تحية لكل المساهمين في إحياء عاشوراء

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد

 

يتقاسمُ العلماءُ والخطباءُ والرواديدُ والمثقفون والرسَّامون والإداريُّون والكتَّابُ وجماهيرُ الحسين (ع)، يتقاسمُ هؤلاءِ جميعاً الأدوارَ التي يتشكَّل بمجموعِها الإحياءُ لموسمِ عاشوراء، وكلُّ صنفٍ من هذه الشرائحِ الاجتماعية لا يُغني دورُه عن الدورِ الذي تنوءُ به الشريحةُ الأخرى.

وبهؤلاءِ جميعاً خَلُد الحسينُ (ع) وخَلُدت قضيَّتُه وأهدافُه، إذ لو تصدَّى العلماءُ وحدَهم لعمليةِ الإحياءِ لكانَ الحسينُ فكراً مجرَّداً ومفهوماً نظريَّاً يصعُبُ على السوادِ الأعظمِ أنْ يتفاعلَ معَه وأن يتعاطى أطروحتَه بالمستوى الذي يتناسبُ وحجمَ القضيةِ التي ثارَ الحسينُ (ع) من أجل تشييد معالمِها.

فلِكَي يكونَ الحسينُ حاضراً في ضميرِ الأمةِ فإنَّ ذلك يستدعي أنْ تستنفرَ الأمةُ بجميع شرائحها وتستفرغَ كلَّ ما في وسعها وحينئذٍ قدتُصبحُ مؤهلةً لتسنُّمِ هذا الدورِ الخطيرِ أعني تخليدَ الحسينِ وتخليدَ قضيَّتِه. وخطورةُ هذا الدورِ تنشأُ عن أنَّه يقعُ في صراطِ خطِّ الرسالاتِ الإلهيَّة، فالحسينُ (ع)منحةُ السماءِ لأهلِ الأرض.

فتخليدُ الحسينِ كما يحتاجُ على الدوامِ إلى الكلمةِ الواعيةِ والشرحِ والتحليلِ والبيانِ لأهداف ثورتِه ودوافعِها وظروفِها وشعاراتِها وآثارها، ويحتاجُ إلى بيانِ المقامِ السامي للحسينِ الشهيد ومركزِه العقائدي، فكذلك هو يحتاجُ إلى عرضِ ما وقعَ عليه من مآسٍ وفجائعَ ضجَّت لها السماءُ قبلَ الأرض.

وحين تُستعرضُ المأساةُ فإنَّ حقَّها أنْ تُوظَّفَ لها كلُّ وسائلِ التأثير، وإلا كان عرضُها مفضياً لتفريغها من وهجِها وحرارَتِها التي هي عليه واقِعاً.

وهنا تكمنُ أهميةِ الدورِ الذي ينهضُ به الخطباء والأدباءُ والشعراءُ والمنشِدونَ والملهَمونَ، ثم إنَّ للإداراتِ دوراً بالغَ الأهمية، ذلك لأنَّهم يُهيئونَ الأجواءَ والمناخَ الذي يُمارِسُ فيه كلُّ الشرائح -التي ذكرناها- أدوارَهم ولو لم يكن الأمرُ كذلك لتبعثرت جهودُ هؤلاءِ المخلصين ولضاعتْ في خُضمِّ الاهتماماتِ والمؤثراتِ الأخرى والكثيرةِ في هذه الحياة.

ثمَّ إنَّ لتفاعلِ الجماهير واستجابتِهم للمؤثراتِ المذكورة وقعاً خاصاً يُضفي على جهودِ هؤلاء حُلةً زاهيةً ما كانت لتظهرَ بهذا المظهرِ الخَلاَّبِ والمهيبلولا استجابتُهم وتفاعلُهم.

وما ذكرناه ليس تأكيداً لما ينبِزُ به البعضُ من أنَّنا نعتمدُ العاطفةَ وسيلةً لتخليدِ قضايانا، فالأمرُ ليس كذلك، إذْ لَو لَمْ يَدْعُ من أحدٍ لإحياءِ عاشوراءَ، لانبرى كلُّ هؤلاءِ الكرام لإحيائِها، وذلك انسياقاً مع إنسانيَّتِهم وتديُّنِهم، لأنَّ قضيةَ الحسينِ هي التي أوحتْ لهم بأن ينهضوا بهذه الأدوار. فإنسانيةُ القضيَّةِ وربَّانيتُها هي الخلاَّقةُ للشعراءِ والأُدباءِ والموهوبين، وهي التي ألقَتْ بجلالِها على قلوبِ الأخيار فأحدثتْ فيها همَّاً وغمَّاً.

فانبجَست من تلك القلوبِ ينابيعُ دفَّاقةٌ تمكَّنت، ورغمَ تمادي الزمن أنْ تُغذِّيَ العشقَ والذوق، وأن تجمعَ حول ضفافِها المتعطِّشينَ لمعاني الفضيلةِ والوالهينَ والمتيَّمينَ بسجايا الخير، والناقمينَ على الشرور والظلمِ والاستبداد، والباحثينَ عن الحرِّيةِ والعدالةِ والذينَ أنهكهمُ الفقرُ والجشعُ واستبدَّ بهمُ الحزنُ والأسى، وعبثَت بمشاعرِهم صروفُ الدهرِ القاسية، فوجدوا في هذه الضفافِ موئلاً ومُنتَجعَاً تستريحُ عندها أرواحُهم المثقلة، ومَرهَماً تتعافى برمالِها جوارحُهم المُنهَكة، وبلسماً يُسكِّنُآلامَ جراحاتِهم النازفة، ورِواءً يُبلِّلُ الشفاهَ الظامئة.

