كيف يُثني الإمامُ على نفسه في دعاء الافتتاح

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

 

ورد في دعاء الافتتاح المروي عن الإمام الحجة (عج):

- "اللّهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَلِيِّ أَمْرِكِ القائِمِ المُؤَمَّلِ، وَالعَدْلِ المُنْتَظَرِ، وَحُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ المُقَرَّبِينَ، وَأَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ يارَبَّ العالَمِينَ. اللّهُمَّ اجْعَلْهُ الدَّاعِيَ إلى كِتابِكَ، وَالقائِمَ بِدِينِكَ، اسْتَخْلِفْهُ فِي الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفْتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ، مَكِّنْ لَهُ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لَهُ، أَبْدِلْهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِ أَمْنا، يَعْبُدُكَ لايُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا، اللّهُمَّ أَعِزَّهُ وَأَعْزِزْ بِهِ، وَانْصُرْهُ وَانْتَصِرْ بِهِ، وَانْصُرْهُ نَصْرًا عَزِيزًا، وَافْتَحْ لَهُ فَتْحًا يَسِيرًا، وَاجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا. اللّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ، حَتَّى لا يَسْتَخْفِي بِشَيْءٍ مِنَ الحَقِّ مَخافَةَ أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ".

 

السؤال: كيف يدعو الإمام المنتظر (عج) لنفسه؟! والدعاء وارِدٌ عنه (ع)، فكيف يُثني الإمام (ع) على نفسه؟!

 

أجيبونا مشكورين..

 

الجواب:

أولًا: ليس في رواياتنا ما ينصُّ منها على أنَّ دعاء الافتتاح من أدعية الإمام الحجَّة (ع) نعم هو من الأدعية المأثورة عن أهل البيت (ع) التي وصلتنا من طريق السفير الثاني أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (رضوان الله عليه) لكنَّ الرواية التي نقلت الدعاء لم تُشِر إلى أنَّه مِن دعاء الإمام الحجَّة (ع)، وكونُ الدعاء قد بلَغنا من طريق أبي جعفر العمري (رحمه الله) لا يعني أنَّه قد تلقَّاه عن الإمام الحجَّة (ع) فالعمري كما كان وكيلًا عن الإمام الحجَّة (ع) ويروي عنه كان كذلك وكيلًا عن الإمام العسكري (ع) وقد ورد في صحيحة أبي عَلِيٍّ أَحْمَد بْن إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ -الهادي- (ع) قَالَ سَأَلْتُه وقُلْتُ مَنْ أُعَامِلُ أَوْ عَمَّنْ آخُذُ وقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَه - الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، ومَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ فَاسْمَعْ لَه وأَطِعْ فَإِنَّه الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ" وسَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ -العسكري- (ع) عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ لَه - الْعَمْرِيُّ وابْنُه ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ ومَا قَالا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ فَاسْمَعْ لَهُمَا وأَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ الْمَأْمُونَانِ"(1).

 

فالعمريُّ الأول وهو عثمان بن سعيد، والعمريُّ الثاني وهو محمد بن عثمان بن سعيد كانا وكيلين للإمام أبي محمد العسكري (ع) وكانا من أخصِّ خواصِّه وكانا ينقلان عنه الحديث، فيُمكن أنْ يكون أبو جعفر العمريُّ الثاني (رحمه الله) قد روى لنا دعاء الافتتاح عن الإمام العسكري (ع) ويُمكن أنْ يكون قد رواه عن أبيه العمريِّ الأول عن الإمام الهادي (ع) فالرواية التي اشتملت على دعاء الافتتاح لم تنص على اسم الإمام الذي أخذ العمريُّ الثاني عنه الدعاء وإنْ كانت قد اشتملت على ما يدلُّ على أنَّه قد أخذه عن أهل البيت (ع).

 

على أنَّه لو كان العمريُّ الثاني (رحمه الله) قد تلقَّى دعاء الافتتاح عن الإمام الحجَّة (ع) فإنَّ ذلك لا يعني أنَّه من صياغة الإمام الحجَّة (ع)، فإنَّه قد ورد في العديد من الروايات أنَّ الإمام الحجَّة (ع) كان يُعلِّم أصحابه وشيعته الأدعية المأثورة عن أهل البيت (ع) كالإمام عليٍّ (ع) والإمام الصادق (ع) فلعلَّ دعاء الافتتاح من هذه الأدعية التي نقلها الإمام الحجَّة (ع) عن آبائه لأبي جعفر العمري (رحمه الله).

