توصيات أهل البيت (ع) بالتداوي والأخذ بالأسباب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم:

هل توجد أحاديث عن الأئمة (ع) يحثون فيها الناس على الأخذ بالأسباب كأخذ الدواء ومراجعة الأطباء؟

 

الجواب:

نعم ورد ذلك في العديد من الروايات منها ما روي في الكافي للكليني عن أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّه قَالَ: "أَبَى اللَّه أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا وجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحًا وجَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْمًا وجَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَابًا نَاطِقًا عَرَفَه مَنْ عَرَفَه وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه .."(1).

 

هذا وقد ورد عن النبيِّ الكريم (ص) وأهل بيته (ع) الكثيرُ من الروايات تحثُّ على التداوي والتعرُّض لمعالجة ما يطرأ على البدن من أدواء، وكانوا يُرشِدون الناس إلى التداوي بالأدوية المُتاحة في زمانهم والأطعمة النافعة بحسب اختلاف أحوالهم وظروفهم، ويُؤكِّدون على أنَّه ما مِن داءٍ إلا وجعل اللهُ تعالى له دواءً، فهم (عليهم السلام) يدعون بذلك إلى أنْ يستفرغ الناس وُسْعهم ويجتهدوا في تحصيل الأدوية للأمراض التي تُصيبُهم، وكانوا كذلك يُرشِدون إلى مراجعة العارفين بالطب وخواصِّ الأدوية.

 

وسأذكر لكم عددًا من الروايات الواردة في هذا الشأن:

الرواية الأولى: ما أورده القاضي النعمان في دعائم الإسلام قال: روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام): "أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: تداووا، فما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل معه دواءً، إلا السام -يعني الموت– فإنَّه لا دواء له "(2).

 

الرواية الثانية: ما أورد في الجعفريات: لمحمّد بن محمّد بن محمّد بن الأشعث الكوفي بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: "قيل: يا رسول الله، نتداوى؟ فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، ما أنزل الله تعالى من داء إلا قد أنزل معه دواء فتداووا، إلا السام فإنَّه لا دواء له "(3).

 

فمفاد هاتين الروايتين أنَّ الله تعالى قد جعل الشفاء في الدواء، وهذا يقتضي من الإنسان السعي الجاد من أجل الوقوف على معرفة الأدوية التي جعل اللهُ فيها الشفاء من الأدواء، فالحثُّ على التداوي مع عدم بيان ما هي هذه الأدوية معناه أنَّ الله تعالى قد جعل ذلك من وظائف الإنسان وأنَّ عليه بذل المجهود لتحصيل المعرفة والتوسُّل بمثل الاختبار والتجربة للوقوف على ما يصلح لمعالجة ما يطرأ من أدواء، فليس له الاستسلام للداء وإهمال البحث عن الدواء.

 

الرواية الثالثة: ما رواه في طبِّ الأئمة بسنده عن يونس بن يعقوب قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشربُ الدواء وربَّما قتله وربما يسلم منه وما يسلم أكثر. قال: فقال: أنزل اللهُ الداء وأنزل الشفاء، وما خلق اللهُ داءً إلا جعل له دواء: فاشرب وسمِّ الله تعالى"(4).

 

فهنا يُرشد الإمام (ع) إلى تناول الدواء وشربه رغم أنَّ السائل قال إنَّ الانتفاع بالدواء ليس قطعيًا فقد يقتله الدواء يعني أنَّه قد يكون التشخيص للداء أو الدواء خاطئًا فيؤدِّي ذلك إلى موت المريض رغم ذلك أرشد الإمام (ع) إلى تناول الدواء ما دام احتمال السلامة أكثر، ففي مثل هذا الفرض يفوِّض المريض أمره لله تعالى ويُسمِّي ويشرب.

 

وقريبٌ من هذه الرواية ما ورد في صحيحة يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): الرَّجُلُ يَشْرَبُ الدَّوَاءَ ويَقْطَعُ الْعِرْقَ ورُبَّمَا انْتَفَعَ بِه ورُبَّمَا قَتَلَه؟ قَالَ: يَقْطَعُ ويَشْرَبُ"(5)، يعني أنَّه مع تشخيص أنَّ القطع أي الجراحة تنفع في علاجه فليفعل، ومع تشخيص أنَّ هذه الوصفة من الشراب تنفع في علاجه فليفعل رغم أن التشخيص قد يكون خاطئًا.

 

الرواية الرابعة: ما أورده الحسن بن الفضل الطبرسي في مكارم الأخلاق رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: إنّ نبيًّا من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحى الله عزّ وجلّ لا أُشفيك حتى تتداوى فإنّ الشفاء منّي والدواء منّي فجعل يتداوى فأتى الشفاء"(6).

