هل الضرب في آية النشوز يعني التجاهل؟!

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

 ما هو تعليقك على هذا المقال .. وفي آية نشوز الزوجه وعصيانها لزوجها .. اليكم:

"جاء في القرآن الكريم ما فهمه البعض بأنَّه حضٌّ على ضرب المرأة: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(1).

 

ولمَّا كانت معاني الفاظ القرآن تُستخلص من القرآن نفسه، فبتتبع معاني كلمة (ضرب) في المصحف وفي صحيح لغة العرب، نرى أنَّها تعني في غالبها المفارقة، والمباعدة، والإنفصال والتجاهل، خلافًا للمعنى المتداول الآن لكلمة (ضرب)، فمثلًا الضرب على الوجه يُستخدم له لفظ (لطم)، والضرب على القفا (صفع) والضرب بقبضة اليد (وكز)، والضرب بالقدم (ركل).

 

وفي المعاجم: "ضرب الدهر بين القوم" أي فرَّق وباعد و"ضرب عليه الحصار" أي عزله عن محيطه، و"ضرب عنقه" أي فصلها عن جسده، فالضرب إذن يُفيد المباعدة والانفصال والتجاهل، والعرب تعرف أنَّ زيادة (الألف) على بعض الأفعال تؤدِّي إلى تضاد المعنى: نحو (ترِب) إذا افتقر و (أترب) إذا استغنى، ومثل ذلك (أضرب) في المكان أي أقام ولم يبرح (عكس المباعدة والسياحة في الأرض).

 

اسمع معي: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾(2) أي افرق لهم بين الماء طريقا.

 

وقوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(3) أي باعد بين جانبي الماء، والله تعالى يقول: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ﴾(4) أي مباعدة و سفر.

 

وقوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾(6) أي فصل بينهم بسور، و"ضرب به عُرض الحائط" أي أهمله وأعرض عنه احتقارًا.

 

وذلك المعنى الأخير هو المقصود في الآية المظنون أنَّها حضٌّ على ضرب الزوجة: ﴿فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾(7) والآية تحضُّ على الهجر في المضجع والإعتزال في الفراش أي لا يجمع بين الزوجين فراش واحد وإن لم يُجدِ ذلك فهو (الضرب) بمعنى المباعدة، والهجران، والتجاهل، وهو أمر يأخذ به العقلاء من غير المسلمين".

 

الجواب:

الواضح أنَّ التكلُّف والتعسُّف الذي شطَّ بصاحب المقال عن مقتضيات الظهور العرفي لآية النشوز نشأ عن استيحاشه من اشتمال الآية على الحكم بجواز ضرب الزوجة في مقام المعالجة لحالة النشوز الذي صارت إليه والذي يعني استكبارها وتعاليها وتجاوزها لحقوق الزوج دون مبرِّرٍ ودون تراجع. إنَّ عدم الإستيعاب للمبرِّر والملاك الشرعي للحكم بجواز ضرب الناشز أو عدم الإقتناع بذلك لا يُصحِّح اللَّيُّ لعنق النصِّ والتصرُّف في المدلول اللغويِّ للآية والخروج به عن مقتضيات الظهور العرفي المبتني على ملاحظة السياقات اللفظيَّة والقرائن المكتنفة للخطاب والقرائن المنفصلة، ولسنا في المقام بصدد البيان لوجه الحكمة من الحكم بجواز ضرب الناشز وبيان حدوده الذي لا يتعدَّى الضرب الخفيف المعبِّر عن بلوغ المشكلة حدًّا ليس بعده سوى التقويض لبنى العلاقة الزوجية، لسنا بصدد البيان لذلك فقد أفضنا الحديث حوله في مقالٍ مستقلٍّ في كتابنا مقالات حول حقوق المرأة، ولهذا سوف يتمحَّض الحديث في المقام حول بيان الأخطاء اللغويَّة التي وقع فيها صاحب المقال مع الحرص على الإيجاز الشديد.

 

ونبدأ اولًا بالنقض على ما ادَّعاه من أنَّ الغالب في استعمال القرآن لكلمة الضرب كان بمعنى المباعدة والمفارقة والإنفصال والهجران وكذلك ما ادَّعاه من أنَّ ذلك هو ما عليه الصحيح من لغة العرب وهنا سوف نستعرض عددًا وافرًا من آيات القرآن استَعملَ فيها كلمة الضرب في غير المعاني المذكورة وسيتَّضح من ذلك أنَّ الغالبية المدَّعاة ليست تامَّة بل وحتى الكثرة بل إنَّ استعمال كلمة الضرب في شيء من المعاني المذكورة لو تمَّ فإنَّه في غاية القلَّة إذا ما قُورن بالإستعمال في المعاني الأخرى.

 

النموذج الأول: من الآيات قوله تعالى لنبيِّ الله أيوب: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ﴾(8) والضغث هو ملء الكفِّ من الشماريخ (أعواد عذوق النخل) وما أشبه ذلك، والآية تُرشِد نبيِّ الله أيوب لكيفية الإمتثال لمؤدَّى يمينه حيث أقسم قبل التعافي من بلواه أنْ يضرب زوجته ثم تحرَّج من ذلك فقال اللهُ تعالى له خذ عددًا من الشماريخ أو ما أشبهها واضرب بها زوجتك حتى لا تُوجعها، فما معنى الضرب هنا، هل هو بمعنى المفارقة والمباعدة أو الإنفصال أو الهجران؟!! هل يمكن حملها على شيء من ذلك؟!!.

