تفنيد فرية أنَّ الحسين (ع) قبل بالبيعة ليزيد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

عرض الشبهة:

إنَّ بعض النصوص تُشير إلى أنَّ الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) قال لعمر بن سعد إنَّه مستعدٌّ للذهاب إلى الشام ووضع يدِه في يد يزيد غيرَ أنَّ ابن زياد أبى إلا أنْ ينزلَ الحسينُ (ع) على حُكمِه وهذا ما رفضَه الإمام الحسين (عليه السلام). ومع تماميَّة هذه الخبر فإنَّه يكون أوضحَ شاهدٍ على أنَّ قرار القتل كان مِن ابن زيادٍ وحده، وذلك لأنَّ يزيد إنَّما أمره بقتل الحسين (عليه السلام) حينما يرفض البيعة له وقد أبدى الحسينُ (عليه السلام) استعداده للبيعة ليزيد، وحينئذٍ يكون إقدام ابنِ زياد على قتل الحسين (عليه السلام) منافيًا لأمرِ يزيد.

 

وقبل الجواب عن هذه الشبهة نذكر النصَّ الذي تُشير إليه هذه الشبهة:

فقد ذكر الطبريُّ في تاريخه ماهذا نصُّه: "وأمَّا ما حدَّثنا به المجالدُ بن سعيد والصقعب بن زهير وغيرهما .. قالوا: إنَّه قال: اختاروا منِّي خصالًا ثلاثًا، إمَّا أرجع إلى المكان الذي أقبلتُ منه، وإمَّا أنْ أضعَ يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيَه، وإمَّا أن تسيِّروني إلى ثغرٍ من ثغور المسلمينَ شئتم فأكونَ رجلًا من أهله، لي مالهم وعليَّ ما عليهم"(1).

 

ثم قال: "فكتب عمرُ بن سعد إلى عبيد الله بن زياد، أمَّا بعدُ فإنَّ الله أطفأ النائرة وجمَعَ الكلمة وأصلح أمر الأمَّة، هذا حسينٌ قد أعطاني أنْ يرجعَ إلى المكان الذي منه أتى أو نُسيِّره إلى أيِّ ثغرٍ من ثغور المسلمين شئنا فيكون رجلًا من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم أو أنْ يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيَه، وفي هذا لكم رضًى وللأمَّة صلاح. فلمَّا قرأ عبيدُ الله بن زياد الكتاب قال: هذا كتاب رجلٍ ناصحٍ لأميره مُشفقٍ على قومِه، نعم قبلتُ، قال: فقام شمرُ بن ذي الجوشن فقال: أتقبلُ هذا وقد نزل بأرضِك إلى جنبك، واللهِ لئن رحَل من بلدِك ولم يضعْ يدَه في يدك ليكوننَّ أولى بالقوَّة والعزِّ ولتكوننَّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطِه هذه المنزلة فإنَّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابُه، فإنْ عاقبت فأنتَ أولى بالعقوبة وإنْ غفرتَ كان ذلك لك .. فقال ابنُ زياد: نِعمَ ما رأيت، الرأيُ رأيُك(2).

 

الجواب عن هذه الشبهة:

هو أنَّ هذا النصَّ مُختلَقٌ جزمًا وذلك لقرائن:

 

تهافتُ خبر الخصال الثلاث:

القرينة الأولى: إنَّ هذا النصَّ متهافتٌ في نفسِه، وذلك لأنَّ الخصال الثلاث التي يدَّعون أنَّ الحسين (عليه السلام) أعطاها إيَّاهم اثنتان منها تعنيان النزول على حكم عبيد الله بن زياد وهو الذي أناط عبيدُ الله بن زياد -بحسب هذه الدعوى- قتلَ الحسين (عليه السلام) بعدمِه، وذلك لأنَّه ما معنى أنْ يطلبَ الحسينُ (عليه السلام) بأنْ يُسيِّروه إلى أحد الثغور ويجعل المشيئةَ لهم في اختيار الثغر، أليس معنى ذلك النزول على حكم ابن زياد بل إنَّ ذلك أوضح مصاديق النزول على حكمِه حيث إنَّ الحسين (ع) حينئذٍ سوف يُصبح موظَّفًا عند ابن زياد وموظفًا صغيرًا أيضًا حيث إنَّ ابن زياد هو الذي سوف يختارُ للحسين (ع) الثغر المناسب كما طلب الحسين ذلك حيث قال -كما هو المدَّعى- "تُسيِّروني إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين شئتم"، ولم يطلب الحسينُ -كما هو المدَّعى- أنْ يكون هو الناظر على ذلك الثغر بل يكون واحدًا من المسلمينَ، له ما لهم وعليه ما عليهم، وحينئذٍ ما معنى أنْ يقول ابنُ زياد: ينزل على حكمي، وهل من شيءٍ أوضح  في النزول على حكمه من هذا العَرْض؟!

