إبراهيم لم يتَّخذ الشمس والقمر والنجوم أرباباً

شبهة مسيحي:

في سورة النساء يقول القرآن: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾(1) والشرك هو اتِّخاذ آلهةٍ مع الله أو دونه إلا أنَّه نجد في سورة الأنعام أنَّ إبراهيم اتَّخذ الشمس والقمر والنجوم آلهةً من دون الله، وهذا شركٌ بيِّن في حين أنَّ إبراهيم يُؤمن المسلمون أنَّه معصوم مثل كلِّ الأنبياء ولم يُشرك أبداً؟!

الجواب:

يُمكن الإجابة بثلاث إجابات:

أولاً: جواب جدلي

تمهيد: تفسير الشرك الذي لا يُغفر

إنَّ معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾ هو أنَّ خطيئة الشرك إذا امتدَّ أمدُها إلى آخر العمر، فمات الإنسان وهو مشركٌ بالله تعالى فإنَّ هذه الخطيئة لا تُغفر له أبدا، وما عدا هذه الخطيئة من الذنوب فهو معلَّقٌ على المشيئة الإلهيَّة فإنْ شاء اللهُ تعالى غَفرَ وإنْ شاء لم يغفر.

فليس المراد من الآية المباركة أنَّ المشرك لو أقلعَ عن خطيئة الشرك صادقاً فأسلم لربِّه ووحَّده فإنَّه لا يُغفر له، فإنَّ ذلك غير مرادٍ قطعاً من الآية المباركة، لوضوح أنَّ أكثر الأنبياء بما فيهم نبيُّ الإسلام كانوا قد بُعثوا لأقوامٍ مشركين، فكانوا يدعونهم إلى دين الله تعالى وتوحيده ونبذِ عبادة الأوثان، ويعِدونهم رضوانَ الله تعالى وجنَّته إذا تركوا الشرك واتَّبعوا دعوة الأنبياء.

وهذا المعنى يتَّضح بأدنى تأمُّل، ولا يسترعي من الباحث سوى الوقوف السريع على الآيات الكثيرة المتصدِّية لبيان خطابات الأنبياء لأقوامهم وكيف كانوا يدعونهم إلى نبْذ الشِرك ويعِدونهم إنْ هم عبدوا الله وحدَه أنْ يغفِرَ لهم ويجزيهم يوم القيامة جنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيم، وإنْ هم لم ينتهوا عمَّا هم عليه من الشرك فإنَّ مآلهم إلى جهنَّمَ وبئس المصير. فالوعيد بجهنَّم إنَّما هو لمَن بقيَ على شِرْكه وغيِّه حتى مات، وأمَّا مَن ثابَ إلى رشده وعبدَ ربَّه تعالى ووحَّده فإنَّ الله تعالى وعدَهُ مغفرةً منه ورحمة.

ومن أمثلة ما أفاد هذا المعنى من آياتِ الله جلَّ وعلا هو قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ / لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ / أَفَلَا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2).

فالواضحُ من هذه الآيات أنَّها تدعو المشركين من النصارى اللذين يزعمون أنَّ الله تعالى ثالثُ ثلاثة، تدعوهم إلى التوحيد الخالص لله جلَّ وعلا وتُحذِّرهم ممَّا قضاه الله تعالى على نفسه من تحريم الجنَّة على كلِّ مشركٍ إذا مات على شرْكِه، وليس مَن مات وقد أقلع عن الشِرك، وذلك بقرينة أنَّها علَّقت الوعيد بالعذاب على عدم الإنتهاء عن القول بالتثليث، وبقرينة أنَّها حضَّت القائلين بالتثليث على التوبة إلى الله تعالى من هذه العقيدة الباطلة وبشَّرتهم بأنَّ الله غفور رحيم.

لو سلّمنا جدلاً .. فما المحذور؟!

فإذا إتَّضح أنَّ الشرك الذى أفادت الآيةُ من سورة النساء أنَّ الله لا يغفرُه إنَّما هو الشرك الذي يموت الإنسان وهو معتقدٌ به فحينئذٍ لا يكون ثمةَ من محذورٍ في الإلتزام ولو جدلاً بأنَّ إبراهيم (ع) كان في صباه أو في مُقتبَلِ عمره على غير التوحيد الخالص ثم إنَّ الله تعالى قد يسَّر له فمنحَه رشده والهدايةَ إلى توحيده حتى أصبح إمام الموحِّدين وصرف عمره الشريف كلَّه في الدعوة إلى توحيد الله جلَّ وعلا ونبْذِ العبادة لغيره، فناكفَه قومُه ونابذوه وكادوا يقتلونه حرقاً بالنار فأَنجاهُ اللهُ تعالى منها، فلم يكن بوسعِه إلا أنْ يُهاجر عنهم ماضياً في دعوته إلى التوحيد غير عابئٍ بشديد المشاقِّ التي اعترضتْهُ في هذا السبيل.