 

النموذج الثاني: قوله تعالى لبني إسرائيل الذين جاؤا لموسى (ع) لطلب البتِّ في قضية قتيلٍ يجهلون بمن قتله، فأمرهم اللهُ تعالى على لسان موسى(ع) أن يذبحوا بقرة وأنْ يأخذوا عضوًا منها ويضربون به القتيل فإنَّه سوف يحيى بذلك ويُخبرهم بمَن قتله، قال تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾(9) فما معنى الضرب هنا هل هو بمعنى المباعدة والمفارقة أو الهجران؟! أو هو بمعنى الطرق على جسد القتيل بشيءٍ من أعضاء البقرة؟.

 

النموذج الثالث: قوله تعالى يحكي ما فعله إبراهيم بالأصنام: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾(10) أي فمال عليهم ضاربًا لهم بيمينه، فما معنى الضرب في الآية أليس هو الطرق والتهشيم؟ وأين ذلك من معنى المباعدة والمفارقة الهجران والإنفصال؟!.

 

فالضرب إمَّا أن يكون مفعولًا مطلقًا جِيء به للتأكيد والتعبير عن الشدَّة في الضرب، فيكون مؤدَّى الآية فضربهم ضربًا باليمين، أو هو مصدر أُريد منه اسم الفاعل فيكون حالًا من إبراهيم (ع) ويكون مؤدَّى الآية فمال عليهم حال كونه ضاربًا لهم باليمن، وعلى كلا التقديرين فإنَّ معنى الضرب لا يكون مناسبًا لشيءٍ من المعاني التي ذكرها صاحبُ المقال.

 

النموذج الرابع: قوله تعالى يحكي ما يقع للكافرين عند الوفاة: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾(11) وقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾(12) فما معنى ضرب الملائكة لوجوه الكافرين أدبارهم، وهل يُمكن حمله على شيءٍ من المعاني المذكورة؟! وهل يفهم العرف منه غير الإيلام بالإيقاع عليهم بما يوجب توجعهم وإذلالهم.

 

النموذج الخامس: قوله تعالى لموسى (ع): ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ﴾(13) فإنَّ المدلول اللغويَّ والعرفيَّ لكلمة الضرب هو الطرق والدقُّ بالعصا على الحجر، وأما الإنفجار فهو الأثر المترتِّب عن الضرب، فالإنفجار ليس هو مدلول الضرب وإلا لم يكن هناك معنىً للقول بعد الأمر بالضرب ﴿فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ﴾ فالإنفجار هو أثرُ الضرب الذي هو الطرق بالعصا على الحجر.

 

ومن ذلك يتَّضح الخلط الذي وقع فيه صاحب المقال في فيما ادَّعاه من معنى قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(14) فإنَّ معنى: ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ ليس هو باعد بين جانبي الماء -كما ادعى صاحب المقال- بل إنَّ الأمر بالضرب استُعمل في معناه اللغوي والعرفي وهو الطرق والإيقاع بالعصا على الماء وأمَّا التباعد الذي حصل بين طرفي الماء فهو الأثر المترتِّب على الماء ولذلك قال تعالى بعد أنْ أمر بالضرب بالعصا ﴿فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ فالإنفلاق حصل بسبب الضرب وليس هو بمعنى الضرب، ولعمري إنَّ ذلك أوضح من أنْ يحتاج إلى إيضاح لولا ما وجدناه من الخلط الغريب الذي وقع فيه صاحب المقال.

 

النموذج السادس: قوله تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾(15) وهنا تنهى الآية النساء عن الطرق بالأرجل على الأرض حتى لا يؤدِّي ذلك إلى إلفات انتباه الرجال فيتعرَّفوا به على ما يُخفين من زينتهن كالخلاخيل والحجول التي كان النساء يتزيَّنَّ بها في أسفل الساق، فأيُّ معنىً من المعاني التي ذكرها صاحب المقال يتناسب مع كلمة الضرب المستعملة في هذه الآية؟! فهل الضرب بالأرجل يعنى الإنفصال أو الإبتعاد والهجران؟!

 

النموذج السابع: قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾(16) ومعنى الخمار هو غطاء رأس المرأة المنسدِل، فكان النساء يُلقين ما ينسدلُ من طرفي الخمار وراء آذانهن فتبدوا لذلك الرقبة وأعلى الصدر -موضع الجَيب- فأمرت الآية بضرب الخمار على الجيب ليستر بذلك الرقبة وأعلى الصدر، فما معنى الضرب هنا أليس هو الإلقاء المستبطِن لمعنى الإحكام وأين ذلك من المعاني التي ذكرها صاحب المقال؟!.