 

وحينئذٍ يُمكن للحسين (عليه السلام) أنْ يقولَ قد نزلتُ على حكم ابن زياد فليحكم فيَّ بما شاء، فإمَّا أنْ يأمرني بالانصراف إلى المكان الذي جئتُ منه، وهذا معناه ان يُسايره جمعٌ من جند ابن زياد إلى أنْ يوصلوه إلى المكان الذي جاء منه، وإمَّا أنْ يحكم ويأمر بتسييره إلى ثغرٍ من الثغور، وهذا يستوجبُ تجريد الحسين (ع) من قوَّتِه أيضًا -لو كانت له قوَّة- ثم مسايرته إلى الثغر المُختار من قِبَل ابن زياد، أو أنْ يأمر بتسييره إلى الشام ليضعَ يدَه في يد يزيد وكذلك هذا يعني أن يُسايره مجموعةٌ من جنده إلى أنْ يُوصلوه إلى يزيد.

 

ثم إنَّ الحسين (عليه السلام) -كما هو المدَّعى- لم يطلب من ابن زياد الضمان بأنْ لا يقتله يزيدُ بن معاوية بل قال: أضعُ يدي في يدِه ثم يرى رأيَه، وهل من شيءٍ أوضح من هذا الاستسلام والنزول على حكم ابن زياد؟!، فالحسينُ (عليه السلام) -كما هو المدَّعى- لم يترك خيارًا إلاّ وعرَضه على ابن زياد، وكلُّ هذه الخيارات تصبُّ في مصبٍّ واحد وهو الاستسلام والنزول على حكم ابن زياد، فما معنى أنْ يقول الشمرُ بعد ذلك: "والله لئن رحلَ من بلدِك ولم يضع يدَه في يدك ليكوننَّ أولى بالقوَّة العزِّ، ولتكوننَّ أولى بالضعف والعجز"؟! وما معنى أن يقبل ابنُ زياد منه هذا الرأي؟!

 

وأيُّ شيء يخشاه ابنُ زياد والحال أنَّ الحسين (عليه السلام) قد عَرَض عليه أنْ يكون له موظَّفًا أو أنْ يسير به إلى الشام ليضعَ يدَه في يد يزيد؟!

 

وبهذا البيان يتَّضح تهافتُ هذا النصِّ في نفسه، إذ إنَّ معناه -كما اتَّضح- أنَّ الحسين (عليه السلام) قال لقد استسلمتُ ونزلتُ على حكم ابن زياد فيقول له ابنُ زياد استسلِمْ وانزل على حكمي وإلاّ قتلتك!!

 

ومِن هنا يتأكَّد اختلاق هذا النصِّ وأنَّ الذي انتحله لم يُحسن حَبكَه وصياغته، وذلك لأنَّ هذا النصَّ يدَّعي أنَّ الرسالة الاخيرة التي بعثها ابنُ زياد إلى عمر بن سعد متضمنة لعرض النزول على حكم ابن زياد على الحسين (عليه السلام) وهذا هو عينُه الذي عرَضه الحسين على ابن زياد كما هو المدَّعى.

 

قد تقول: إنَّ النزول على حكم ابن زياد معناه أوسع من الخيارات التي عرضَها الحسينُ (عليه السلام) على ابن زياد، فالحسينُ لم يعرض سوى خياراتٍ ثلاثة والحال أنَّ النزول على حكم ابن زياد يقتضي أنْ لا تتحدَّد الخيارات بهذه الحدود الثلاثة.

 

والجواب:

ماهي الخياراتُ التي بقيت لم يعرضْها الحسينُ (عليه السلام) على ابن زياد؟! وهل يطمحُ ابن زياد أنْ يجعل الحسين (عليه السلام) حاجبًا له أو سيَّافًا يضربُ أعناق المناوئين له!! ثم إنَّه حينما يقبلُ الحسين بأنْ يُسيِّره ابنُ زياد إلى أحد الثغور التي يختارها فهذا يعني أنَّ الحسين (ع) قد أصبح في قبضته، وحينئذٍ يصنعُ به ما يشاء.

 

وبعبارة أخرى: إنَّ هذا العَرض ينفتحُ على جميع الخيارات، فلو كان ابن زياد مريدًا لحبس الحسين (عليه السلام) ثم مراجعة يزيد في الأمر فهذا ما لا يشقُّ على ابن زياد بعد أنْ أصبح الحسين (ع) في قبضته حين وافق على أنْ يُسيِّره ابنُ زياد إلى أيِّ ثغرٍ من ثغور المسلمين شاء والتي هي خاضعة لنفوذه وسلطانه.

 

وقد تقول: إنَّ ابن زياد حينما يوافق على تسيير الحسين إلى أحد الثغور فإنَّه لا يسعُه بعد ذلك حبس الحسين (ع) أو فرض الإقامة الجبريَّة عليه.

 

فنقول: إنَّ هذه اللغة إنَّما تُناسب الأنبياء أو الأولياء أو لا أقل الشرفاء، ولا تُناسب أمثال ابن زياد الذي أجمعَ المسلمون دون استثناء على فسقِه وجرأتِه البالغة على هتك حُرماتِ الله جلَّ وعلا والذي ليس له حاجزٌ عن ارتكاب عظائم الأمور.

 

وقد تقول: هذا ما أوجب خروجه عن أوامر يزيد.

 

قلنا: قد ثبتَ مما تقدَّم بما لا مزيد أنَّه أضعف من أنْ يتجاوز يزيد في صغائر الأمور فضلًا عن عظائمِها، وهل نشأت هذه الخسَّة التي عليها ابنُ زياد إلاّ مِن حرصه على التسلُّط، وهو لا يتناسب مع الخروج عن مصدر سلطته ووجاهته، إذ أنَّ تجاوزه ليزيد معناه زواله عن منصبِه الذي هو أحرصُ ما يكون على التحفُّظ عليه.