فالإلتزام جدلاً بأنَّ إبراهيم (ع) لم يكن في مقتبل عمره على التوحيد الخالص غير ضائرٍ بعد أنْ لم يكن ذلك مانعاً من الدخول في رضوان الله وغفرانه إذا تمَّ للإنسان الرجوع إلى توحيد الله تعالى مختاراً صادقاً قبل موته، ثم إنَّ ذلك لا يُنافي الإعتقاد بعصمة إبراهيم الخليل (ع)، لأنَّ العصمة إنَّما تكون للأنبياء، ولا ريب في أنَّ إبراهيم (ع) حيمنا صار نبيَّاً كان في أعلى مراتب التوحيد الخالص لله جلَّ وعلا.

والدليل على أنَّ ما ورد في سورة الأنعام كان قد وقع من إبراهيم (ع) في مقتبل عمره هو أنَّه كان يدعو للتوحيد ونبْذ الشرك وهو في عمر الفتوَّة كما صرَّح بذلك القرآن الكريم في مقام الإخبار عمَّا وقع لإبراهيم (ع) بعد تحطيمه للأصنام: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ / إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ / قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾(3) إلى قوله تعالى: ﴿قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ / وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ / فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ / قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ / قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾(4) فهو حين كان يدعو للتوحيد والعبوديَّة لربِّ السماوات والأرض وفاطرِهُن كان في عمر الفتوَّة كما صرَّحت بذلك الآيات، وكما هو ظاهر لحْن الآيات التي اشتملت على دعوة إبراهيم لأبيه وعقْده العزم على اِعتزالهم بعد اليأس من قبولهم لدعوته والتي امتدَّت ردحاً من الزمن، وقد أفادت الآيات أنَّه بعد اعتزاله لهم وهجرته عنهم، بعدها وهبَه الله تعالى إسماعيل الذي بنى معه -بعد أنْ كبُر- البيت الحرام قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾(5) إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا / قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾(6) وورد في سورة الصافات: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ / إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ / إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾(7) إلى قوله تعالى: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ / وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ / رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ / فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ / فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾(8) كلُّ ذلك يؤكِّد أنَّ ما وقع لإبراهيم (ع) ممَّا حكته الآيات من سورة الأنعام كان في مقتبل عمرِه الشريف.

ملخَّص الجواب الأول:

إذن لا يكون الإلتزام -ولو جدلاً بأنَّ إبراهيم لم يكن عارفاً بالتوحيد ثم يسَّر الله تعالى له معرفته والإذعان له- ضائراً بعد أنْ لم يكن ذلك مانعاً من الدخول في رضوان الله وعفْوه، وأنَّ الذي لا يناله عفوُ الله وغفرانه إنَّما هو المشرِك الذي يموت على شركه، كما أنَّ ذلك لا يُنافي الإلتزام بعصمة إبراهيم (ع)، لأنَّ عصمته كانت في ظرف نبوَّته، وهو حين صار نبيَّاً كان إمامَ الموحِّدين، هذا أولاً.

ثانياً: جوابٌ آخر

إبراهيم (ع) كان باحثاً:

فإنَّ الآيات من سورة الأنعام ليست ظاهرةً في أنَّ إبراهيم (ع) كان مشركاً وإنَّ أقصى ما يُمكن استظهاره جدلاً من الآيات هو أنَّ إبراهيم (ع) كان باحثاً عن ربِّه، وفرقٌ بين المعتقِد بربوبيَّة غير الله تعالى وبين الباحث عن ربِّه المعتقِد بمقتضى فطرته بوجوده ولكنَّه غير مُدرِكٍ لهويِّته.

فلأنَّ إبراهيم (ع) كان معتقِداً بمقتضى فطرته بوجود ربٍّ له -كما هو ظاهر الآيات- لذلك وجد في نفسه ما يدفعُه للبحث عنه، وحيثُ إنَّ مجتمعه كانوا يعتقدون بربوبيَّة مثل الكواكب والقمر والشمس وأنَّ كثيراً من أصنامهم كانت ترمز لهذه الأجرام السماوية على أنَّها آلهة، فحيثُ إنَّه وجد مجتمعه كذلك وهو في مقتبل العمر لذلك أخذ يبحث عن واقع ما يعتقده مجتمعه فافْترض في مقام البحث والنظر أنَّ الكوكب ربٌّ، فما لبث أنْ قطعَ بأنَّه لا يصلحُ للربوبيَّة، ذلك لأنَّه يظهر ويغيب، ومقتضى أنَّه على غير حالٍ واحد هو أنَّه بالبداهة خاضعٌ للحوادث وواقعٌ في صراط نظامٍ ليس بوسعه إلا الاِنتظام في إطاره، وتلك من علامات المخلوق ذي القدرة المحدودة، والربُّ في مرتَكز إبراهيم الفطري لا يكون مخلوقاً ولا تكون قدرته مقيَّدة، وهذا ما وجده في القمر والشمس أيضاً، لذلك مالبِثَ أنْ أعلنَ البراءةَ من هذه الأرباب المزعومة فقال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾(9) وصار التأمُّل والنظر في هذه النماذج التي افترضها أرباباً مدخلاً للوقوف على الربِّ الحقيقي وأنَّه لا بدَّ وأنْ يكون فاطراً للسماوات والأرض أي خالقاً لكلِّ شيء، لذلك أعلنَ عن نتيجة بحثه بقوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(10).