 

النموذج الثامن: قوله تعالى: ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾(17) وقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾(18) وقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾(19) وقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾(20) وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ/ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(21) وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾(22) وقوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ﴾(23) وقوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾(24) هذه بعض الآيات التي استعمل القرآنُ فيها كلمة الضرب وأسندها أو أضافها إلى المثل أو الأمثال، فعلى أيِّ المعاني المذكورة يُمكن تفسير معنى ضرب المثل وضرب الأمثال؟ فهل هو بمعنى المباعدة والمفارقة؟! أو هو بمعنى الإنفصال أو الهجران؟! إنَّ شيئًا من المعاني التي ذكرها صاحب المقال لا يمكن حمل مفاد كلمة الضرب عليها في هذه الآيات وما أشبهها وهي كثيرة تفوق العشرين موردًا، إنَّ المراد من كلمة ضرب الأمثال هو الذكر للأمثال والتبيين والوصف والإخبار، وشيءٌ من ذلك لا يتسق مع المعاني المذكورة، فمثلًا معنى قوله تعالى: ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ ذكرنا وبيَّنَّا ووصفنا لكم الأمثال، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ووصف لنا مثلًا، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾(25) وتلك الأمثال نذكرها ونصفها ونُخبر عنها، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ ولما ذُكر ابن مريم مثلًا، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾(26) واذكر لهم وأخبرهم وهكذا، فأين ذلك من المعاني التي ذكرها صاحب المقال؟!

 

ثم إنَّ التعبير عن الذكر والتبيين والوصف والإخبار بالضرب مجازيٌّ لمكان المشابهة بين الضرب بمعنى الطرق على الشي الحسِّي وبين الذكر والوصف فكلاهما طرق ولكنَّ الطرق قد يكون على شيءٍ مادِّي فيكون الضرب حقيقيًا وقد يكون الطرق على السمع والعقل والنفس فيكون استعمال كلمة الضرب مجازيًا، فالمثل يطرق السمع ويُفاجئ النفس ويردع العقل ويُعيده إلى صوابه لذلك ناسب التعبير عن ذكر المثل بالضرب، فضرب المثل معناه ذكر شيءٍ يتناسب مع ما يُراد بيانه لغرض التأثير والإعتبار أو الإيضاح، فضرب المثل ضربٌ وطرق على العقل ولكن وسيلته الكلام كما أنَّ الضرب على الشيء الحسِّي يكون بوسيلةٍ مثلِ جارحة اليد أو الرجل أو العصا أو السيف.

 

النموذج التاسع: قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾(27) وقوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾(28) وقوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾(29) فمعنى ضُربت في هذه الآيات هو وُضعت وفُرضت وثبتت عليهم ولزمتهم الذلَّة والمسكنة وشملتهم وأحاطت بهم وسيأتي مزيد توضيحٍ لهذا النموذج.

 

هذه نماذج استعمل فيها القرآن كلمة الضرب بمختلف اشتقاقاته، وهي مستوعبة لأكثر استعمالات القرآن لهذه الكلمة وما لم نذكره يشبه في مدلوله واحدًا من النماذج التي ذكرناها، فلم تبق سوى موارد محدودة منها الموارد التي ذكرها صاحب المقال وسوف يتضح أنَّها لا تعني شيئًا من المعاني التي توهَّمها، فأين هي دعوى أنَّ غالبية استعمال القرآن لكلمة الضرب يعني أحد المعاني التي ذكرها؟!

 

وأمَّا النقض على ما ذكره من استعمالات العرب فنكتفي بذكر نماذج استعمل فيها العرب كلمة الضرب في غير المعاني التي ذكرها صاحب المقال:

 

الأول: تقول العرب: وضَرَبَ الفحلُ الناقةَ يضْرِبُها ضِرابًا أي نكحها تشبيها له بالطرق، ولذلك يعُبَّر عن الجماع والسِفاد بالطروقة فيقال ضربها الفحل وطرقَها الفحل.

 

الثاني: ضرب الدراهم وذلك لأنَّ تسويتها على هيئة الدرهم يتمُّ بالضرب على قطعة الفضة، ويقال إنَّ معنى ضَرَبَ الدِّرْهمَ هو طَبَعَه، والطبع يكون بضرب القالب على الفضة ليظهر نقش القالب عليها.

 

الثالث: ضَرْبُ العودِ، والناي وذلك بالطرق على الأوتار وثقوب الناي. والمِضراب: الذي يُضرب به العود.

 

الرابع: الضارب والضريب يُقال للذي يضرب بالقداح في الميسر والقرعة.

 

الخامس: وتقول العرب للمضروب بالسيف الضريبة كما تقول للشاة المقتولة بالنطح النطيحة ويقال لمأكولة السبع الأكيلة، وكذلك يُعبَّر عن الصوف أو الشعر الذي يُنفش ثم يدرج ويشدُّ بخيط ثم يُغزل يُعبَّر عنه بالضريبة والجمع الضرائب ويُقال للصوفُ والقطعة من القطن الذي يُضْرَبُ بالمِطْرَقِ الضريبة.

 

السادس: والضارب هي الناقة التي تضرب حالبها.

 

السابع: وتقول العرب: ضَرَبْتُ الشيءَ بالشيءِ وضَرَّبته أي خَلَطْتُه، وتقول: ضَرْب اللَّبِن بعضه على بعض يعني خلطه. وتقولُ كذلك ضُرِبَتِ الشاةُ بلَوْنِ كذا أَي خولِطَتْ، ولذلك قال اللغَويون: الجَوْزاءُ من الغنم التي ضُرِبَ وَسَطُها ببَياضٍ، من أَعلاها إلى أَسفلها.