 

وبهذا يتجلَّى تهافتُ هذا النصِّ في نفسه، وعليه فهو ساقطٌ عن الاعتبار.

 

منافاة خبر الخصال للكثير من النصوص:

القرينة الثانية: إنَّ هذا النصَّ منافٍ للكثير الكثير من النصوص التي دلَّت على أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يعرض على ابن زياد سوى الانصراف وعدم الحرب إلاّ أنَّ ابن زياد أبى إلاّ البيعةَ ليزيد أو القتل.

 

وإليك بعض النصوص التي دلَّت على ذلك:

النص الأوّل: ما ذكره الطبريُّ بسندٍ متَّصل إلى حسان بن فائد بن بكر العبسي قال: "أشهدُ إنَّ كتاب عمر بن سعد جاء إلى ابن زياد وأنا عنده، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم أمَّا بعد فإنِّي حيث نزلتُ بالحسين بعثتُ إليه رسولي فسألتُه عمَّا أقدَمه وماذا يطلب، فقال: كتب إليَّ أهلُ هذه البلاد وأتتني رسلُهم فسألوني القدوم ففعلت، فإمَّا إذ كرهوني، فبدا لهم غيرُ ما أتتني به رسلُهم فأنا منصرِفٌ عنهم، فلمَّا قُرئ الكتاب على ابن زياد قال:

 

الآن إذ علقتْ مخالبُنا به ** يرجو النجاة ولاتَ حين مناصِ"(3)

 

وهذا النصُّ صريحٌ في أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يعرض على ابن زياد سوى الانصراف وعدم الدخول معه في حرب بعد أن كان قد جاء لهذا الغرض إلاّ أنَّ نكث أهل الكوفة جعله ينصرف عن خيار الحرب ولو مؤقتًا، وحينئذٍ يحقُّ لابن زياد أنْ يخشى الحسين (عليه السلام) وأنْ يسمع قول الناصح بأنّه إنْ انصرف ليكوننَّ أولى بالقوَّة والعز، ولذلك أصرَّ على أنْ يقبل الحسين (عليه السلام) بالبيعة.

 

وتُلاحظون أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يعرض على ابن زياد الرجوع من حيث جاء وإنَّما هو الانصراف حيث شاء.

 

النص الثاني: ما ذكره الطبري أنَّ الحسين (عليه السلام) في اليوم العاشر "نادى بأعلى صوتِه بصوتٍ عال دعاءً يسمع جلَّ الناس، أيُّها الناس .. إذ كرهتموني فدعوني أنصرفُ عنكم إلى مأمني من الأرض، فقال له قيسُ بن الأشعث: أوَلا تنزلُ على حكم بني عمِّك، فإنَّهم لن يُروك إلاّ ما تُحب، ولن يصلَ إليك منهم مكروه، فقال الحسين .. لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّ اقرار العبيد .."(4).

 

وهذا النصُّ صريحٌ أيضًا في أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يعرض على ابن زياد سوى الانصراف عنهم.

 

وتُلاحظون أنَّ هذا النصَّ يُوضح أنَّ الحسين (عليه السلام) قد عرض عليهم الانصراف عنهم قُبيل قتله بسويعات، وهذا ما يكشف عن أنَّه (عليه السلام) لم يعرض عليهم سوى هذا العرض وإلا فأحرى بالحسين (عليه السلام) أنْ يعرض عليهم العروض الأخرى لعلَّهم يكفُّون عنه أو يكون قد أعذر أبلغ العُذر، وما معنى أنْ يعرض عليهم خيارًا هو أبعد الخيارات عندهم، أليس من المناسب أنْ ينادي بأعلى صوته إنَّني قد قبلتُ أنْ أضعَ يدي في يد يزيد، إذ هو الخيار الأقرب للقبول عندهم.

 

ثم إنَّكم لاحظتكم أنَّ أحد أبرز قادة الجيش –ابن الأشعث- عرَض على الحسين (ع) النزول على حكم بني عمِّه، فلو أنَّ الحسين (عليه السلام) قد قبِل منهم ذلك فما معنى أنْ يطلب منه القبول ثمّ لماذا لم يُجبه الحسين (عليه السلام) بأنِّي قد قبلتُ أن أضع يدي في يد يزيد أو ان أكون رجلًا من المسلمين يُسيُّرني ابنُ زياد إلى أيِّ ثغرٍ شاء.

 

ثم إنَّكم تُلاحظون أنَّ الجواب الذي أجاب به الحسين (عليه السلام) ابنَ الأشعث يتنافى تمامًا مع العروض التي ادُّعي أنَّ الحسين (عليه السلام) قد عرضها عليهم، فقوله: "لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل ولا أقرُّ إقرار العبيد" يتنافى مع دعوى أنَّه قال: أضعُ يدي في يد يزيد ثم يرى فيَّ رأيَه أو تختارون لي ثغرًا من الثغور أذهبُ إليه وأكون واحدًا من المسلمين، وهل هناك شيء أكثر استسلاماً ومهانة وذلَّة من هذا العَرض، ثم ما معنى: "لا أقرُّ إقرار العبيد" وهو قد قبِل أنْ يضعَ يده في يد يزيد.