فسرعةُ الاِنتقال من ربٍّ مزعومٍ إلى آخر حتى أتى عليهم جميعاً في غضون يومٍ وليلة مؤشِّرٌ بيِّنٌ على أنَّه لم يكن قد اتَّخذ شيئاً منها ربَّاً، وإنَّما كان قد افترضَ كلَّ واحدٍ منها ربَّاً ليرى هل هو واجدٌ لِما يجب أنْ يكون عليه الرب.

بيان المنهجيَّة التوحيديَّة في بحث ابراهيم (ع)

1- اِعتماد الإدراك الفطري لوجود الربِّ ووحدانيته:

على أنَّ إبراهيم (ع) كان -كما ذكرنا- معتقِداً بوجود الربِّ وأنَّ لهذا الرب صفاتٍ يجب أنْ يكون واجداً لها، فهو مدرِكٌ بمقتضى فطرته حتميَّة اتِّصاف الربِّ بها، لذلك جعل هذا المُدرَك الفطري مقياسه في سلب الربوبيَّة عن شيء واِثباتها لآخر، فهو حين عدَّد الأرباب المزعومة كان غرضه من ذلك هو عرضها على المقياس المرتكَز في جبلَّته وفطرته، فهو إذن اِفترضها أرباباً في مقام البحث عن الربِّ الذي يُرشِد إليه الدليل الفطري عنده، ولم يتَّخذها أرباباً كما زعم صاحبُ الشبهة، وذلك ظاهر من الآيات من سورة الأنعام: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ / فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ / فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ / إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(11).

فقوله: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ صريحٌ في أنَّه كان فارغاً عن أنَّ له ربَّاً، لذلك حين سقط احتمال أنْ يكون القمر ربَّاً لم يُنكر أصل وجود الرب بل قال: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ ومعنى ذلك هو اعتقاده بحتميَّة وجود الرب وإنْ لم يكن يعرفُه، فهو إذن كان فارغاً عن أنَّ له ربَّاً، وكذلك هو فارغٌ عن أنَّ هذا الرب واحدٌ وليس أكثر وإلا لجمع بين الكوكب والقمر لأنَّ ظهورهما في الأفق يكون في عرضٍ واحد أو متقارب، فهو حين قال للكوكب: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ يكون قد رأى القمر حتماً لكنَّه لم يفترضه ربَّاً لأنَّه لم يفرغ من التثبُّت من أمر الكوكب، وذلك يُعبِّر عن ارتكازٍ عنده أنَّ الربَّ لايتعدَّد، فإذا كان الكوكب هو الربُّ فالقمر لا يكون ربَّاً، وحيثُ إنَّ الكوكب أسرع أُفولاً من القمر لذلك حين سقط اِحتمال ربوبيَّته بأُفوله صار لإبراهيم (ع) أنْ يفترض القمر ربَّاً، وهو يعلم أنَّ الشمس ستُشرق صباحاً ولكنَّه حيث افترض القمر ربَّاً والربُّ لا يتعدَّد فلابدَّ أنْ لا تكون الشمس ربَّاً حتى يتمَّ الفراغ عن عدم ربوبيَّة القمر، فعدم تعدُّد الآلهة كان أمراً مفروغاً عنه في المُرتكَز الفطري لإبراهيم (ع) لذلك لم يفترض الأجرام مجتمِعةً أرباباً.

2- اِعتماد مُدرَكات العقل الفطري لصفات الربّ:

ثم إنَّ إبراهيم (ع) كان يُدرِك بعقله الفطري -مضافاً إلى وجود الرب وأنَّه لا يتعدَّد- أنَّ الربَّ يجب أنْ لا يكون خاضعاً لشيء، لذلك استدلَّ على عدم ربوبيَّة الكوكب وكذلك بقية الأجرام بأُفولها، وذلك لأنَّ أُفولها بعد ظهورها معناه خضوعها لنظامٍ لا يسعها إلا الاِنتظام في دائرته وأنَّ هذا النظام خاضعٌ لإرادةٍ هي أقوى منه ومن المنتظمِين في دائرته، فلأنَّ الربَّ فيما يعتقدُه إبراهيم بمقتضى فطرته يجب أنْ لا يكون خاضعاً لشيء لذلك تنكَّر لربوبيَّة هذه الأجرام، واعتقادُه بأنَّ الربَّ يجب أنْ لا يكون خاضعاً لشيء معناه الاِعتقاد بأنَّ قدرة الربِّ يجب أنْ تكون مطلقة لا يحدُّها شيء، وذلك يُساوق بالبداهة اعتقاده بأنَّ الربَّ لا يكون مخلوقاً، لأنَّ المخلوق محدودُ القدرة.