 

الثامن: وفي حديث ابن عمر: فأَرَدْتُ أَن أَضْرِبَ على يَدِه أَي أَعْقِدَ معه البيع، لأَنَّ من عادة المتبايعين أَن يَضَعَ أَحدُهما يَدَه في يد الآخر، عند عَقْدِ التَّبايُع.

 

التاسع: وتقول العرب: ضَرَبَت العَقْربُ تَضْرِبُ ضَرْبًا أي لَدَغَتْ.

 

العاشر: والضَّرْبُ: المَطَر الخفيف، يقول الأَصمعي: الدِّيمَةُ مَطَرٌ يَدُوم مع سُكُونٍ، والضَّرْبُ فوق ذلك قليلًا، والضَّرْبةُ الدَّفْعَةُ من المطر وقد ضَرَبَتْهم السماء.

 

الحادي عشر: وتقول العرب الضَّريبة هي الطبيعة والسَّجِيَّة، وفي الحديث: إنَّ المُسْلِمَ المُسَدِّدَ لَيُدْرِكُ دَرَجةَ الصُّوَّامِ، بحُسنِ ضَرِيبَتِه أَي سَجِيَّته وطبيعته، وتقول العرب: فلانٌ كَريمُ الضَّرِيبة، ولَئيم الضَّرِيبة أي السجية والطبيعة وتقول ِإنَّه لكريمُ الضَّرائبِ أي السجايا والطبائع.

 

ولعلَّ من ذلك الضرب بمعنى الصنف والنوع، فيقال الحيوان على ضروب فمنه الداجن ومنه الوحشي.

 

الثاني عشر: في الحديث: "حتى ضَرَبَ الناسُ بعَطَنٍ" أَي رَوِيَتْ إِبلُهم حتى بَرَكَتْ، وأَقامت مكانَها.

 

الثالث عشر: وفي حديث عائشة: "عَتَبُوا على عثمانَ ضَرْبَةَ السَّوطِ والعصا أَي كان مَنْ قَبْلَه يَضْرِبُ في العقوبات بالدِّرَّة والنَّعْل، فخالفهم فصار يضرب بالسوط والعصا".

 

الرابع عشر: تقول العرب: ضرب خيمته بكذا وضرب المعسكر خيامه، ومنشأ اسناد الضرب إلى الخيمة هو الضرب على أوتادها بالمطرقة لتثبيتها في الأرض، ومن ذلك يتَّضح مدلول مثل قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ أي وضعت عليهم وشملتهم وأحاطت بهم كما تشتمل وتحيط الخيمة بمن فيها، فالآية تُشبِّه الذلة والمسكنة بالخيمة، وهذا التشبيه من نوع الإستعارة المكنية التي يُحذف فيها المشبَّه به ويُؤتى بشيءٍ من لوازمه، فالمشبَّه به في الآية هي الخيمة وقد تمَّ حذفها ولكن جِيء بشيء من لوازمها وهو الضرب، فالخيمة لا تقوم ولا تثبت إلا عند ضرب أوتادها في الأرض.

 

هذه بعض النماذج التي استعملت فيها العرب كلمة الضرب في غير المعاني التي ذكرها صاحب المقال وكلُّها مذكورة في المعاجم المعتمدة مثل لسان العرب وكتاب العين للفراهيدي والصحاح للجوهري ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني وتاج العروس للزبيدي وغيرها من المعاجم اللغويَّة التي يمكن مراجعتها في مادَّة "ضرب".

 

هذا هو الجواب النقضي على ما ادَّعاه صاحبُ المقال، وأمَّا الجواب الحلَّي فيقع ضمن محاور:

 

المحور الأول: إنَّ المدلول لمادَّة ضرب بمختلف اشتقاقاتها بحسب الأصل هو طرق شيءٍ بشيء أو "إيقاع شيء على شيء" كما في مفردات الراغب، ومن ذلك "ضَرَبَ الوَتِدَ يَضْرِبُه ضَرْبًا: دَقَّه حتى رَسَب في الأَرض" كما في لسان العرب، فمادة ضرب ذاتُ أصل واحد، ثمّ يُستعار منه ويُحمل عليه كما أفاد ذلك ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة، فالمعاني المختلفة لكلمة الضرب ترجع في المآل إلى أصلٍ واحد، وإنَّما تختلف في بعض حيثياتها وخصوصياتها بسبب ما يكتنفها من القرائن والسياقات والتراكيب التي تقع في إطارها فتكون هذه المداليل الزائدة على أصل المعنى مستفادة من هذه القرائن والسياقات والتراكيب على نحو تعدُّد الدال والمدلول وتدخل في ذلك المجازات والتشبيهات والإستعارات والكنايات، فما ذكره صاحب المقال يكشف عن عدم فهمه لطبيعة الإستعمالات اللغويَّة ويكشف عن خلطه بين المعاني الحقيقية والمعاني المجازية حيث خلط بين المعنى الحقيقي لكلمة الضرب وبين الإستعمالات المجازية التي يتعيَّن معها ملاحظة القرائن والسياقات وأنَّ إغفال ذلك يُنتج الإعتساف في الفهم والذهاب بعيدًا عمَّا تقتضيه الظهورات المبتنية على ملاحظة القرائن الداخلية للتراكيب اللفظيَّة والقرائن الخارجية.

