دعوى نفيِ الحساب يوم القيامة!!

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ذكر بعضهم في حديثه رواية عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنَّه قال: "عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إنَّ الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسين بن علي (عليهما السلام)، فأمَّا يوم القيامة فإنَّما هو بعثٌ إلى الجنَّة وبعثٌ إلى النار"(1).

 

فهل هذه الرواية صحيحة؟

 

الجواب:

مصدر هذه الرواية هو كتاب مختصر بصائر الدرجات لحسن بن سليمان الحلي (رحمه الله) وهي ساقطة عن الاعتبار من حيث السند وهي كذلك من حيث ظاهر المتن .

 

أمَّا سقوطها عن الاعتبار من حيث السند فيكفي للبناء على ذلك اشتمال سندها على عبد الله بن القاسم الحضرمي الموصوف بالكذب والغلو كما أفاد ذلك النجاشي (رحمه الله) قال: "عبد الله بن القاسم الحضرمي المعروف بالبطل، كذابٌ، غالٍ، يروي عن الغلاة، لا خير فيه، ولا يُعتدُّ بروايته"(2).

 

وكذلك فإنَّ راوي الحديث وهو يونس بن ظبيان متهمٌ بالكذب والغلو، وقد تعارضت كلمات الأصحاب في توثيقه وتضعيفه فلا يُعوَّل على ما يتفرَّد به.

 

ومع قطع النظر عن ضعف الرواية الشديد من حيث السند فإنَّ ظاهرها هو نفي وقوع الحساب يوم القيامة وذلك منافٍ لما ثبت من الدين بالضرورة، ومنافٍ لظاهر الكتاب المجيد والذي أفاد في الكثير من الآيات أنَّ يوم القيامة هو يوم الحساب الأكبر:

 

فمِن الآيات الدالَّة على وقوع الحساب يوم القيامة قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾([3]).

 

فمفادُ الآية المباركة هو أنَّ الله تعالى يضعُ موازين الحساب يوم القيامة، وأنَّ موازين الحساب تقوم على أساس القسط والعدل ويجري فيه الحساب بنحو المداقَّة الشديدة حتى أنَّ الإنسان يُحاسَب على ما لا يتجاوز وزنُه مقدار الحبَّة من الخردل.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(4) فمفاد هذه الآية أنَّ لكلِّ إنسان كتاباً قد دُوِّنت فيه أعماله التي فعلها في الدنيا، فهو يقرأ كتابه يوم القيامة بنفسه ليكون حجَّةً عليه، وهذا الكتاب كما وصفته آياتٌ أخرى مشتملٌ على عموم ما فعله الإنسان من خطير الأعمال وحقيرها، فهو لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها قال تعالى: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا / وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(5) فهم يُعرضون على الله تعالى صفَّاً للحساب ويُعرَض على كلٍّ منهم كتابه الذي دُوِّنت فيه أعماله.

 

وقال تعالى يصفُ البشرى التي تغمرُ الصالحين والندمَ الذي يعتري العُصاة حين تُعرَض عليهم صحائفهم: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ / فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ / إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ / فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ / وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ / يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ / مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ / هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾(6).

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾(7) فالآية صريحةٌ في أنَّهم سوف يُسألون يوم القيامة عمَّا كانوا يفترون، وهو تعبير آخر عن الحساب.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾(8) ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(9) فمفاد هذه الآية أنَّ الله جلَّ وعلا يُذكِّرهم يوم القيامة بما كانوا قد عملوه في الدنيا، وإنَّما يُذكِّرهم بإعمالهم ليُقيم عليهم بذلك الحجَّة، وهو معنى الحساب.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ / حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ / وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ / وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾(10).

 

فمفاد هذه الآيات أنَّ جوارح الإنسان تشهدُ على ما يجترحه في الدنيا فينطق بالشهادة عليه سمعُه وبصرُه وجلدُه والشهادة إنَّما تكون قبل الجزاء لإقامة الحجَّة وإثبات الإدانة، وكذلك تكون من شهود الإدانة الأيدي والأرجل كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(11) ويشهدُ كذلك عليهم أنبياؤهم والحججُ الذين أقامهم الله تعالى عليهم في الدنيا كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ / وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾(12) وقال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(13).

 

فالرواية المذكورة منافية في ظاهرها للقرآن الكريم، ولذلك فهي -ما لم تُؤول- ساقطة عن الاعتبار، لأنَّ كلَّ حديث منسوبٍ للنبيِّ (ص) وأهل بيته (ع) مخالفٍ في معناه للقرآن الكريم فهو مكذوبٌ عليهم كما نصَّت على ذلك الروايات المتواترة، فقد ورد عنهم (ع) أنَّ: "كلَّ حديث لا يُوافق كتاب الله فهو زُخرف"(14) أي فهو كذب، وورد أنَّه: "ما جاءكم يُخالف كتاب الله فلم أقله"(15) وورد أنَّه "ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه"(16).

 

نعم لا محذور في أنْ ينيط اللهُ تعالى حساب الناس أو أمة الاسلام بالنبيِّ الكريم (ص) وأهل بيته (ع) بمعنى أنَّه يجعل لهم شرف الإشراف على حساب الخلق، وهذا المقدار يمكن إثباته ولا ينافي شيئًا من كتاب الله تعالى، أمَّا دعوى أنَّه لا حساب -كما هو ظاهر الرواية -يوم القيامة فهو منافٍ للقرآن الكريم فلابدَّ من طرح هذه الرواية أو تأويلها بما لا ينافي ظاهر القرآن أو ردِّ علمها إلى أهلها.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- مختصر بصائر الدرجات -حسن بن سليمان الحلي- ص27.

2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة ( رجال النجاشي ) -النجاشي- ص226.

3- سورة الأنبياء / 47.

4- سورة الإسراء / 13.

5- سورة الكهف / 48-49.

6- سورة الحاقة / 18-29.

7- سورة العنكبوت / 13.

8- سورة النحل / 124.

9- سورة المجادلة / 7.

10- سورة فصلت / 19-22.

11- سورة يس / 65.

12- سورة القصص / 74-75

13- سورة النساء / 41.

14- الشيخ الكليني ج1 / ص69.

15- الشيخ الكليني ج1 / ص69.

16- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص69، الأمالي -الشيخ الصّدوق- ص449.