فظاهر الآيات أنَّ الربَّ فيما يعتقده إبراهيم (ع) يجب أنْ يكون واحداً غير خاضعٍ لشيء، قادراً لا يحدُّ قدرته شيء، وكذلك يجب أنْ يكون حاضراً دائماً لا يحول دون شهوده لعباده شيء، لذلك حينما أفِل الكوكب قال: ﴿لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ﴾ فهذا الذي استدلَّ به إبراهيم (ع) في غضون يومٍ وليلة على عدم ربوبيَّة هذه الأجرام يكشف بما لا يدع مجالاً للشك أنَّه لم يكن قد اتَّخذ شيئاً منها ربَّاً وإنَّما افترضها أرباباً في مقام البحث عن المصداق الحقيقي للرب. لأنَّه إذا كان يعتقد بمقتضى فطرته أنَّ للربِّ الحقيقي صفاتٍ يجب أنْ يكون واجداً لها فذلك يقتضي عدم تعقُّل اِلتزامه بربوبيَّة شيءٍ منها قبل التثبُّت من واجديَّتها لهذه الصفات.

فهذه الآيات تدلُّ على نزاهة أبراهيم (ع) من الشرك لا أنَّها تدلُّ على مساورته للشرك، فالشرك كما يعترف صاحب الشبهة هو اتِّخاذ آلهةٍ مع الله أو دونه، والآيات واضحةٌ في أنَّ إبراهيم لم يتَّخذ هذه الأجرام ولا شيئًا منها أرباباً، فهي ظاهرةٌ في أنَّ إبراهيم كان يعرض هذه الأرباب المزعومة على المقياس الذي كان يُدرك بفطرته أنَّه الذي يتميَّز به الربُّ الحقيقي من غيره، فحيثُ وجد دون مزيدِ عناءٍ أنَّ هذه الأجرام فاقدةٌ للصفات التي يتميَّز بها الربُّ الحقيقي لذلك تنكَّر سريعاً لربوبيَّتها المزعومة.

ملخَّص الجواب الثاني:

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الآيات من سورة الأنعام ليست ظاهرةً في أنَّ إبراهيم (ع) كان مشركاً وقتاً ما بل هي ظاهرةٌ في أنَّه كان عارفاً بمقتضى فطرته بوجود ربٍّ له وأنَّه واحدٌ لا يتعدَّد وأنَّه ليس مخلوقاً ولا تحدُّ قدرته شيء، غايته أنَّه لم يكن عارفاً بالمصداق الحقيقي للرب، لذلك أخذ يبحث عنه معتمداً في تشخيصه على ما يُدركه بفطرته أنَّه المقياس الذي يتميَّز به الربُّ الحقيقي من غيره، وصار يفترض كلَّ ربٍّ مزعومٍ ربَّاً، وبدأ في امتحانه ليرى هل هو واجدٌ للصفات التي هي مقياس الربِّ الحقيقي أو هو فاقدٌ لها أو لشيءٍ منها، فحين وجد هذه الأرباب المزعومة مفتقرةً لما يجب أنْ يكون عليه الربُّ الحقيقي من صفات أنكر ربوبيَّتها وأعلن البراءةَ منها ثم صار ذلك مدخلاً لمعرفته بربِّه وأنَّه الذي فطَر السماوات والأرض بما تشتملان عليه من هذه الأجرام التي يُدَّعى لها الربوبيَّة.

ثالثاً: الجواب الحلِّي

إبراهيم (ع) كان في مناظرةٍ مع قومه:

إنَّ ملاحظة القرائن تقتضي استظهار أنَّ المراد من الآيات من سورة الأنعام هو أنَّ إبراهيم (ع) أراد من كلِّ ما قاله تنبيهَ قومه على خطأ ما هم عليه من الاعتقاد بربوبيَّة هذه الأجرام، فكان ذلك منه وسيلةً للوصول بهم إلى فساد ما يعتقدون، فهو قد اعتمد أسلوب المناظرة التي قد تقتضي التسليم مع الخصم بأمرٍ يلتزم الخصم به استدراجاً له لغرض إيقافه بعد ذلك على اللوازم الفاسدة المترتِّبة على هذا الإلتزام، فيكون ذلك أَدعى لتنبُّه الخصم بل وإذعانه في أحيانٍ كثيرة بخطأ مايلتزم به.