 

المحور الثاني: نجيب فيه عن الشواهد التي استشهد بها على دعواه

 

ونبدأ بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾(30) حيث قال صاحب المقال إنَّ معنى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ هو افرُق لهم بين الماء طريقًا. وهو خطأ فالأمر ليس كذلك فقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبْ﴾ ليس بمعنى افرُق وإلا لكان المعنى افرق الطريق لأنَّه في موقع المفعول به لفعل الأمر "افرق" ولا معنى في الأية لتفريق وفرق الطريق فهو غير مرادٍ جزمًا بل المراد من الأمر هو صنع طريق وتهيئة طريق في البحر، فمعنى قوله تعالى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ هو فاصنع وهيأ واجعل لهم طريقًا في البحر، وإنَّما عُبِّر عن التهيئة والجعل بالضرب باعتبار أنَّ وسيلة تهيئة الطريق كان بواسطة الضرب بالعصا على البحر كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(31) فلأنَّ تهيئة الطريق في البحر كان بواسطة ضرب البحر بالعصا لذلك ناسب التعبير عن التهيئة والجعل بالضرب على سبيل ما يُعبَّر عنه في اللغة بالتضمين، فمفاد الآية اجعل لهم طريقًا في البحر بضربك بالعصا.

 

نعم الطريق في البحر يتهيأ بتباعد الماء وتفريقه ولكن ذلك ليس هو معنى الضرب كما توهَّهم صاحب المقال بل هو الأثر المترتِّب عن ضرب الماء بالعصا، فالضرب يتحقق بطَرْق الماء بواسطة العصا وبعدها يحصل التباعد بين طرفي الماء.

 

ومن ذلك يتضح الجواب عما ذكره من فهم لقوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ فكلمة الضرب في هذه الآية استُعملت في معناها الحقيقي وهو الإيقاع والطرق بالعصا على البحر وأما الإنفلاق والتباعد بين طرفي الماء فكان هو الأثر المترتِّب عن الضرب بالعصا، فكما أنَّه لو ضرب أحدُ آخر بسكين فأدماه أو قتله فإنَّه لا يُقال أنَّ الضرب معناه الإدماء أو الجرح أو القتل فلا يقال ضرب بمعنى أدمى أو بمعنى قتل لأنَّ الأدماء والقتل إنَّما هما أثر الضرب وليس هو الضرب نفسه كذلك المقام، فإنَّ الإنفلاق والتباعد ليس هو المعنى المراد من الضرب بل هو الأثر المترتِّب عن الضرب، فالضرب إنَّما هو بمعنى الإيقاع والطرق بوسيلة من الوسائل كاليد أو الرجل أو العصا أو السيف أو ما أشبه ذلك.

 

وبهذا البيان يتَّضح الجواب عمَّا ذكره من معنى قولهم: "ضرب عنقه" كما في قوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾(32) وقوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾(33) فالضرب في الآيتين استُعمل في معناه الحقيقي وهو الإيقاع والطرق بمثل السيف على العنق فليس الضرب هنا بمعنى الفصل كما ادَّعى صاحب المقال، ففصل الرقبة إنَّما هو أثر مترتِّب عن الضرب على العنق، ولذلك يصدق الضرب لغةً وعرفًا حتى لو لم يحصل الإنفصال أو كان الضرب بغير السيف.

 

وأمَّا قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾(34) وكذلك قوله تعالى: ﴿وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾(35) فليس معنى الضرب في الآيتين المباعدة كما ادَّعى صاحب المقال بل إنَّ معنى قوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ هو أنَّهم لا يستطيعون ذهابًا وسعيًا في الأرض لكسب المعاش والتجارة وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ أي يذهبون ويسافرون ويسيرون ويسعون في الأرض يبتغون من ذلك الرزق، ومنشأ التعبير عن الذهاب والسير والسفر بالضرب في الأرض هو أن السير يكون بضرب الرجل على الأرض حال المشي وكذلك ضرب الراحلة الأرض بأرجلها حال السير، فالضرب هنا بمعنى السير والذهاب وليس بمعنى المباعدة.

 

نعم السير والذهاب والسفر يلازم الإبتعاد عن الوطن لكن ذلك لا يعني أنَّ معنى الضرب هو الإبتعاد كما توهَّم صاحب المقال، فلازم النار مثلًا هو الإحراق لكن ذلك لا يُصحح لغةً وعرفاً أنْ يقال إنَّ معنى النار هو الإحراق، وكذلك فإنَّ الأربعة تلازم الزوجية لكنَّه لا يصح أن يقال إنَّ معنى الأربعة هو الزوجية، وهكذا فإنَّ الغرق يلازم الموت لكنَّه لا يصحُّ أن يقال إنَّ معنى الغرق هو الموت، فالضرب في الأرض يلازم الإبتعاد عن الوطن إلا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ معنى الضرب في الأرض هو الإبتعاد، على أنَّ الإبتعاد لا يُستفاد من كلمة الضرب وحدها بل هو مستفاد من مجموع المركب اللفظي وهو الضرب في الأرض على سبيل تعدُّد الدال والمدلول، ولذلك فإنَّ كلمة الضرب وحدها لا تُفيد معنى الإبتعاد بل ولا تلازمه.

