متى يكونُ استناد المشهور للخبر جابراً لضعفه

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

درسنا في الفقه أنَّ عمل الاصحاب جابرٌ لضعف سند الرواية ولكن اشترط بعضُهم أنْ لا يكون عملُهم بها ناتجًا من احتماليَّة تصحيح الرواية وفق مبانيهم، فهل هناك طريقٌ لاثبات ذلك؟ أي ما هو الطريق لمعرفة أنَّهم عملوا بالرواية الضعيفة مع اعتقادهم بضعفها؟

الجواب:

لا طريق للتثبَّت من ذلك إلا بمراجعة كلماتِهم للوقوف على منشأ اعتمادهم على الرواية فإنْ صرَّحوا بضعفِها ورغم ذلك استندوا إليها في مقام الفتوى أو لم يصرِّحوا بضعفها ولكن علمنا من مبانيهم الرجاليَّة والأصوليَّة أنَّ مقتضاها هو البناء على ضعف الرواية ففي مثل أحد هذين الفرضين يمكنُنا التثبُّت من أنَّ المشهور اعتمدوا الرواية واستندوا إليها رغم بنائهم على ضعفِها وبذلك يتحقَّق الشرط المذكور لانجبار الضعف بعمل المشهور، وفيما عدا ذلك لا طريق لإحراز أنَّهم استندوا للرواية رغم بنائهم على ضعفها.

إلا أنَّ الكلام في تماميَّة هذا الشرط لكبرى الانجبار بمعنى أنَّه هل حقًّا يشترط في جابريَّة عمل المشهور لضعف السند إحراز أنَّ عملهم بالرواية تمَّ رغم بنائهم على ضعفِها؟

أقول: لو كان الشرط المذكور معتبرًا في جابريَّة عمل المشهور لضعف السند لما كان لهذه القاعدة موردٌ في الفقه أو لكانت مواردُ تطبيقها في غاية الندرة، وذلك لأنَّ المقصود من المشهور الذين يكون استنادُهم للرواية جابرًا لضعفِها هو مشهور القدماء دون المتأخِّرين من الفقهاء، ومن الواضح أنَّ أكثر كتب فقهاء القدماء لم تصلْ إلينا، نعم وصلت إلينا الكثيرُ من آرائهم مجملةً أو مجرَّدة من طريق مثل الشيخ الطوسي (رحمه الله)، فالشيخُ الطوسي مثلًا ينسبُ قولًا إلى المشهور أو يُخبر عن قيام الإجماع على قولٍ فنعرفُ من ذلك رأي المشهور إجمالًا، وهذا هو مرادنا من وصول أراء المشهور مجملة، وقد ينقلُ الشيخ الطوسي (رحمه الله) فتاوى بعض القدماء ويُسمِّيهم ولكنَّه لا يذكر مستندَهم فيما أفتوا فيه، وهذا هو مرادُنا من وصول آرائهم مجرَّدة أي أنَّها مجرَّدة عن بيان مستندِهم، فأكثرُ كتب القدماء لم تصل إلينا وإَّنما وصلت إلينا آراؤهم مجملةً أو مجرَّدة، وأمَّا المقدارُ الذي وصل إلينا من كتبِ القدماء فمتونُها إمَّا أن تكون فتاوى مجرَّدة أو تكون مشتملةً على الاستدلال بالروايات ولكن دون توصيفها بالصحَّة أو الضعف، ولا طريقَ لنا غالبًا للوقوف على مبانيهم الرجاليَّة والأصوليَّة ليُتاح لنا معرفة تصحيحِهم أو تضعيفهم لهذه الرواية أو تلك، فأكثرُ القدماء الذين وصلتنا كتبُهم الفقهيَّة لم يتصدَّوا فيها لبيان مبانيهم الأصوليَّة والرجاليَّة، نعم قد تتمُّ الإشارة لذلك أو يُمكن التصيُّد لبعض مبانيهم من بعض كلماتهم ولكنَّ ذلك -لشحتِه وإجماله- لا يُصحِّح لنا إحراز رأيهم في هذه الرواية أو تلك من حيث السند.

وعليه لو كان يشترطٌ في انجبار ضعف سند الرواية إحراز أنَّ مشهور القدماء عمِلوا بها مع بنائهم على ضعفها سندًا، لو كان هذا الشرط معتبرًا في تحقُّق الاِنجبار لَما كان لهذه القاعدة موردٌ أو لكانت مواردُها في غاية الندرة.