مثالٌ توضيحي:

فقول إبراهيم (ع) للكوكب مثلاً: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ ثم حين أفَلَ قال: ﴿لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ﴾ أشبهُ شيءٍ بقول المناظِر لخصمه المعتقِد مثلاً أنَّ الذي بيده صفيحةٌ من الحديد والواقع أنَّها ليست سوى خشبةٍ صلبة، فيقول المناظِر لخصمه: دعنا نشوي هذا اللحم على هذه الحديدة؛ فإنَّ هذا الخصم حين يعرض هذه الخشبة على النار سيجد أنَّها بعد برهةٍ يسيرة قد اشتعلت، وحينئذٍ سيقول المناظِر له: لو كانت هذه حديدة لما اشتعلت واحترقت.

فهو حين قال لخصمه: دعنا نشوي اللحم على هذه الحديدة لم يكن معتقداً أنَّها حديدة واقعاً، ولكنَّه أراد مجاراة الخصم واستدراجه ليُوقفه على فساد معتقدِه بواسطة إيقافه على ما يلزم معتقده من لوازم لا يسعه الإلتزام بها، فالخصم لا يلتزم بأنَّ الحديد يشتعل بالنار ثم يحترق، فهو إذا وجد أنَّ ما يعتقده حديداً قد وقع له ذلك علِم بأنَّ ما توهَّمه حديداً لم يكن كذلك وأنَّه لم يكن سوى خشبةٍ صلبة.

﴿هَذَا رَبِّي﴾ هي مجاراة للخصم في المناظرة:

فقول إبراهيم (ع) للكوكب: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ أشبهُ شيءٍ بهذا الذي أقرَّ لخصمه بأنَّ ما بيده حديدة وليست خشبة، فكان إقراره لغرض المجاراة للخصم للوصول به إلى خطأ ما هو عليه من معتقَدٍ عندما يقف على لوازم معتقده الباطلة التي لا يسعُه بمقتضى عقله الفطري الإلتزام بها.

فإذا قال إبراهيم (ع) لمناظِره الذي يعبد الكوكب: هذا ربِّي إيهاماً أو مجاراة صار له أنْ يخوض معه مناظرةً ميدانيَّة هادئة وقابلة للإمتداد زماناً إلى حين بلوغه غرضه ومبتغاه من المناظرة، فكأنَّ إبراهيم (ع) قال إنَّ هذا الكوكب ربِّي فلننظر معاً هل هو واجدٌ لصفات الرب، فذلك يحفِّز الخصم على الصبر على المناظرة من جهة وعلى التنبُّه لأمرٍ قد لا يكون متنبِّهاً إليه، فقد يعتقد الإنسان بشيءٍ دون النظر إلى لوازمه ولو نظَر في لوازمه لتغيَّر إعتقاده فيه.

فالأثر البليغ الذي نتجَ عن مجاراة إبراهيم (ع) لعبَدةِ الأجرام هو إيقافهم على لوازم هذه العقيدة بوسيلةٍ من المُفترَض أنْ لا تُحفِّزهم على المكابرة والعناد، فهم بمقتضى جِبلَّتهم وفطرتهم لا يقبلون لأَنفسهم ربَّاً يخضع لإرادةٍ هي أقوى منه تُسيِّره حيثُ تشاء لا حيث يشاء هو، ولا يقبلون لأَنفسهم بمقتضى فطرتهم ربَّاً لا يتمكَّن من نفعهم في كلِّ وقت وعلى أيِّ حال، فحين يُوقفهم إبراهيم (ع) على أنَّ الربَّ الذي يعبدونه ليس إلا كذلك خاضعٌ لإرادةٍ قاهرة، فهو يغيب قسراً ويظهر كذلك قسراً، فهو مُسيَّرٌ لتلك القوة القاسرة التي تُلجئه للظهور في الأفق تارةً وإلى الغيبة تارةً أخرى، وهو كذلك فاقدٌ للنفع غائباً، ولو أراد مربوبُه الاِنتفاع به في غيبته لما أمكن لربِّه هذا أن ينفعه بشيء.

هذه اللوازم التي قد لا يتنبَّه إليها المعتقِد نبَّهَ عليها إبراهيم (ع) بمفاد قوله: لقد أفل الكوكب ولا أُحب الآفلين، فهو قد غاب عن مربوبه عن غير اِختياره ولو طلب منه مربوبُه أنْ يعود للظهور فإنَّه لن يعود إلا في الوقت المقدَّر له، فهل مثلُ هذا واجدٌ لصفة الربِّ التي يُدركها كلُّ أحدٍ بمقتضى فطرته؟!