 

ثانيًا: بناءً على أنَّ دعاء الافتتاح من الأدعية الصادرة عن الإمام الحجَّة (ع) فإنَّ اشتمالها على الثناء على الإمام الحجَّة (ع) لا ينفي صدورها عنه (عليه السلام) فإنَّ مثل هذه الأدعية سِيقت لغرض تعليم الناس كيفية الدعاء للإمام (ع) في غيبته، وكذلك فإنَّها سِيقت لتعريف الناس بمقامات الإمام (ع) عند ربِّه عن طريق الدعاء، فالكثيرُ من أصول الاعتقاد ومقامات الأئمة(ع) وملكاتهم عرَّفَ بها أهلُ البيت (ع) عن طريق الدعاء والزيارات، ولولا ذلك لما أُتيح للناس المعرفة بما هم عليه من كمالات، وهذا الأسلوب من التعليم معتمدٌ كثيرًا في القرآن الكريم كما في سورة الفاتحة والتي بدأت بالبسملة والتي اشتملت على الثناء على الله تعالى والتعريف بأنَّه الرحمنُ الرحيم ثم بيَّنت كيفيَّة الثناء عليه بالحمد والإقرار له بالربوبيَّة للعالمين وأنَّه مالك يوم الدين ثم تصدَّت لتعليم المسلم كيف يُناجي ربَّه بقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ / اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(2) فهذه المناجاة صادرة عن الله تعالى لتعليم عباده كيفية مناجاته، لذلك صِيغت بما يُناسب خطاب العبد لربَّه.

 

وهكذا هو الشأن في الكثير من الآيات كقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ / رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾(5).

 

وقوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ / هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ / هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(6).

 

فالآية الأولى وكذلك الثانية والثالثة قرآنٌ صادرٌ عن الله تعالى ولكنَّه صيغ بأسلوب الدعاء على لسان العبد، والغرضُ من ذلك هو تعليم العباد بكيفيَّة الدعاء وبيان المطالب التي ينبغي أن يسألوا الله تعالى إيَّاها، والآية الرابعة اشتملتْ على الثناء على الله تعالى وأنَّه الرحمنُ الرحيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، وأنَّ له الأسماءَ الحسنى، وأنَّه العزيز الحكيم، فصدورُ الثناء من الله تعالى لذاته إنَّما سِيق لغرض تعليم العباد بواقع ما هو عليه جلَّ وعلا من كمال الصفات، وكذلك هو الغرض من تعليم الرسول (ص) الناس بكيفيَّة الصلاة عليه والشهادة له بالرسالة والنبوَّة وأنَّه خاتم النبيِّين وأنَّه سيُّد ولد آدم.

 

وهكذا فإنَّ هذا الأسلوب متعارفٌ لدى العقلاء في مقام التعريف بأنفسهم إذا كان ثمة غرضٌ عقلائي يقتضي ذلك، فالمتحدِّث يصف نفسه بالصدق وأنَّه ما تعمَّد الكذب قط، ومن يُريد التصدِّي للطبابة مثلًا يُبيِّن للمريض أو المشفى الذي يُريد العمل فيه أنَّه قد تعلَّم هذه المهنة وأتقنها ويُبيِّن مقدار ما يملكه من الخبرة والتجربة، وهكذا فإنَّ المعلِّم يُعرِّف نفسه لطلابه ويُعدِّدُ لهم العلوم التي يُتقنها والمعاهد العلميَّة التي تلقَّى فيها علومه، ولا يُعدُّ التعريف بالنفس والثناء عليها لمثل هذه الأغراض مُستهجَنًا لدى العقلاء، وإنَّما يَستهجِنُ العقلاء الثناءَ على النفس لغرض الفخر أوالتبجُّح أو الاستعلاء على الآخرين، لذلك لا يَستهجِنُ العقلاء من السيد المسيح (ع) قوله لبني إسرائيل: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(7) وقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(8) ففي الموضع الأول أثنى السيد المسيح على نفسه بأنَّه يعلمُ ما في الكتاب وأنَّه نبيٌّ، وأنَّه مبارك أين ما حلَّ، وأنَّه ليس جبارًا وليس شقيًّا ثم دعا لنفسه وحيَّاها، وتحدَّث في الموضع الثاني عن قدراته التي منحه الله تعالى إيَّاها، وأنَّه يخلقُ من الطين طيرًا، ويُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى ويُنبئهم ببعض المغيَّبات كلُّ ذلك بإذن الله تعالى.

 

هذا وقد أثنى يوسف (ع) على نفسه بقوله: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(9) وقوله: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾(10) وكذلك فإنَّ الأنبياء كانوا يمتدحون أنفسهم بالأمانة قال تعالى على لسان نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوط ٍوشعيب وموسى (ع): ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(11) وقد أثنى الملائكةُ على أنفسِهم كما في قوله تعالى على لسانهم: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ / وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ / وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾(12) إلى قوله تعالى: ﴿لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾(13).

 

فالثناءُ على النفس إذا جاء في سياق التعريف بالذات لغرضٍ عقلائي لا يكونُ مستهجَنًا بل قد تقتضيه الضرورة، كما لو كان وسيلةً للتعليم أو الهداية أو التطمين للمخاطَب أو الاحتجاج عليه أو الإلفات لِمَا قد يغفل عنه لولا البيان أو غير ذلك من الأغراض.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -للكليني- ج1 / ص330.

2- سورة الفاتحة / 5-6.

3- سورة البقرة / 286.

4- سورة آل عمران / 8-9.

5- سورة المؤمنون / 29.

6- سورة الحشر / 22-24.

7- سورة مريم / 30-31.

8- سورة آل عمران / 49.

9- سورة يوسف / 55.

10-سورة يوسف / 59.

11- سورة الشعراء / 107.

12- سورة الصافات / 164- 166.

13- سورة الصافات / 169.