من أجل هذا تجدُ الأجيالَ جيلاً بعد جيلٍ تتحلَّقُ حولَ هذه الضفاف، وتستمسكُ برمالِها وتستنشقُ عَبقَ أريجِها بشغفٍ ولهفةٍ دون أنْ يدفعَها من أحدٍ سوى ما تجدُه من جذبةٍ قاسرة تُوحي إليهم أنَّ الطريقَ من هنا وأنَّ الخلاصَ من هنا.

فما من فئةٍ أيَّاً كانت إمكانياتها وملكاتها قادرةٌ على أن تحتفظَ بقضاياها وهَّاجةً نابضةً فاعلة لو لم تكُن قضاياها مؤهلةً للحياةِ والفاعليَّة، وها نحن نشاهدُ الشعاراتِ والراياتِ تتهاوى وتذبُلُ وتفقدُ بريقَها ونضارتَها، ولا تجدُ بعد حينٍ من يَنشدُها رغم انَّها تبحثُ عن حمَلَة، وتموتُ كما يموتُ رموزُها، ويتخَطَّاها الزمنُ بعدَ أن ضجَّ بها وامتلأت جنباتُه بصخَبها، وذلك لأنَّها لا تستحقُ الحياة. وأما رايةُ الحسين (ع) فلا يُضفي عليها تعاقبُ الزمن وتطاولُه إلا مزيداً من التوهُّجِ والبريق والتألقِ.

ونحن عندما نُحيي عاشوراء لا يكونُ ذلك عن غرضٍ شخصيٍّ أو فئوي، وإنَّما هو عن شعورٍ يتملَّكُنا ويُوحي لنا أنَّ طريقَ الإنسانيةِ يقعُ في صراط الحسين وأنَّ الكرامةَ والعزةَ لا تُتاحُ إلا بالحسين، وأنَّ الأغلالَ التي تُثـقلُ كاهلَنا إنَّما تتحطَّمُ عندما نسلكُ خطَّ الحسين، وإن الظمأ الذي يُلهبُ أحشاءنا لا يرويه سوى معينِ ينبوعٍ فجَّرته دماءُ الحسين، فالقلوبُ التي تتلمَّظ من مرارةِ الفقرِ والحرمانِ والتعسُّفِ والابتزاز تجدُ في ظلامةِ الحسينِ سلوةً ومبعثاً تتبدَّدُ بعنفوانِه قوى الظلام وتتصاغرُ أمامَ كبريائه سماسرةُ الشر.

وعندها نجدُ إنسانيتَنا وتَحيى قلوبُنا، ومن هنا نجدُ أنفسَنا مندفعين نحو تخليدِ الحسين، لأنَّ في تخليدِه تكمنُ إنسانيتُنا، وحينما نبتعدُ عن الحسين نكونُ قد ابتعدنا عن إنسانيتِنا، فبالحسينِ نحيى وبجهودِنا المخلصةِ لله تعالى يُصبحُ الحسينُ حاضراً في ضميرِ الأمم.

ولكن تذكروا أيُّها الإخوةُ الأعزاء انَّ الانضباطَ التامَّ والشاملَ بضوابطِ الشرعِ الحنيف، والوعيَ لخطورةِ وأهميةِ ما تقومونَ به من أدوار، والحرصَ الشديدَ الشديدَ على التهذيبِ والتصحيحِ والتطويرِ هي العناصرُ الثلاثة المقتضيةُ لتعاظمِ أثرِ الاحياءِ في الدنيا والآخرة، والإغفالُ أو الإهمالُ لهذه العناصرِ أو بعضِها قد يُنتجُ نقيضَ الأثرِ الذي نستهدفُه ونرجوه من الإحياء لموسم عاشوراء.

تحيةً لكم أيها العاشقون لخطِ الحسين، تحيةً للأقلام التي تروي لنا ملاحم الحسين، وتحية لنشيد الشعراء وحناجر الخطباء وإيقاعاتِ المنشدين، وتحيةً لنشيج النساء والرجال عندما تندبُ الحسين، وتحية لكل ريشة سخَّرها الملهمون للتعبير عن مأساة الحسين. وتحية لكل من وقف يحكي لنا صوراً من بطولات الحسين.

وتحية للنادبين والنادبات واللاطمين صدورَهم واللاطمات.

وتحية لكل من بنى وشيَّد، ولكل من بذل وسعى، وتحية لكلِّ من أدار ونظَّم، وتحية لكل مظاهرِ الحزن والعزاء، تحية لواعية الحسين.

رحم الله الصرخاتِ التي كانت من أجلِ الحسين (ع)

رحم الله العبراتِ التي سالت حزناً وأسىً على الحسين (ع)

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

3 / محرم / 1425هـ

24 / فبراير/ 2004م