"جئتُكم بالذبح" هل هو حديثٌ صحيح

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمِّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في السيرة النبويَّة لابن كثير بسنده عن عروة قال: قلتُ لعبد الله بن عمرو بن العاص ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كانت تُظهر من عداوته قال: حضرتُهم وقد اجتمع أشرافُهم يومًا في الحِجْر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفَّه أحلامَنا وشتم آباءنا وعاب دينَنا، وفرَّق جماعتنا وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمرٍ عظيم أو كما قالوا قال: فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت فلمَّا أنْ مرَّ بهم غمزوه ببعض ما يقول قال: فعرفتُ ذلك في وجهِه ثم مضى فلمَّا مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتُ ذلك في وجهِه ثم مضى ثم مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال: تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسُ محمَّدٍ بيده لقد جئتُكم بالذبح فأخذتِ القومُ كلمتَه حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنَّما على رأسِه طائرٌ واقع".ج1/ 471

 

إذا أمكن بيان درجة المقبوليَّة لهذا النص أعني قوله: "أما والذي نفسُ محمَّدٍ بيده لقد جئتُكم بالذبح"؟

 

الجواب:

لم يرد هذا النصُّ في شيءٍ من طُرقنا، فهو فاقدٌ للاعتبار والحجِّيَّة.

 

هذا وقد ورد ما يقربُ من هذا النصِّ من طرق العامَّة أيضًا عن عمرو بن العاص قال: ما رأيتُ قريشًا أرادوا قتل النبيِّ (ص) إلا يومًا ائتمروا به وهم جلوس في ظلِّ الكعبة ورسول الله (ص) يُصلِّي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذَبه حتى وجَبَ لركبتيه ساقطًا، وتصايحَ الناسُ فظنُّوا أنَّه مقتول .. فلمَّا قضى صلاته مرَّ بهم وهم جلوس في ظلِّ الكعبة، فقال: يا معشر قريش! أما والذي نفسُ محمَّدٍ بيده! ما أُرسلتُ إليكم إلا بالذبح، وأشار بيده إلى حلقِه، قال: فقال له أبو جهل: يا محمد! ما كنت جهولًا، قال: فقال رسول الله (ص): أنت منهم"(1).

 

فهذا النص والذي قبله فاقدان لشرائط الحجِّية والاعتبار، ولو صحَّا فهما –كما هو الواضح من سياقهما– ظاهران في أنَّه خطابٌ خاصٌّ موجَّه لمعشر قريش الذين ما فتئُوا يُؤذُون رسولَ الله (ص) ومَن آمنَ به حتى لجأ الكثيرُ ممَّن آمن للهجرةِ إلى بلاد الحبشة بعد عناءٍ ومكابدةٍ للعذاب الذي أوقعوه بهم حتى استُشهد ياسرٌ والدُ عمَّار تحت وطأةِ التعذيب واستُشهدتْ والدتُه بعد طعْنِها برمحٍ في رحمِها، وقد كانوا يُصفِّدون المستضعَفين من المؤمنين بالحديد مجرَّدين مِن ثيابهم ويضعون الصخور الثقيلة والمُلتهبة على صدورهم في هجير الصحراء ويلسعون أجسادهم بالنار، وكانوا يتتبَّعون مَن آمنَ بالأذى والقطيعة والمحاربة لهم في معائشهم والاستحواذ على ما يُتاحُ لهم الاستحواذ عليه مِن أموالهم، فأيُّ محذورٍ لدى العقلاء في أنْ يواجِهَ الرسولُ (ص) مثلَ هؤلاء خاصَّة بالتهديد بالذبح يتوسَّلُ بذلك لإخافتِهم وردعِهم عن بعض ما يُمارسونه من تعسُّفٍ واضطهادٍ للمؤمنين.

 

فالخطابُ –لو صحَّ صدوره- لم يكن عامًّا وإنَّما هو خاصُّ بجبابرة قريش، وأمَّا الخطابُ العام الذي جاء به النبيُّ الكريم (ص) فهو الذي أفاده القرآنُ بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾(4).

 

وقد تعاطى الرسولُ (ص) مع هذا المبدأ الذي أفاده القرآن –أعني مبدأ الرحمة والعفو- حتى مع هؤلاء الذين قيل إنَّه هدَّدهم بالذبح، فرغم أنَّهم لم يتركوه وشأنَه بعد هجرته عنهم فقد ألَّبوا عليه قبائل العرب ويهودَ الحجاز وحزَّبوا عليه الأحزاب وجهدوا في إجهاض دعوته والإجهازِ على دولتِه إلا أنَّه وبعدَ أنْ نصَرَه اللهُ تعالى عليهم ومكَّنَه من فتح مكَّة عفى عنهم وقال لهم قولتَه الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"(5).

 

فكان فيما جاء في خطابه لهم يوم فتحِ مكَّة الشريفة: "ألا بئس جيرانُ النبيِّ كنتم، لقد كذَّبتُم وطردتُم وأخرجتُم وآذيتُم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تُقاتلونني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء .."(6).

 

وقد سمَّى يوم فتح مكة بيوم المَرحمة، وورد أنَّه خاطبهم فيما خاطبهم به فقال: "يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم خلق من تراب ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(7) الآية يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أنِّى فاعلٌ بكم قالوا خيرًا أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء فأعتقهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان اللهُ أمكنَه من رقابهم عنوة وكانوا له فيئًا فبذلك يُسمَّى أهل مكة الطلقاء"(8).

 

وورد بسند صحيح عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنَّ رسول الله (ص) قال فيما قال لهم: ".. مَا ذَا تَقُولُونَ ومَا ذَا تَظُنُّونَ قَالُوا: نَظُنُّ خَيْرًا ونَقُولُ خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، وقَدْ قَدَرْتَ قَالَ: فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّه لَكُمْ وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾(9)"(10).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشَّيخ محمَّد صنقور


1- المصنف -الشيباني- ج8 / 441، مجمع الزوائد- الهيثمي- ج6 / ص16.

2- سورة التوبة / 128.

3- سورة الأنبياء / 107.

4- سورة الأعراف / 199.

5- الاستبصار -الشيخ الطوسي- ج2 / ص26.

6- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج1 / ص209.

7- سورة الحجرات / 13.

8- تاريخ الطبري -محمد بن جرير الطبري- ج2 / ص337.

9- سورة يوسف /92 .

10- الكافي -الشيخ الكليني- ج225-226.