 

كلُّ ذلك يؤكِّد اختلاق نصِّ الخصال الثلاث.

 

النص الثالث: ماذكره الطبري بسندٍ متَّصلٍ إلى عقبة بن سمعان قال: "صحبتُ حسينًا، فخرجتُ معه من المدينة إلى مكَّة ومن مكَّةَ إلى العراق، ولم أُفارقه حتى قُتل، وليس مِن مخاطبته الناس كلمةً بالمدينة ولا بمكَّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتلِه إلا وقد سمعتُها، لا واللهِ ما أعطاهم ما يتذاكرُ الناسُ وما يزعمون مِن أنْ يضعَ يدَه في يد يزيد بن معاوية، ولا أنْ يُسيِّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين ولكنَّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الارض العريضة حتى ننظرَ ما يصيرُ اليه الناس"(5).

 

وواضحٌ من هذا النصِّ أنَّه ناظرٌ لخبر الخصال المزعوم لغرض تفنيده وتكذيبه، فهو في الوقت الذي يُثبت أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يعرض على ابن زياد سوى الانصراف -وهذا ما يؤكِّد النصوص الأخرى التي نقلنا بعضها- ينفي الصدق للخبر الذي يتضمَّن دعوى أنَّ الحسين (عليه السلام) عرض خصالًا ثلاثة على ابن زياد- وهو ما يُوهِن هذا الخبر بالإضافة إلى المُوهِنات الأخرى التي ذكرنا بعضَها.

 

وغيرُ خفيٍّ على أهل المحاورة واللسان أنَّ هذا النحو من النصوص والتي تكون ناظرة ومتصدِّية لتكذيب خبرٍ متداول تكون أقرب للصدق، وذلك لأنَّ مقتضى النظر والتصدِّي للتكذيب هو إبراز ما يُوجب ويُعزِّر أقوائية مضمونِه على مضمون الخبر المنظور.

 

فمن الواضح أنَّ الخبر المجرَّد عن كلِّ قرينة موجبة لصدقه لا يقاوم النص المشتمل على ما يؤكِّد صدقه. هذا لو كان النصَّان مجرَّدين عن القرائن الخارجيَّة أمَّا لو كان النص الناظر مكتنِفٌ بقرائن خارجيَّة أيضًا ويكون الخبر المنظور مجرَّدًا عن كلِّ قرينة تُثبتُ صدقَه أو يكون مُحاطًا بقرائن منافية لصدقِه فهذا يُنتج الجزم بكذب الخبر المنظور والجزم بصدق النصِّ الناظر، إذ أنَّ النصَّ المتوفِّر على القرائن الداخليَّة والخارجيَّة يجعل احتمالَ الصدق في النصِّ المنظور والمنافي موهومًا جدًا لا يعتدُّ العقلاء بمثله.

 

أمَّا القرائن الخارجيَّة فهي النصوص الأخرى التي نقلنا بعضَها وكذلك الوجوه الاعتباريَّة التي سوف نُشير إلى بعضِها فيما بعد والتي تُؤكِّد أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يعرض على ابن زياد البيعة ليزيد أو أنْ يُسيِّره إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين.

 

وأمَّا القرينة الداخليَّة فهي أنَّ عقبة بن سمعان كان قريبًا من الحدث وقريبًا جدًا، وذلك لأنَّه شهد تمام الوقائع، فقد كان مع الحسين (عليه السلام) في المدينة، وحين خروجه منها إلى مكَّة، ومنها إلى العراق، وبقي مع الحسين (عليه السلام) إلى أنْ قُتل وأُخذ بعد ذلك أسيرًا(6) إلى عمر بن سعد وخلَّى عمرُ بن سعد سبيلَه لاعتذاره بأنَّ ملازمته للحسين (ع) كانت لخدمته.

 

ومِن الواضح أنَّ ذلك يُضفي على خبره أقوائية توجبُ صدقه، إذ أنَّ ملازمته للحسين (ع) ومعاصرته للأحداث تعني أنَّه كان مطَّلعًا على كلِّ صغيرةٍ وكبيرة كما صرَّح هو بنفسه حيث قال إنّه لم يفته شيءٌ من خطابات الحسين (عليه السلام) إلا وقد سمعَها، فلو كان أحدُ خطابات الحسين (عليه السلام) مشتملًا على تلك العروض التي ادَّعوا أنَّ الحسين (عليه السلام) قد عرضها عليهم لسمِعها عقبةُ بن سمعان خصوصًا وأنَّ عقبة بن سمعان قال إنَّه سمع أنَّ الحسين (عليه السلام) قد عرَض عليهم الانصراف عنهم، فلم يكتفِ عقبةُ بنفي السماع، فلو كانت العروض الاخرى قد عرَضها الحسين (عليه السلام) عليهم فما هو معنى خفائها على عقبة والحال أنَّ المناسب -كما ذكرنا ذلك فيما سبق- أن يُعلِنَ بها الحسين (عليه السلام) باعتبارها الأقرب للقبول وسلب الذريعة عن قتله.

