الثاني فكان حين خرج بأموال خديجة مضارباً بها.

 

وأمَّا ما قيل إنَّه خرج مع أبي بكر وعمره الشريف عشرون سنة فأمرٌ لم يثبت عندنا كما أنَّه غير ثابتٍ عند المحقِّقين من علماء السنَّة أيضاً.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج3 / ص10.

2- الطبقات الكبرى -محمد بن سعد- ج1 / ص153.

3- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج3 / ص10.