مدلولُ الكراهة في النصِّ الشرعي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى أنَّ استعمال الكراهة في النصوص يدلُّ على الحرمة، وذلك لأنَّ معنى كرِه الشيء أبغضه، فتكونُ دالَّة على الحرمة بالدلالة الاِلتزاميَّة، لأنَّ لازم المبغوضيَّة الحرمة، فما لم تقم قرينةٌ على الجواز فلابدَّ من الالتزام بالحرمة، هذا ولكن يُمكن أنْ يُلاحظ على هذا القول بأنَّ المبغوضيَّة أعمُّ من الحرمة، لأنَّ الحرمة هي تلك الدرجة من المبغوضيَّة التي تمنعُ من ارتكابها، ولا يُعلم أنَّ هذه الدرجة من المبغوضيَّة حاصلةٌ في المورد الذي يُعبَّر فيه عنها بالكراهة، فلعلَّها مبغوضية بدرجةٍ لا تصلُ إلى تلك الدرجة، والأصل عدم الزيادة، والأصلُ عدم الحرمة أيضًا، فماذا تقولون؟

الجواب:

مبنى السيد الخوئي (رحمه الله) في مدلول الكراهة مناسبٌ لمبناه في مدلول النهي، فهو لا يرى أنَّ النهيَ يدلُّ بالوضع على الحرمةِ وإنَّما يدلُّ بالوضعِ على الزجر وطلبِ الترك الأعمِّ من الاِلزاميِّ وغيره، وإنَّما تنشأُ دلالةُ النهي على الطلب الالزاميِّ بواسطة مُقدِّمةٍ خارجيَّة، وهي إدراك العقل للزوم الاِنتهاء عند نهي المولى (جلَّ وعلا) أداءً لحقِّ الطاعة.

وكذلك هو مبناهُ في مدلول الأمر فهو لا يدلُّ بالوضع على أكثرِ من البعث نحو متعلَّق الأمرِ وطلبِ فعلِه، وأمَّا ظهورُه في إفادِة اللزوم فهو ناشئٌ عن إدراكِ العقل للزوم الانبعاثِ عن بعثِ المولى جلَّ وعلا.

وعليه فإذا كانت الكراهةُ تعني المبغوضيَّة فهي تُساوقُ معنى النهي أي أنَّ مدلولَ لفظِ الكراهة هو النهيُ عن متعلَّقها، وإذا كان متعلَّق الكراهة منهيًّا عنه فيلزمُ بمقتضى إدراك العقل الانتهاءُ عنه أداءً لحقِّ الطاعة للمولى إلا أنْ يُرخِّص في ارتكابِه. فكما أنَّه لا يصحُّ ارتكابُ متعلَّقِ النهي المولوي إلا أنْ يُرخِّص المولى في ارتكابِه فكذلك هو متعلَّق الكراهة.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ مادَّة الكراهة المُستعملَة في النصِّ الشرعي هي في المآل من أدواتِ النهي لذلك يُمكنُ تقريبُ دلالتها على الحرمة بنفس التقريب الذي يُستدلُّ به على دلالة النهي على الحرمة. نعم لو كانت الحرمةُ المستفادةُ من النهي ناشئةً عن الوضع فحينئذٍ لا يصحُّ البناء على إفادة الكراهة للحرمة إلا بعد مراجعة ما هو الموضوع له لفظُ الكراهة إلا أنَّ الأمرَ لم يكن كذلك بحسب مبنى السيد الخوئي (رحمه الله تعالى).

هذا مضافًا إلى أنَّه يمكن الاِدِّعاء بأنَّ المُستظهَر عُرفاً من مدلول لفظ الكراهة هو المبغوضيَّة المقتضية للمنعِ المساوقِ للتحريم وأنَّ الذي نشأ عنه التوقُّف فيما هو المستفاد من لفظِ الكراهة هو ما استجدَّ من اصطلاح.

ويُمكن تأييدُ ذلك بالعديد من الاستعمالات للفظِ الكراهة في الاِلزام، وكذلك يُمكن تأييده بالكثير من الروايات التي استعملت لفظ الكراهة في الحرمة:

منها: صحيحة مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَقَالَ لَه رَجُلٌ: بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي إِنَّنِي أَدْخُلُ كَنِيفًا لِي، ولِي جِيرَانٌ عِنْدَهُمْ جَوَارٍ يَتَغَنَّيْنَ ويَضْرِبْنَ بِالْعُودِ فَرُبَّمَا أَطَلْتُ الْجُلُوسَ اسْتِمَاعًا مِنِّي لَهُنَّ فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ فَقَالَ الرَّجُلُ: واللَّه مَا آتِيهِنَّ إِنَّمَا هُوَ سَمَاعٌ أَسْمَعُه بِأُذُنِي فَقَالَ: لِلَّه أَنْتَ أمَا سَمِعْتَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْه مَسْؤُولًا﴾(1) فَقَالَ: بَلَى واللَّه لَكَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ بِهَذِه الآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّه مِنْ أَعْجَمِيٍّ ولَا عَرَبِيٍّ، لَا جَرَمَ أَنَّنِي لَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّه، وأَنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّه فَقَالَ لَه: قُمْ فَاغْتَسِلْ وسَلْ مَا بَدَا لَكَ فَإِنَّكَ كُنْتَ مُقِيمًا عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مَا كَانَ أَسْوَأَ حَالَكَ لَوْ مِتَّ عَلَى ذَلِكَ احْمَدِ اللَّه وسَلْه التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَه فَإِنَّه لَا يَكْرَه إِلَّا كُلَّ قَبِيحٍ والْقَبِيحَ دَعْه لأَهْلِه فَإِنَّ لِكُلٍّ أَهْلًا"(2).

فقوله (ع): "وسَلْه التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَه فَإِنَّه لَا يَكْرَه إِلَّا كُلَّ قَبِيحٍ والْقَبِيحَ دَعْه" ظاهرٌ جدًّا في استعمال لفظ الكراهة في المبغوضيَّة الشديدة المقتضية للحرمة.

ومنها: معتبرة الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، عن عليٍّ (عليه السلام) قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَن تزيَّن للناس بما يُحبُّ الله، وبارزَ اللهَ في السرِّ بما يَكرهُ الله، لقيَ الله وهو عليه غضبان، -و- له ماقت"(3).

والروايات في ذلك كثيرة جدًّا إلا أنَّها لا تصلحُ إلا للتأييد نظرًا لكون أكثرها مكتنفاً بقرينةٍ أو أكثر على ارادة الحرمة، فلعلَّ منشأ ظهورِها في الحرمة احتفافُها بالقرينة المقتضية لإفادة الحرمة، وأمَّا الروايات المجرَّدة عن القرينة فهي مورد النزاع.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الإسراء / 36.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج6 / ص432.

3- وسائل الشيعة  الحر العاملي- ج1 / ص68.