 

ومن هنا لا يُصغى إلى دعوى احتمال أنَّ ذلك قد تمَّ بين الحسين (ع) وعمر بن سعد سرًّا، وذلك لأنَّ هذا الاحتمال لو كان مصيبًا لما سمِع عقبة بن سمعان شيئًا من العروض والحال أنَّه يقول إنَّه سمع من الحسين (عليه السلام) أنَّه قد عرض عليهم الانصراف عنهم.

 

ثم إنَّ المتتبِّع لمجريات الأحداث التي عرضها المؤرِّخون يجزمُ بأنَّ الحسين (عليه السلام) كان قد صرَّح في خطاباته بأنَّ مجيئه للكوفة مبنيٌّ على دعوة أهل الكوفة له فإذا هم قد كرهوا ذلك فهو منصرفٌ عنهم، وهذا ما يُؤكِّد أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يعرض سوى هذا العرض وإلاّ لأعلنَ عنه كما أعلنَ عن هذا العرض خصوصًا وأنَّه أقربُ للسلامة والقبول.

 

ومن هذه النصوص النصُّ الذي أفاد أنَّ الحسين (عليه السلام) قد عرض عليهم هذا العرض في اليوم العاشر وقبل مقتلِه بسويعات، وقد نقلناه لك قبل صفحات.

 

ومنها هذا النص الذي ينقلُه الطبريُّ وغيره من المؤرِّخين وهو أنَّ الحسين (عليه السلام) قام خطيبًا في أصحاب الحرِّ بن يزيد:

 

"فحمِد الله وأثنى عليه ثم قال: أيُّها الناس .. ونحن أهلُ البيت أولى بولاية هذا الأمرِ عليكم مِن هؤلاء المدَّعين ماليس لهم .. وإنْ أنتم كرهتمونا وجهِلتُم حقَّنا، وكان رأيُكم غيرَ ما أتتني كتبُكم وقدمتْ به رسلُكم انصرفتُ عنكم، فقال له الحرُّ بن يزيد: إنَّا واللهِ ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر، فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان أخرِج الخُرجين اللذَين فيهما كتبُهم إليّ، فأخرج خرجين مملوءين صحفًا فنشرها بين أيديهم .."(7).

 

وهذا النصُّ كما تُلاحظون كالنصوص الأخرى صريحٌ في أنَّ الحسين (عليه السلام) قد أعلن بعرضه فلم يكن ذلك سرًّا. كما أنَّ هذا النصَّ يُوضح أنَّ عقبة بن سمعان كانت له خصوصيَّة قد لا تكون لغيره، وذلك لأنَّ الحسين (عليه السلام) قال له: أخرج الخُرج المشتمل على الكتب الخاصَّة بأهل الكوفة والتي اشتملتْ على دعوتِهم له بالمجيء، وهذا يعني أنَّ عقبة بن سمعان كان مطَّلعًا على هويَّة الكتب ومضمونها ومحلِّ وضعها وامتيازها عن الكتب الاُخرى التي للحسين (عليه السلام). وهذا ما يُعزِّز قولنا بأنَّ عقبة بن سمعان كان مطَّلعًا على كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ويؤكِّد أنَّ عدم سماعه للعروض الأخرى يُساوق عدم وجودها، كما أصرَّ هو على ذلك.

 

وبهذا اتَّضح أقوائية هذا النصِّ على الخبر المتضمِّن لدعوى عرض الحسين (عليه السلام) خصالًا ثلاثة على ابن زياد، وإذا ضممنا إلى هذا النصِّ النصوص الأخرى التي ذكرنا بعضَها يحصلُ الجزم بصدق هذا النصِّ واختلاق نصِّ الخصال الثلاث.

 

ثم إنَّ هناك نصٌّ ذكره المؤرِّخون ومنهم الطبري يصلحُ أنْ يكون قرينةً على أنَّ منشأ دعوى العروض الثلاثة لم يكن سوى شائعةٍ أو حدسٍ حدَسه بعضُ الناس وتلقَّاه الآخرون بالقبول دون أنْ يكون ذلك عن علمٍ ودراية.

 

فقد ذكر الطبريُّ ما هذا نصُّه: “قال أبو مخنف حدَّثني أبو جناب عن هانئ بن ثُبيت الحضرمي، وكان قد شهِد قتل الحسين (عليه السلام) قال: بعثَ الحسينُ (عليه السلام) إلى عمر بنِ سعدٍ عمرو بن قُرظة بن كعب الأنصاري أنْ القني الليل بين عسكري وعسكرِك، قال: فخرج عمرُ بن سعد في نحو عشرين فارسًا، وأقبل الحسينُ في مثل ذلك، فلمَّا التقوا أمرَ الحسينُ أصحابَه أن يتنحَّوا وأمر ابنُ سعد أصحابَه بمثل ذلك، فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمعُ أصواتهما ولا كلامهما، فأطالا حتى ذهب من الليل هزيع، ثم انصرف كلُّ واحدٍ منهما إلى عسكره باصحابه، وتحدَّث الناسُ فيما بينهما ظنًّا يظنُّونه أنَّ حسينًا قال لعمر بن سعد: اخرُج معي إلى يزيد بن معاوية وندعُ العسكرين، قال عمر: إذن تُهدم داري فتكرَّه ذلك عمر، قال فتحدَّث الناسُ بذلك وشاعَ فيهما من غير أن يكونوا سمِعوا من ذلك شيئًا ولا علِموه"(8).