 

وهذه الرواية تُؤكِّد على أنَّ الشفاء وإنْ كان من عند الله تعالى فهو المشافي دون سواه إلا أنَّ إرادته قد تعلَّقت بالأخذ بالأسباب لتحصيل الشفاء، فإنَّ أسباب الشفاء وهي الدواء ترجع بالمآل إلى الله تعالى فهو المسبِّب للأسباب وهو الذي قدَّر الشفاء في الدواء.

 

الرواية الخامسة: ما أورده في طبِّ الأئمة بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع): ".. إنَّ الله جعل في الدواء بركةً وشفاءً وخيرًا كثيرًا، وما على الرجل أنْ يتداوى، ولا بأس به"(7).

 

فهذه الرواية كذلك صريحة في أنَّ الله تعالى جعل الدواء من أسباب الشفاء والبركة أي النماء وأفاد أنَّ فيه خيرًا كثيرًا ولعلَّه يُشير ما يترتب على بعض الأدوية من آثار ترتبط بتقوية البدن ومدِّه بالنشاط والحيويَّة.

 

الرواية السادسة: ما رُوي عن أمير المؤمنين (ع) في عيون الحكم والمواعظ قال: "مَن لم يحتمل مرارة الدواء دام ألمُه"(8).

 

وهنا يُرشد الإمام (ع) إلى ما عليه العقلاء من رجحان الصبر على العلاج ومكابدة الأذى المترتِّب عن التداوي وإلا كان الخيار الآخر هو دوام الألم.

 

الرواية السابعة: ما رُوي –كما في مستدرك الوسائل- من أنَّ رجلا جُرح على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله، فقال: ادعوا له الطبيب، فقالوا: يا رسول الله، وهل يُغني الطبيب من شيء؟ فقال: نعم، ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء"(9).

 

وهنا يُرشدُ النبيُّ (ص)- بحسب الرواية- إلى مراجعة الطبيب وأفاد أنَّ ذلك ينفع في الشفاء، فإنَّ الله تعالى قد هيَّأَ لكل داءٍ ما يشفي منه، ومعرفة أسباب الشفاء إنما تُتاح لمَن اشتغل بالطب وامتهنه لذلك أمر بالرجوع إليه، فالنبيُّ (ص) وإنْ كان بوسعه أن يدعو لهذا الجريح فيُشفى دون ريبٍ مما ألمَّ به لكنَّه أراد أنْ يُعلِّم أُمَّته وسيلة تحصيل الشفاء فهو (ص) لن يكون بينهم إلى الأبد.

 

بل أفادت الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) أنَّ مراجعة الطبيب لا تُلاحظ فيها هويته فيصحُّ للمريض مراجعة الطبيب اليهودي والنصراني كما في رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألتُه عن الرجل يُداويه النصراني واليهودي ويتَّخذ له الأدوية؟ فقال: لا بأس بذلك إنَّما الشفاء بيد الله"(10).

 

وصية أهل البيت لممتهن الطب:

هذا وقد أوصى أهلُ البيت (ع) الممتهن للطب بأن يتقي الله ويكون ناصحًا ويجتهد في عمله، فمِن ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): "من تطبَّب فليتقِ الله ولينصحْ وليجتهد"([11]).

 

أما تقوى الله تعالى فهي التي تحجزُه عن المجازفة والعبث بأبدان الناس دون درايةٍ ومعرفة، وأمَّا النُصح فمعناه خلوص النيَّة فلا يغشُّ المريض ويستغفلُه مستغلًا حاجته وجهله بما ينفعه وما يُصلحه بل يكون صريحًا معه في بيان مبلغ قدرته على مداواته ومقدار ما يُمكنه فعله وما هي مضاعفات ما يصرفه له من دواء.

 

وأمَّا الاجتهاد فمعناه استفراغُ الوُسع أولًا في تحصيل العلم بقواعد الطب وما يقتضيه من المعرفة الواسعة بطبيعة الأمراض وأعراضها وخواصِّ الأدوية وتحضيرها ووسائل استعمالها، وكذلك فإنَّ معنى الاجتهاد هو بذل أقصى المجهود في تشخيص طبيعة المرض قبل المبادرة إلى وصف الدواء وبذل المجهود في اختيار الدواء المناسب.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص183.

2- دعائم الإسلام -القاضي النعمان المغربي- ج٢ / ص143.

3- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي -ج١٦ / ص٤٣٧.

4- طب الأئمة (ع) -السيد عبد الله الشبر- ص٥٧.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج8 / ص194.

6- مكارم الأخلاق -الشيخ الطبرسي- ص٣٦٢.

7- طب الأئمة (ع) -السيد عبد الله الشبر- ص٥٧.

8- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص٤٣١.

9- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج١٦ / ص440.

10- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج٢٥ / ص٢٢٦.

11- دعائم الإسلام -القاضي النعمان المغربي- ج2 / ص144.