 

على أنَّه لو صحَّ إطلاق الإبتعاد على الضرب في الأرض فهو إطلاق مجازي بل إنَّ إطلاقه على السفر والذهاب مجازي، والإستعمالات المجازية تتقوَّم بالقرائن المكتنفة بكل تركيبٍ لفظي، ولهذا يتعيَّن ملاحظة كل تركيبٍ على حدةٍ فإنْ كان مشتملًا على القرينة المقتضية لهذا المعنى المجازي وإلا فالمعنى يكون تابعًا لما تقتضيه القرينة المكتنفة بهذا التركيب وذاك، فلا يصحُّ تفسير لفظ استُعمل في معنىً مجازي في غير مورده ما لم يشتركا في طبيعة القرينة المقتضية لهذا المعنى المجازي.

 

وأمَّا قوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾(36) فالفصل ليس مستفادًا من كلمة الضرب فإنَّ الضرب هنا بمعنى الوضع، والفصلُ إنَّما استُفيد من قوله ﴿بَيْنَهُمْ﴾ فمعنى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ وضع بينهم سورًا، فالضرب ليس بمعنى الفصل كما توهَّم صاحب المقال، ولذلك لو حذفت كلمة "بينهم" لم يكن الضرب مفيدًا لمعنى الفصل، فلو قيل فضرب سور له باب فإنَّ الفصل لا يُستفاد من هذه الجملة، وعلى العكس لو حذفت كلمة ضُرب واستُبدلت بمثل بُني او نُصب فإنَّ الآية ستُفيد معنى الفصل، وذلك يؤكِّد أنَّ الفصل لم تتم استفادتُه من كلمة ضُرب وإنَّما أستُفيد من ذكر "بينهم".

 

وأمَّا ما استشهد به من كلمات العرب:

فأولًا: قولهم: "ضَرَبَ الدهْرُ بَيْنَنا" أو "بين القوم" فدلالتها على الفرقة والبُعد لم تنشأ عن كلمة الضرب بل نشأت عن قولهم "بيننا" ولذلك اختلف المعنى حين قيل -كما في لسان العرب وغيره-: "فَضَرَب الدهرُ ضَرَبانَه"، كقولهم: فَقَضَى من القَضَاءِ، "وضَرَبَ الدهْرُ من ضَرَبانِه أَنْ كان كذا وكذا"، فضرب في الإستعمالين بمعنى قضى وألزم والمعنى الزائد مستفادٌ من دالٍّ آخر، فالبُعد والفرقة استُفيد من قولهم: "ضَرَبَ الدهْرُ بَيْنَنا" بسبب كلمة "بيننا"، فجملة "ضَرَبَ الدهْرُ بَيْنَنا" وجملة "فَضَرَب الدهرُ ضَرَبانَه" لا تختلفان إلا من جهة اشتمال الأولى على كلمة بيننا ورغم ذلك اختلف معنى الجملتين وهو ما يُعبِّر عن أنَّ منشأ الإختلاف هو كلمة "بيننا" وليست كلمة الضرب فإنَّها في الجملتين بمعنى القضاء.

 

ويؤكِّد ذلك قول ذي الرمَّة كما في لسان العرب:

 

فإِنْ تَضْرِبِ الأَيَّامُ، يا مَيُّ، بينَنا، ** فلا ناشِرٌ سِرًّا، ولا مُتَغَيِّرُ

 

فإنَّ معنى البيت هو: فإن تقضي الأيامُ الفرقةَ بيننا، فالفرقة استُفيدت من الظرف "بيننا" وأما كلمة تضرب فهي بمعنى تقضي.

 

وثانيًا: ما نسبه إلى قول العرب: "ضرب عليه الحصار" أي عزله عن محيطه، ولم أجد هذا التعبير في أمثال العرب ولا في المعاجم، نعم ورد في مثل لسان العرب: "ضَرَبَ على يَدِ فُلانٍ" أي حجَرَ عليه ومنعه من التصرُّف في أمواله أو منعه من مطلق التصرُّف ورغم ذلك فإنَّ هذا التعبير مجازيٌّ، وقد بيَّنا أنَّ التعبير المجازي يفتقر في كلٍّ موردٍ إلى القرينة المكتنفة به، فقد يُستعمل لفظٌ واحد بل مركبُ لفضيٌّ واحد ويكون لكلِّ استعمال معنىً مختلف عن الآخر وذلك تبعًا للقرينة المقالية أو الحالية فمثلًا قولهم: "ضرب على يد فلان" تُستعمل تارةً ويراد منها إفادة الحجر وقد تُستعمل ويراد منها الإمساك لليد وقد تُستعمل ويُراد منها صفقة البيع، فالذي يُحدِّد المراد هو القرينة المكتنفة بالكلام.