 

وهذا النص يُضيفُ إلى خبر الخصال الثلاث وهْنًا إلى وهنه، إذ من القريب أنْ يكون منشأ تداول خبر الخصال هو ما كشف عنه هذا النصُّ وأنَّ ما عند الناس من حديثٍ حول هذه القضية لم يكن سوى تهريج، وهذه طبيعةٌ اعتادها سوقة الناس، فهم يجعلون من الخيال والشائعات علمًا ويتوسَّعون في الأمور حتى كأنّهم شاهدوها عيانًا.

 

وتُلاحظون من خلال هذا النصِّ كيف أنَّ الناس يُهرِّجون فيما لو تأمَّلوا فيه لوجدوه غيرَ معقول، إذ كيف يُعقل أنَّ الحسين (عليه السلام) يطلبُ من عمر بن سعد أنْ يصحبَه إلى يزيد ويتركا معسكريهما، ألم يكنِ الحسين (ع) يعلمُ أنَّ ذلك غير ممكن؟!، وكيف يخفى خروجُهما من المعسكرين؟!، ألم يكن الحسين (عليه السلام) يخشى أن يُدركه جندُ ابن زياد ويسلِّمونه إلى ابن زياد أسيرًا بل إنَّ ذلك حتميُّ الوقوع بعد أن لم يكن مع الحسين (عليه السلام) مَن يمنعه - كما هو مقتضى العرض المدَّعى.

 

وقد لاحظتم أنَّ خبر الخصال الثلاث ليس هو أحسن حالًا من هذا الذي نقله هذا النص، فقد اتَّضح ممَّا تقدم انَّه متهافتٌ في نفسه، وهو ما يُعبِّر عن أنَّه لم يكن سوى تهريجٍ يتذاكرُه الناس في مجالسِهم ومحالِّ سمرِهم.

 

منافاة خبر الخصال مع ما ثبت من خطابات الحسين:

القرينة الثالثة: ونستعرضُ في هذه القرينة بعض الكلمات التي تواتر نقلها إجمالاً من قِبل المؤرِّخين عن الإمام الحسين (عليه السلام) والتي تتنافى مع دعوى خبر الخصال الثلاثة وتُعبِّر عن إباء الحسين (عليه السلام) للبيعة.

 

النص الأوّل: ما ذكره الطبريُّ في تاريخه قال: "قام الحسينُ بذي حسم فحمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّه قد نزل من الأمر ما قد ترون، إنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبرَ معروفُها واستمرَّت جدا فلم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا تَرون أنَّ الحقَّ لا يُعمل به وأنَّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمنُ في لقاء الله محقًّا، فإنِّي لا أرى الموت إلاّ شهادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما"(9).

 

وتُلاحظون أنَّ هذه اللغة لا تتناسب مع دعوى قبول الحسين لأنْ يضع يدَه في يد يزيد، فما الفرق بين الاستسلام لابن زياد والاستسلام ليزيد، وهل هناك خصوصيَّة ليزيد تستدعي الاستسلام له!! ألم يكن ابن زياد امتدادًا ليزيد؟

 

وهل هناك والٍ يدعو الناس لبيعته وبيعة أميره؟ وهل من خرَقٍ أو حُمق أوضح من أنْ يقبل سلطانٌ أنْ يكون لموظَّفه وجودٌ وسلطانٌ بازاء وجوده وسلطانه؟!

 

على أنَّ رغبة الحسين (عليه السلام) في الشهادة ولقاء الربِّ -كما صرَّح النصُّ- إنَّما نشأت عن إدبار المعروف وتنكُّر الدنيا للحقِّ وعدم العمل به وعدم التناهي عن الباطل، وليس منشأ ذلك هو ابن زياد وحده، فليس لابن زياد إلا دور المساهِم حيث لم يكن سوى موظَّفٍ ليزيد، فكلُّ المبرِّرات التي نشأت عنها رغبة الحسين (عليه السلام) في الشهادة إنَّما هي مبرِّرات اختلقتها الإدارة المركزية والتي على رأسها يزيد بن معاوية، فما معنى أنْ يأبى الحسين (عليه السلام)الاستسلام لابن زياد ويقبل الاستسلام ليزيد ليرى رأيَه فيه!! وهل كان غرض الحسين (عليه السلام) هو اجتثاث ابن زياد من إمارة الكوفة فحسب، ولو كان ذلك غرضُه لما كان متعسِّرًا عليه، إذ بإمكانه أنْ يبعث إلى يزيد وهو بالمدينة ويطلب منه في مقابل بيعتِه له عزل ابن زياد عن أمارة الكوفة بل والبصرة، وسيجدُ يزيدَ أسرع ما يكون لإنفاذ طلبِه. على أنَّه لم يكن ابن زياد أميرًا على الكوفة وإنَّما نشأت إمارته من قضيَّة الحسين (عليه السلام) كما بينَّا ذلك ووثَّقناه.

