معنى العزَّة والشِّقاق

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو المراد من العزَّة والشقاق في قوله تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ / بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾(1)؟

الجواب:

الآية الشريفة بصدد توصيف الحالة التي عليها الكفَّار الذين بُعث إليهم النبيُّ الكريم (ص) وهي في ذات الوقت تكشفُ عن المنشأ الذي يدفعُهم للكفر والجحود، فليس المنشأ لكفرهم هو عدمُ القناعة أو القصور في دلالة البراهين والحُجج التي يسوقُها الرسول (ص) لإثبات التوحيد والنبوَّة وسائر أُصول العقيدة بل المنشأ لكفرِهم هو حالة العزَّة والشقاق التي هم عليها.

والمراد من العزَّة -ظاهرًا- في الآية الشريفة هو الشعور بالأنَفة والحميَّة المُستحكِمة من نفوسهم، فإنَّ ذلك هو المناسب لكون الآية بصدد الذم للكفَّار، فليس المراد من العزَّة في الآية هو الرفعة الناشئة عن الاِقتدار أو الاستناد إلى مقتدر كما هو مقتضى المدلول الأولي لكلمة العزَّة، فإنَّ العزة بهذا المعنى مختصَّة بالله أصالةً كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾(2) فهو وحده المقتدر والقاهر الذي لا يُقهر وما عداه فهو مفتقرٌ دائمًا ومقهور، وكذلك فإنَّ العزَّة بهذا المعنى صادقة بالتبع على المؤمنين خاصَّة كما قال تعالى ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾(3) ومنشأ عزَّتهم بهذا المعنى هو استنادهم لله المقتدر الذي لا يُقهر، فلا تُتاح العزَّة الحقيقية لغير الله تعالى إلا من طريق الاستناد لربِّ العزَّة جلَّ وعلا كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾(4) وكما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾(5) فمن أراد العزَّة من غير هذا الطريق فإنَّه لن يجدها كما هو مفاد هذه الآية والتي سبقتها.

ومن ذلك يتأكَّد أنَّه لا يمكن أنْ يكون المراد من العزَّة في الآية من سورة (ص) العلو والرفعة الناشئة عن الاقتدار، وعليه فيتعيَّن إرادة الأنفة والاِستكبار من كلمة العزَّة التي وُصف بها الكفَّار في الآية من سورة (ص) فإنَّ هذا هو الاستعمال الآخر لكلمة العزَّة، ومنشأ إطلاق العزَّة على هذه الحالة هو أنَّ واجدها يتوهَّم أنَّه مقتدر ومنيع وأنَّه عاليَ الشأن، فهي عزَّةٌ في وهمه وتخيُّلِه دفعته حيث الأنفة والاستعلاء والاستكبار، فالعزَّة في الآية الشريفة هو معنى العزَّة في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾(6) أي حملته الأنفة والحميَّة على الإثم، فالشعور بالأنفة المستحكِم من نفسه كأنَّه يُلجئُه ويسوقه سوقًا للإثم مكابرةً للآمر له بالتقوى، كذلك هو معنى العزَّة التي وصفت بها الآية من سورة (ص) كفَّار قريش، فإنَّ ما يدفعهم للكفر ليس هو عدم القناعة بل هو ما يجدونه من شعورٍ بمنافاة الإذعان والإيمان لما يتوهَّمونه في أنفسهم من العلو والرفعة وهذا هو معنى الأنفة الناشئة عن الحميَّة أي الناشئة عن الحرص على حماية مواقعهم الاجتماعيَّة وموروثاتهم التي يعتبرونها هويةً لهم.

وأمَّا المراد من الشِّقاق فهو البغضاء والحقد والعداوة الباعثة على العناد والمنابذة، وهو منشأٌ آخر من مناشئ الكفر كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾(7) ومنشأُ هذه العداوة هو الحسد أو الخشية على المصالح الذاتيَّة، فذلك هو ما يحملُهم على الكفر وليس هو عدم القناعة.

ومع التأمُّل في أحوال المكابِرين للحقِّ البيِّن سواءً المتَّصل منه بالأديان أو المتَّصل منه بسائر شؤون العباد نجد أنَّ دوافع المكابرة للحقِّ على اختلاف مظاهرها لا تعدو هذين المنشأين الذَين أشارت إليهما الآية المباركة، فلو تخلَّى الناسُ عن الأنفة والاستعلاء والحميَّة لموروثاتهم ومواقعهم الموهومة وعقدوا العزم على التواضع للحقِّ ولم يبتلوا بالضغائن والحسد لكانت القناعة والإذعان للبرهان والحجَّة البيِّنة أيسرُ شيءٍ على العقول والقلوب، فقابليتهما للقناعة والإذعان فِطْريَّة لولا ما يَحولُ دون ذلك من بواعث العزَّة والشِّقاق.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- سورة ص / 1-2.

2- سورة النساء / 139.

3- سورة المنافقون / 8.

4- سورة فاطر / 10.

5- سورة النساء / 139.

6- سورة البقرة / 206.

7- سورة البقرة / 137.