النتيجة: إبراهيم (ع) كان يُجاري خصومه في المناظرة:

ومحصَّل الكلام أنَّ قول إبراهيم لمثل الكوكب: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ لم يكن إلا لغرض المجاراة للخصم في مقام المناظرة، وذلك لتحفيزه على على التنبُّه معه إلى لوازم معتقده التي من المفترَض في حقِّه عدم الإلتزام بها لو تنبَّه لها، ولولا أنَّ إبراهيم (ع) اعتمد أسلوب المجاراة والاستدراج لكان الغالب أنْ لا يصبر الخصم على مناظرته هذه المدَّة التي امتدَّت ليلةً ونهارها، ولكابَرَ وأغلق عقله عن النظر فيما يُؤشِّر إليه إبراهيم من لوازم هذا المعتقَد، ذلك لأنَّ عبدة الأجرام شأنهم كغيرهم مستمسكون بمعتقدهم.

القرائن الدالَّة على النتيجة:

والذي يُؤيِّد ذلك عددٌ من القرائن:

القرينة الأولى: القضيَّة جرت في سياق مخاطبته لقومه:

إنَّ إبراهيم حين أفلَتْ الشمس قال لقومه: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ وذلك يكشف أنَّه لم يكن وحده وإنَّما كان في مناظرة مع قومه وإنَّ أمد هذه المناظرة قد انتهى بأُفول الشمس، إذ بأُفولها انقطعت كلُّ حجَّةٍ لقومه فكان لابدَّ من إعلان البراءة ممَّا يُشركون، فهو قد تعاطى معهم بمنتهى ما يتَّسع له الصدر، فأظهَرَ لهم الإلتزام بمعتقدهم على أنْ يتمكَّنوا من إثبات أنَّ معبوداتِهم أو أحدها واجدٌ للصفات التي يجب أن يكون عليها الرب بمقتضى ما يُدركه العقل الفطري إلا أنَّهم لم يُفلحوا وأفلحَ هو في إيقافهم على افتقار هذه الأرباب لصفةِ الربِّ الحقيقي، لذلك أعلن البراءة من أربابهم بعد اِنقطاع كلِّ حجَّةٍ لهم، وحينئذٍ خوَّفه قومُه من تبعات براءته من أربابهم، فأجابهم أنا لا أخاف هذه الأرباب، وكيف أخاف من معبوداتٍ زعمتم أنَّ لها الربوبيَّة دون أن يكون لكم على ذلك سلطانٌ وبرهان ولا تخافون أنتم انَّكم أشركتم بالله جلَّ وعلا، إنَّ الأحقَّ بالخوف هو أنتم وإنَّ الأحقَّ بالأمن هو أنا، فمعتقدُكم لم يبتنِ على برهانٍ وسلطان ومعتقدي نشأ عن برهانٍ يقتضيه العقل الفطري، قال تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ / وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(12) فلم يكن إذن إبراهيم (ع) في خلوةٍ يتأمَّل الكونَ وحده يبحث عن ربِّه بل كان في ملأٍ من قومه يُناظرهم، وقد استرعى ذلك منه المناورة والمداراة والاستدراج والمكث غير القصير معهم وحينذاك قطع عليهم كلَّ عذرٍ يعتذرون به.

القرينة الثانية: القضية جرت بعد رؤية ابراهيم (ع) للملكوت!

إنَّ الآيات من سورة الأنعام التي اشتملت على قول إبراهيم للكوكب: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ جاءت متفرِّعة عن قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾(13) بعد هذه الآية قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ وذلك يكشف عن أنَّ إبراهيم (ع) كان حينذاك في أعلى مراتب المعرفة بربِّه، إذ أنَّ الله حينها قد أراه ملكوت السماوات والأرض، وكانت الغاية من إراءته هو صيرورته من المُوقنين، وهي أعلى درجات المعرفة، فإذا كانت الغايةُ الإلهيَّة من إراءة إبراهيم (ع) للملكوت هو أنْ يُصبح من المُوقِنين فإنَّ هذا الأثر يترتَّب حتماً، لأنَّ الإرادة التكوينيَّة لله تعالى لا تتخلَّف، ولأنَّ طبع هذا النحو من الفعل يقتضي ترتُّب الأثر الفوري عليه، فإذا كان الله تعالى قد أرى إبراهيم (ع) فهو إذن قد رأى، فمثل هذا الفعل وأثره يكونان متزامنين كما هو بين الفتح والانفتاح، فإذا قيل إنَّ زيداً فتح الباب فمعنى ذلك أنَّ الباب قد انفتح، وكذلك هي الإراءة، فحيث إنَّ الله تعالى قد أَرى إبراهيم (ع) ملكوت السماوات والأرض فمعنى ذلك أنَّ إبراهيم (ع) قد رأى الملكوت، والرؤية ليست شيئاً آخر غير المعرفة.