 

ثم إنَّكم تُلاحظون أنَّ هذا الخطاب الذي صدر عن الحسين (عليه السلام) كان في مرحلةٍ حرجة جدًا حيث إنَّ الحسين (عليه السلام) أصبح محاصرًا بجند ابن زياد، وهذا ما يُعبِّر عن أنَّ الحسين بقي ثابتًا على منهجه الذي خرج من أجله وهو التغيير الشامل أو الموت دون ذلك، إذ أنَّ المبرِّرات التي طرحها لم تكن مختصَّة بابن زياد وسياسته في الحكم والإدارة بل هي مبرِّرات مستقطبة لتمام الحواضر الإسلامية والتي تُديرها الدولة الامويَّة، فهي التي نشأ عنها إدبار المعروف وعدم العمل بالحقِّ وعدم التناهي عن المنكر، ومن هنا رغِب الحسينُ (عليه السلام) في الشهادة حين تعذَّر عليه التغيير الفعلي.

 

النص الثاني: ما نقله الطبري وغيرُه قال: "وأقبل الحرُّ يُسايره وهو يقول: يا حسين إنِّي أذكرُك الله في نفسِك، فإنِّي أشهدُ لئن قاتلتَ لتُقتلن .. فقال الحسين (عليه السلام): أفبالموت تخوِّفُني، وهل يعدو بكم الخطب أنْ تقتلوني .. ولكن أقولُ كما قال أخو الأوس لابن عمه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أين تذهب فإنَّك مقتول فقال:

 

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى ** إذا ما نوى حقًّا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه ** وفارق مثبورًا يغش ويُرغما"(10)

 

فتمثُّل الحسين (عليه السلام) بهذين البيتين يُعبِّر أبلغَ تعبيرٍ عن إرادته التامَّة في الجهاد لغرض التغيير الشامل أو الموت دون ذلك، ولا يخفى على أحدٍ أنَّ خروج الحسين (عليه السلام) من مكَّة إلى العراق لم يكن لغرض إزاحة ابن زياد عن أمارة الكوفة، فلم يكن ابن زياد أميرًا عليها، تُرى لماذا يأبى الحسين الاستسلام لابن زياد والذي هو امتداد ليزيد ويقبل الاستسلام ليزيد؟! وماهو موقع ابن زياد في القضيَّة وهو لم يكن سوى موظَّفٍ ليزيد؟!.

 

وإذا كان الحسين (عليه السلام) يرى أنَّ في الاستسلام لابن زياد مهانةً وذلَّة فهل الاستسلام ليزيد عزَّة وكرامة، وأيُّ عاقلٍ يقبلُ بمثل هذه المفارقات الغريبة!!

 

النص الثالث: ما نقله الطبري وغيرُه أنَّ الحسين (عليه السلام) في يوم العاشر وقُبيل الزحف عليه قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّ إقرار العبيد .."(11).

 

وتُلاحظون أنَّ هذا النص يتنافى تمامًا مع خبر الخصال الثلاث، إذ لا معنى لهذا القول بعد أن قبِل أنْ يضعَ يده في يد يزيد ليَرى فيه رأيَه، وهل من شيءٍ أجلى من هذا الإعطاء والإقرار؟! وماهو الفرق بين ابن زياد وبين يزيد؟!، فإعطاء اليد لابن زياد هو عينُه إعطاء اليد ليزيد، فحينما يُبايع الناس ابن زياد فهم إنَّما يبايعون يزيد، ولهذا لا يلتزم الناس ببيعته لو عزله يزيد عن منصبِه، ولا يقول أحدٌ حينما يُبايع ابن زياد إنِّي بايعتُ ابن زياد وإنَّما يقول بايعتُ يزيدًا.

 

فإباء الحسين (عليه السلام) النزول على حكم ابن زياد -كما هو المُجمع عليه- معناه رفضُ البيعة ليزيد، فكما أنَّ إباء الحسين (عليه السلام) البيعة للوليد بن عتبة في المدينة ولعمرو بن سعيد الأشدق في مكَّة معناه رفض البيعة ليزيد كذلك إباؤه البيعة لعُبيد الله بن زياد معناهُ رفض البيعة ليزيد، وهذا لعمري واضحٌ لمَن ألقى السمع وهو شهيد.

 

وقد تقول: إنَّ الحسين (عليه السلام) أراد من العروض الثلاثة أن يتخلَّص من الحصار الذي فرضَه عليه ابن زياد ثم بعد ذلك يسعى لتحصيل القوَّة ليستعين بها على مواجهة يزيد بن معاوية.

 

والجواب عن ذلك: إنَّ هذا الغرض لو كان فهو انَّما يُناسب طلب الانصراف عنهم حيث شاء ولا يُناسب القبول بالذهاب إلى يزيد ليضعَ يده في يده ثم يرى يزيدُ رأيَه فيه، إذ لعلَّ يزيد يرى قتله أو يرى أن يبقى الحسين معه في الشام ليكون تحت نظارته، ثم إنَّ الحسين (عليه السلام) حينما يقبل بهذا العرض هل سيذهب إلى يزيدَ وحده دون أن تسايرَه جندُ ابن زياد لتوصله إلى قبضةِ يزيد، وأيُّ قوَّةٍ ينتظرُها الحسين (ع) بعد قبوله بهذا العرض؟! وكذلك حينما يقبلُ بتسييره إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين ليكون واحدًا منهم ويكون اختيارُ الثغر لابن زياد، وحينها هل سيمضي الحسينُ (ع) إلى ذلك الثغر وحده ودون أن يكون عليه رقيب؟!.