 

وثالثًا: قول العرب: "ضرب به عرض الحائط" فهو وإنْ كان يُفيد معنى التجاهل والإهمال والإعراض ولكنَّ ذلك ليس ناشئًا عن دلالة كلمة الضرب على التجاهل والإهمال، فكلمةُ الضرب في هذه الجملة استُعملت في معناها الحقيقي وهو الإيقاع والإلقاء لشيءٍ على شيء ولكن الإهمال أستُفيد من لازم تمام الجملة وليس من كلمة الضرب كما توهَّم صاحب المقال، والمنبِّه على ذلك هو أنَّه لو استُبدلت كلمة الضرب بكلمة أُخرى مثل رمى أو ألقى أو قذف فإنَّ الجملة ستظلُّ مفيدةً لمعنى الإهمال والتجاهل، فَلَو قيل "رمى به عرض الحائط" أو "قذف به عرض الحائط" لكانت الجملة مفيدةً لذات المعنى المستفاد من جملة "ضرب به عرض الحائط" وهذا ما يُؤكِّد أنَّ الإهمال والتجاهل ليس مستفادًا من كلمة الضرب والتي هي مورد البحث.

 

على أنَّ الإهمال والإعراض ليس مُستفادًا من ذات الجملة بل هو مُستفاد من لازمها، فالضربُ والعرضُ والحائط ألفاظٌ استُعملت في معانيها الحقيقية وأمَّا الأهمال والإعراض فهو مُستفادٌ من لازم مجموع هذا المركب اللفظي، وهذا ما يُعبَّر عنه في علم البلاغة بالكناية، كما يقال: "زيدٌ كثير الرماد" للإشارة إلى أنَّه كريم فإنَّ استفادة كرم زيد إنَّما نشأ عن لازم هذه الجملة ولم ينشأ عن ذات ألفاظها، فإنَّ كلمة زيد وكثير والرماد ألفاظٌ استُعملت في معانيها الحقيقية والكرم إنَّما استُفيد من لازم هذه الجملة، فالرماد لا يكثر في البيت عادةً إلا بسبب الطبخ للضيوف، فإذا وُصف أحدٌ بأنًّه كثير الرماد فإنَّ لازم ذلك هو أنَّه كريم يُطعم الضيوف.

 

وبما ذكرناه يتضح أنَّ كلمة الضرب في قولهم: "ضرب به عرض الحائط" لم تُستعمل في معنى الإهمال والإعراض كما توهَّم صاحب المقال، وبهذا لم يثبت أنَّ شيئًا مما نقله من كلمات العرب يدلُّ على شيءٍ من المعاني التي ذكرها، ولو ثبت شيءٌ من ذلك -جدلًا- فهي لا تعدو المورد أو الموردين في مقابل الموارد الكثيرة التي ذكرناها في الجواب النقضي فأين هي دعوى الغالبية التي زعمها.

 

فإذا سقطت دعوى الغالبية التي ادَّعاها صاحبُ المقابل لم يبق له ما يتمسَّك به لدعواه أنَّ فهم الآية بالنحو الذي ذكره نشأ كما زعم عن التتبع لكلمة الضرب في القرآن الكريم وكلام العرب فإنَّ التتبع كما اتَّضح لكلمة الضرب في القرآن الكريم وكلام العرب يُنتج نقيض ما ادعاه.

 

ثم أنَّ صاحب المقال ذكر شيئًا غريبًا في مقاله ليس هناك ضرورة للجواب عليه ولكنَّنا نبيِّنه لأنَّ الواضح من ذكره له التحشيد لدعواه، فقد ذكر أنَّ العرب تستخدم لفظ "لطم" للضرب على الوجه، وتستعمل لفظ "صفع" للضرب على القفا وتستعمل لفظ "وكز" للضرب بقبضة اليد، وتستعمل لفظ "ركل" للضرب بالقدم، ذكر ذلك للإيحاء بأنَّ العرب لا تستعمل كلمة الضرب في هذه الموارد وإنَّما تستعمل خصوص هذه الألفاظ، فلا يُقال لمن ضُرب على وجهه أنَّه ضرب بل يقال له لطم، ولا يقال لمن ضُرب على قفاه أنَّه ضُرب وإنَّما يقال صُفع، وهذا غريب، فهذه الألفاظ وإنْ كانت تُستعمل في هذه الموارد ولكنَّ كلمة الضرب تستعمل أيضًا في هذه الموارد، فاللطم والصفع والوكز والركل أنحاء للضرب، ولذلك حين يُعرِّف اللغويون هذه الألفاظ يقولون مثلًا الصفع هو الضرب على القفا، واللطم هو الضرب على الوجه، والوكز هو الضرب بجمع اليد، والركل الضرب برجل واحدة فهذه أنحاء للضرب، ولهذا يصحُّ أنْ تقول لطمه وأنْ تقول ضربه على وجهه وهكذا.