فإذا كان إبراهيم (ع) عارفاً بملكوت السماوات والأرض -والذي يعني المعرفة الدقيقة بتفاصيل ما تشتمل عليه السماوات والأرض من الملاء الأعلى وهم الملائكة على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم إلى أضعف ماخلقَه الله تعالى في هذا الكون- فلا يُتعقَّل من مثله أن يتوهَّم الربوبيَّة لشيء هو جزءٌ حقير في ضمن ملكوت لا يعلم بمداه إلا الله تعالى ومَن يسَّر الله له الإحاطة بمعرفته، وذلك يؤكِّد أنَّ قول إبراهيم للكوكب: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ لم يكن قد صدر عنه بنحو الإسناد الجدِّي وإنَّما صدر عنه إمَّا اِستدراجاً للخصم أو اِستهزاءً أو اِستنكاراً، والقدر المتيقَّن أنَّه لم يصدر بنحو الإرادة الجدِّية.

القرينة الثالثة: تصريح خاتمة الآيات:

إنَّ الآيات من سورة الأنعام قد خُتمت بقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾(14) فلو كان ما صدر عن إبراهيم (ع) من قوله: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ كان في مقام الجد إلى أن تبيَّن له الحق بعد ملاحظة أُفول الأجرام لكان المناسب أنْ تختم الآية بالقول وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على نفسه والحال أنَّ الآية قالت: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ وذلك يُؤكِّد أنَّ كلَّ ما حكته الآيات من قول إبراهيم (ع) كان في سياق الاحتجاج منه على قومه.

القرينة الرابعة: السياق لا يستقيم إلّا مع المناظرة:

إنَّ سياق القصة التي حكتها الآيات من سورة الأنعام لا يستقيم إلا مع البناء على أنَّ إبراهيم (ع) كان في مناظرةٍ مع بعض قومه، فهي قد بدأت بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ فهل معنى ذلك أنَّ إبراهيم لم يكن قد رأى الكوكب قبل تلك الليلة؟! ولو سلَّمنا ذلك، فهل أنَّه لم يرَ القمر أيضاً إلا تلك الليلة؟! والقمر لا يكاد يخفى على أحد! وهكذا الشمس، وبمقتضى المعرفة بإبراهيم لا يُمكن أنْ نتعقَّل أنَّ التأمُّل في هذه الأجرام قد هبط عليه فجأةً حتى يُقال إنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ أنَّ تلك الليلة هي أول ليلة بدأ فيها إبراهيم (ع) في البحث عن ربِّه إنَّ ذلك مستبعدٌ غايةَ البُعد، فلو كان إبراهيم (ع) حائراً فيمَن هو ربُّه لأرَّقه ذلك، ولكان هو شغله الشاغل ردْحاً من الزمن لا أنَّه كان سادراً غافلاً ثم يُفاجئه هذا الأمر فيرى الكوكب وكأنَّه لأول مرةٍ قد رآه، ثم ما هذه المبادرة والمسارعة إلى البناء على ربوبيَّة الكوكب إنَّ ذلك لا يتناسب مع الباحث عن أمرٍ خطير كهذا، والمبادرة إلى البناء على الربوبيَّة بل البناء على أمرٍ هو دون ذلك في الخطورة لا يصدر حتى من ضعَفة العقول، ولم يكن إبراهيم منهم قطعاً وإنْ كان في مقتبل العمر، فضعاف العقول لا شغل لهم بذلك، ثم إنَّه لو قلنا إنَّه انبهر بالكوكب فبادر إلى الإقرار بربوبيَّته لكنَّه اكتشف سريعاً عدم ربوبيَّته ألا يجعله ذلك يتروَّى قبل أنْ يُبادر إلى البناء على ربوبيَّة القمر وهو كان قد اكتشف خطأ المسارعة إلى البناء على ربوبيَّة الكوكب، وهكذا قد تكرَّرت منه المبادرة والمسارعة إلى إسناد الربوبيَّة للشمس، إنَّ ذلك لا يُمكن تعقُّل صدوره إلا من أحمق، والشواهد التاريخية والعقائدية تُؤكد أنَّ إبراهيم (ع) كان من أكمل الناس عقلاً. هذا مضافاً إلى أنَّ سرعة اكتشافه عدم ربوبيَّة هذه الأجرام يُعبِّر عن عقلٍ راجح لا يتناسب معه سرعة البناء على ربوبيَّتها.

ثم إنَّ من غير المعقول أنْ لا يكون إبراهيم (ع) قد رأى الشمس قبل تلك الليلة، فكيف غفل عن أنَّها أكبر حتى فاجئه النهار فرآها أكبر؟! إنَّ ذلك أمرٌ لا يمكن تعقُّله، ألم تكن رؤيته لها قبل تلك الليلة بوقتٍ يسير كافية للإعراض عن الكوكب والقمر أو أنَّ وجودها حين جنَّه الليل قد انمحى من ذاكرته؟!