 

ثم لو فرضنا أنَّ تحصيل القوَّة بعد ذلك ممكنٌ فهو ممكنٌ أيضًا حينما يقبل بالنزول على حكم ابن زياد، ولو كان غرض الحسين (عليه السلام) من دعوى الخصال الثلاث هو ذلك فما الفرق بينها وبين النزول على حكم ابن زياد، فإذا كان تحصيل القوَّة ممكنًا بأحد العروض الثلاثة فهو ممكنٌ مع قبول النزول على حكم ابن زياد، واذا لم يكن تحصيل القوَّة ممكنًا عندما يقبلُ بالنزول على حكم ابن زياد فهو غير ممكنٍ بأحد العروض الثلاثة وبالاخصِّ العرض الثاني والثالث.

 

وبما ذكرناه يتَّضح اختلاق خبر الخصال الثلاث وأنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) ظلَّ رافضًا للبيعة إلى أنْ وافى ربَّه خضيبًا بدمه(12) فإنَّا لله وانَّا اليه راجعون ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليِّ العظيم.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: قراءة في مقتل الحسين (ع)

الشيخ محمد صنقور

24 / رمضان / 1420ه

1 / يناير / 2000م


1- تاريخ الطبري ج4 / ص313.

2- تاريخ الطبري ج4 / ص314.

3- تاريخ الطبري ج4 / ص311، الكامل في التاريخ ج3 / ص283.

4- تاريخ الطبري ج4 / ص322، الكامل في التاريخ ج3 / ص287-288، ونقل أبو حنيفة الدينوري 282ه- في الاخبار الطوال أنَّ عمر بن سعد لمَّا كتب إلى ابن زياد أنَّ الحسين منصرف عن الحرب كتب إليه ابن زياد: ".. فاعرض على الحسين البيعة ليزيد فإذا بايع في جميع من معه فاعلمني ذلك .." فأرسل عمر بكتاب ابن زياد إلى الحسين، فقال الحسين للرسول: "لا أُجيب ابن زياد إلى ذلك، فهل هو إلا الموت فمرحبًا بذلك" ص254.

5- تاريخ الطبري ج4 / ص313، الكامل في التاريخ ج3 / ص283-284 تذكرة الخوواص لسبط ابن الجوزي ص224، البداية والنهاية ج8 / ص190.

6- الكامل في التاريخ ج3 / ص296، تاريخ الطبري ج4 / ص347، أنساب الاشراف ج3 / ص410، البداية والنهاية ج8 / ص205.

7- تاريخ الطبري ج4 / ص303، كتاب الفتوح ج5 / ص137، المنتظم ج5 / ص335.

8- تاريخ الطبري ج4 / ص312-313، ونقل الخبر بتفاوت ابن كثير في البداية والنهاية ج8 / ص189.

9- تاريخ الطبري ج4 / ص305، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام أحداث 60ه / ص12، حلية الاولياء ج2 / ص39، المعجم الكبير للطبراني 2842، مقتل الحسين للخوارزمي ج2 / ص7، سير أعلام النبلاء ج3 / ص310.

10- تاريخ الطبري ج4 / ص305، الكامل في التاريخ ج3 / ص281، ونص الأبيات بحسب نقل الكامل لابن الأثير:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى ** إذا ما نوى حقًا وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه ** وخالف مثبورًا وفارق مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم ** كفى بك ذلا أن تعيش وترغما

مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / ص333 وأضاف هذا البيت:

اُقدِّم نفسي لا أُريد بقاءها ** لتلقى خميسًا في النزال عرمرما

البداية والنهاية ج8 / ص187، كتاب الفتوح ج5 / ص140، أنساب الاشراف ج3 / ص382، وفي مقتل الحسين للخوارزمي أن الحسين بن علي (عليه السلام) قال لأصحاب عمر بن سعد في اليوم العاشر "وهيهات منا أخذ الدنية أبى الله ذلك ورسوله وحجور طابت وطهرت وانوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ..".

فإنْ نَهزم فهزامون قدمًا ** وإن نُهزم فغير مهزمينا

وما إنْ طبَّنا جبنٌ ولكن ** منايانا ودولةُ آخرينا"

ج2 / ص10.

11- تاريخ الطبري ج4 / ص322، الكامل في التاريخ ج3 / ص288، مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / ص358 إلا انَّه نقل النص هكذا "والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل لا أفرُّ فرار العبيد"، البداية والنهاية ج8 / ص194، أنساب الاشراف ج3 / ص396، ونقل ابن أعثم في كتاب الفتوح: أنَّ الحسين (عليه السلام) قال لمحمد بن الحنفية "يا أخي واللهِ لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت والله يزيد بن معاوية" ج5 / ص32.

12- قال أبو المؤيد أخطب خوارزم في مقتل الحسين ج2 / ص11 "قلَّ أصحاب الحسين .. وقد قُتل منهم ما ينيف على خمسين رجلًا، فعندها ضرب الحسين بيده إلى لحيته، فقال: ".. اشتدَّ غضبُ الله على اليهود والنصارى إذ جعلوا له ولدا، واشتدَّ غضبُ الله على المجوس إذ عبدت الشمس والقمر والنار دونه، واشتدَّ غضب الله على قوم اتفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيِّهم، واللهِ لا أُجيبهم إلى شيء مما يُريدونه أبدًا حتى ألقى الله وأنا مخضّبٌ بدمي"، كتاب الفتوح ج5 / ص184.