وكيف كان فالصحيحُ أنَّ الشرط المذكور غيرُ معتبرٍ في انجبار ضعف سند الرواية بعمل المشهور فيكفي إحرازُ استنادهم للرواية -في مقام العمل والفتوى- للبناء على انجبار ضعفِها سواءً أحرزنا أنَّها ضعيفةٌ عندهم أو عند بعضِهم أو لم نُحرز بل حتى لو أحرزنا أنَّها صحيحةٌ عندهم أو عند بعضِهم، فمجرَّد إحراز الاِستناد من قِبَلهم للرواية الضعيفة كافٍ لجبر ضعفِها بناءً على تماميَّة كبرى الاِنجبار، بمعنى أنَّ الرواية الضعيفة عندنا إذا استند إليها مشهورُ القدماء في مقام الفتوى فذلك كافٍ في انجبار ضعفِها سواءً كانت ضعيفةً عندهم ومع ذلك استندوا إليها أو كانت صحيحةً عندهم أو لم نُحرز أنَّها ضعيفةٌ أو هي صحيحةٌ عندهم.

ومنشأُ ذلك أنَّ عمدة ما يُمكن أنْ يستدلَّ به على صحَّة كبرى انجبار ضعف السند بعمل المشهور هو منطوق آية النبأ: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(1) بتقريب أنَّ استناد مشهور القدماء في مقام الفتوى إلى روايةٍ نحوٌ من التبيُّن المُعتبر في حجيَّة الخبر، فكما أنَّ التثبُّت من صدق الراوي وسيلةٌ من وسائل من التبيُّن المصحِّح لإعتماد الخبر الذي جاء به الفاسق كذلك استنادُ مشهور القدماء القريبين من عصر النصِّ والعارفين بأحوال الأخبار والرواة يكون وسيلةً عقلائيَّة من وسائل التبيُّن المصحِّح لاعتماد الخبر الضعيف سندًا عندنا.

وهذا المَدركُ لو تمَّ فإنَّه يطَّرد في كلا الفرضين فسواءً كان الخبرُ ضعيفًا سندًا عند القدماء أو كان صحيحًا عندهم أو لم نُحرز شيئًا من ذلك فإنَّ استنادهم إليه في مقام الفتوى يكشفُ عن تثبُّتهم مجتمعين من صدقِه، ومن ذلك يحصلُ الوثوق عندنا بصدقِه وإنْ كان ضعيفًا عندنا من حيثُ السند، لأنَّ توافقَ مشهور القدماء القريبين من عصر المعصومين (ع) وهم الأثبات وذوو الورع، توافقُهم على الاِستناد في الفتوى إلى هذا الخبر يُعدُّ بنظر العقلاء وسيلةً من وسائل التبيُّن المصحِّح لحجيَّة الخبر بمقتضى منطوق آية النبأ.

وخلاصة القول: إنَّه لو احتملنا أنَّ منشأ استناد المشهور للرواية في مقام الفتوى هو بناؤهم على صحَّتها بل ولو أحرزنا أنَّ منشأ استنادهم للرواية هو بناؤهم على صحَّتها سندًا فإنَّ ذلك لا يضرُّ بصلاحيَّة استنادهم لجبر سند الرواية لو كانت ضعيفةً عندنا، وذلك لأنَّ منشأ القول بجبر الضعف باستناد المشهور هو أنَّ استنادَهم مجتمعين يُعدُّ بنظر العقلاء وسيلةً من وسائل التبيُّن الموجبة للوثوق بصدق الخبر والذي هو ملاك الحجيَّة للخبر، فإنَّ الخبر لو كان ضعيفًا عندهم ومع ذلك توافقوا على الاِستناد إليه فإنَّ ذلك يكشف عن أنَّهم اطَّلعوا -نظرًا لقربِهم من عصر النصِّ- على قرائن تُوجب الوثوق بصدقه، وكذلك لو كان الخبر صحيحًا عندهم فإنَّ توافقهم على صحَّته سندًا يكشف عن اطِّلاعهم على قرائن تُوجب الوثوق بصحَّته خصوصًا وأنَّ صحة الخبر عند القدماء لا تعني وثاقة رواته بل تعني اشتماله على قرائن تُوجب الوثوق بصدقِه، على أنَّه لو كان منشأ التصحيح هو الاِعتقاد بوثاقة رواة الخبر فإنَّ اعتقاد المشهور بذلك نشأ حتمًا عن قرائن أوجبت لهم الوثوق بوثاقتهم أو بصدقهم، فإذا كانت قرائن الصدق في الخبر الضعيف أوجبت جبر الضعف وهي قرائن حدسيَّة فلماذا لا تكون القرائن التي اعتمدوها لتصحيح سند الخبر موجبةً لجبر الخبر الضعيف عندنا والحال أنَّ القرائن في الموردين حدسيَّة، فإمَّا أنْ تكون موجبةً للجبر في الموردين أو لا تكون موجبةً للجبر في الموردين، أي أنَّ القرائن التي توافقوا على اعتمادها إمَّا أنْ تكون موجبةً للوثوق عندنا بصدق الخبر في الفرضيين أو لا تكون موجبةً للوثوق بصدق الخبر في الفرضين، والتفصيل لا يعدو التحكُّم بعد أنْ كانت القرائن في الفرضين حدسيَّة.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الحجرات / 6.