ثم إنَّ إبراهيم حين بزغ الكوكب ألم يكن يعلم انَّه سوف يغيب؟! ألم يكن قد شاهده وقد غاب في ليال سابقة؟! وهكذا القمر أيُمكن أن نتصوَّر أنَّ إبراهيم قد غفل عن أنَّ القمر سوف يغيب أو أنَّه نسي أنَّ الليل سوف يتعقبه نهارٌ حتما؟!

إنَّ كلَّ ذلك يُؤكد أنَّ سياق القصة لا يستقيم إلا مع البناء على أنَّ ابراهيم (ع) كان فيما صدر عنه ساخراً من أحدٍ كان معه أو أنَّه كما هو الأرجح كان في مقام التنبيه لخصمٍ كان معه، فكان خصمه لشدَّة ما هو عليه من رسوخٍ في معتقده غافلاً عن لوازم معتقده الباطلة، فكان على إبراهيم أنْ يستدرجه علَّه يتنبَّه إلى سفاهة ما يعتقده.

فهو حين بزغ الكوكب قال لخصمه هذا هو الكوكب الذي تقولون إنَّه ربي فلننظر هل هو حقَّاً ربي، فانتظرَ حتى أفِل فقال لخصمه إنَّ ربي قد أفل و لا أُحبُّ الآفلين ثم توجَّه مع خصمه أو خصمائه إلى القمر فقال لهم هذا إذن ربِّي ثم إنَّه أفَلَ فقال لهم لا يمكن أن يكون هذا هو ربي، ولأنَّ أُفول القمر لا يُنهي الحجَّة عليهم قال إبراهيم (ع) إنَّ الوصول إلى الرب يحتاج إلى هداية الربِّ نفسه، فهو الذي يُعرِّف عن نفسه بنفسه وإلا لم يكن من سبيل إلى الوصول إليه، لذلك فلننتظر لنرى كيف أنَّ الربَّ الحقيقي الموجود حتماً يُعرِّف عن نفسه، بعدها طلع النهار وأشرقت الشمس فعمَّت بشعاعها أُفق السماء وربوع الأرض، فقال إبراهيم (ع) هذا هو الأجدر من بين هذه الأجرام أنْ يكون ربَّاً فهو أكبرها وأكثرها نفعاً لكنَّها أفلت إذن لا شيء من هذه الأجرام يصلح لأنْ يكون ربَّاً، فالربُّ الحقيقي لابدَّ وأنْ يكون بارئاً لهذه الأجرام والسماوات التي تسبح فيها والأرض ومَن فيها، لذلك قال الله تعالى على لسان إبراهيم بعد أفول الشمس: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

فسياق القصَّة لا يتناسب إلا مع ما ذكرناه من أنَّ إبراهيم (ع) لم يكن جادَّاً فيما قاله من إسناد الربوبيَّة لهذه الأجرام، وإذا لم يكن جادَّاً فلا بدَّ وأنْ يكون معه مخاطَبٌ يُناظره يستدرجه أو يستنكر عليه أو يهزأ به كلُّ ذلك لغرض تحفيزه على التنبُّه إلى سفاهة ما يعتقد به.

الخلاصة:

وبذلك يتبيَّن جليَّاً أنَّ الآيات من سورة الأنعام لا تنسب الشرك إلى إبراهيم (ع) كما توهَّم صاحب الشبهة، فرغم أنَّه لو قبلنا جدلاً بظهورها في مساورة إبراهيم (ع) للشرك آناًما لما كان ذلك ضائراً بعد أنْ كان من المقطوع به أنَّه مات على التوحيد الخالص وأنَّ الذي لا يُغفر له إنَّما هو مَن يموت على الشرك، فرغم أنَّ القبول بظهورها فيما توهَّمه صاحبُ الشبهة لا يُنافي الاعتقاد بأنَّ إبراهيم كان من أهل الرضوان الإلهي إلا أنَّه رغم ذلك لا نسلِّم بظهور الآيات من سورة الأنعام بمساورة إبراهيم للشرك ولو لوقتٍ يسير بل إنَّ التأمُّل في سياقها يُحتِّم استظهار أنَّ إبراهيم كان بصدد الدفاع والدعوة إلى التوحيد الخالص لله جلَّ وعلا.

والحمد لله رب العالمين

من كتاب شبهات مسيحية

للشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 48، سورة النساء / 116.

2- سورة المائدة / 72-74.

3- سورة الأنبياء / 51-53.

4- سورة الأنبياء / 56-60.

5- سورة مريم / 42.

6- سورة مريم / 45-46.

7- سورة الصافات / 83-85.

8- سورة الصافات / 98-102.

9- سورة الانعام / 78.

10- سورة الانعام / 79.

11- سورة الانعام / 76-79.

12- سورة الانعام / 80-81.

13- سورة الانعام / 75.

14- سورة الانعام / 83.