 

المحور الثالث: تبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ المدلول اللغويَّ والعرفيَّ لكلمة الضرب هو المعنى المعروف والذي هو الإيقاع والدقُّ والطرق بشيءٍ على شيء، وهذا المعنى هو المعنى المتبادر والمنسبِق من هذا اللفظ عند إطلاقه، فلا يحمل على غيره إلا مع قيام القرينة، ومع عدمها يتعيَّن حمل اللفظ على معناه الحقيقي المتبادر عند أهل اللغة وأهل المحاورة، وهذا هو الذي عليه طريقة العقلاء في مقام التفهيم والتفهُّم، وتبيَّن كذلك ممَّا ذكرناه أنَّ كلمة الضرب لم تُستعمل في شيءٍ من المعاني التي ذكرها صاحبُ المقال فضلًا عن زعمه أنَّ ذلك هو الغالب في استعمال القرآن والعرب لهذه الكلمة، فقد استوعبنا أكثر موارد استعمال القرآن لهذه الكلمة وكذلك الكثير من موارد استعمال العرب لهذه الكلمة، وبيَّنا كذلك أنَّ الموارد التي توهَّم صاحبُ المقال أنَّ كلمة الضرب استُعملت في أحد المعاني الثلاثة أو الأربعة التي ذكرها لم تكن كما زعم، على أنَّها لو صحَّت لكانت استعمالاتٍ مجازية غير مطَّردة وتتوقف على قيام القرينة على إرادتها في غير موردها، فحتى مع التسليم بأنَّ بعض الشواهد القليلة التي ذكرها مفيدة لأحد المعاني التي ذكرها فإنَّ استفادتها لم تتم من ذات كلمة الضرب أولًا كما أنَّها من الإستعمالات المجازيَّة ثانيًا، وعليه لا يُمكن حمل آية النشوز على أحد هذه المعاني، فلا يصحُّ رفع اليد عمَّا يقتضيه ظاهر لفظ الضرب في آية النشوز لمجرَّد أنَّ هذا اللفظ استُعمل مجازًا في موردٍ أو موردين في أحد المعاني التي ذكرها أو لمجرَّد الإستحسان لمعنىً من المعاني والرغبة في أنْ يكون هو المراد أو لمجرَّد الإستيحاش من المعنى الظاهر الذي يفهمه أهل اللغة وأهل العرف اللغوي، فلو كان الأمر كذلك لما أمكن احراز معنىً من لفظ ولوقعت الفوضى في الأفهام ولما استقامت لغة من اللغات ولمَا أمكن محاسبة أحد على قول ولم يكن من الممكن التثبُّت من مراد متكلِّم.

 

ثم إنَّ الفهم المعنى المعروف للضرب من آية النشوز مضافًا إلى ظهور الآية فيه لم يقع موردًا للخلاف عند أهل اللغة والمفسِّرين ابتداءً من القرن الأول الهجري كما يتبيَّن ذلك من كلمات الصحابة والتابعين وانتهاءً بعصرنا ويُؤيد ذلك أيضًا الروايات الواردة في تفسير الآية عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) من طرق الفريقين.

 

فمن الروايات الواردة في ذلك:

ما أورده الطبري في جامع البيان بسنده عن أخبرنا يحيى بن بشر: أنَّه سمع عكرمة يقول في قوله: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ ضربًا غير مبرِّح، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "اضربوهن إذا عصينكم في المعروف ضربًا غير مبرِّح"(37).

 

ومنه: ما أورده في جامع البيان أيضًا بسنده عن حجاج قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تهجروا النساء إلا في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرِّح يقول: غير مؤثر"(38).

 

ومنه: ما أورده الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفرٍ الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ قال: "إنَّه الضرب بالسواك"(39).

 

ومنه: ما أورده الطبري في جامع البيان بسنده عن ابن عباس: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ قال: تهجرها في المضجع، فإنْ أقبلت، وإلا فقد أذِن اللهُ لك أنْ تضربها ضربًا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما. فإنْ أقبلت، وإلا فقد حلَّ لك منها الفدية"(40).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 34.

2- سورة طه / 77.

3- سورة الشعراء / 63.

4- سورة البقرة / 273.

5- سورة المزمل / 20.

6- سورة الحديد / 13.

7- سورة النساء / 34.

8- سورة ص / 44.

9- سورة البقرة / 73.

10- سورة الصافات / 93.

11- سورة الأنفال / 50.

12- سورة محمد / 27.

13- سورة البقرة / 60.

14- سورة الشعراء / 63.

15- سورة النور / 31.

16- سورة النوء / 31.

17- سورة إبراهيم / 45.

18- سورة يس / 78.

19- سورة النحل / 112.

20- سورة النحل / 76.

21- سورة إبراهيم / 24-25.

22- سورة الزخرف / 57.

23- سورة التحريم / 10.

24- سورة يس / 13.

25- سورة العنكبوت / 43.

26- سورة الكهف / 32.

27- سورة البقرة / 61.

28- سورة آل عمران / 112.

29- سورة آل عمران / 112.

30- سورة طه / 77.

31- سورة الشعراء / 63.

32- سورة الأنفال / 12.

33- سورة محمد / 4.

34- سورة البقرة / 273.

35- سورة المزمل / 20.

36- سورة الحديد / 13.

37- جامع البيان عن تأويل آي القرآن -محمد بن جرير الطبري- ج5 / ص95.

38- جامع البيان عن تأويل آي القرآن -محمد بن جرير الطبري- ج5 / ص97.

39- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج3 / ص80، تفسير جوامع الجامع -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص396.

40- جامع البيان عن تأويل آي القرآن -محمد بن جرير الطبري- ج5 / ص96.