حديث حول سورة الطور
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الَّذِي سُئِلَتِ الأَنْبِيَاءُ عَنْه فَلَمْ تَصِفْه بِحَدٍّ ولَا بِبَعْضٍ بَلْ وَصَفَتْه بِفِعَالِه، ودَلَّتْ عَلَيْه بِآيَاتِه، لَا تَسْتَطِيعُ عُقُولُ الْمُتَفَكِّرِينَ جَحْدَه، لأَنَّ مَنْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ فِطْرَتَه ومَا فِيهِنَّ ومَا بَيْنَهُنَّ، وهُوَ الصَّانِعُ لَهُنَّ، فَلَا مَدْفَعَ لِقُدْرَتِه، الَّذِي نَأَى مِنَ الْخَلْقِ فَلَا شَيْءَ كَمِثْلِه، الَّذِي خَلَقَ خَلْقَه لِعِبَادَتِه وأَقْدَرَهُمْ عَلَى طَاعَتِه بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ، وقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِالْحُجَجِ، فَعَنْ بَيِّنَةٍ هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وبِمَنِّه نَجَا مَنْ نَجَا، ولِلَّه الْفَضْلُ مُبْدِئًا ومُعِيدًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداَ عَبْدُه ورسولُه (ص).
أوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى اللهِ، واعلموا عبادَ الله أنَّ أفضلَ ما توسَّلَ به المتوسِّلونَ إلى اللهِ (جلَّ ذكرُه) الايمانُ باللهِ وبرسُلِه، وما جاءتْ به مِن عندِ اللهِ، والجهادُ في سبيلِه، فإنَّه ذروةُ الاسلامِ، وكلمةُ الاخلاصِ، فإنَّها الفطرةُ. وإقامةُ الصلاةِ، فإنَّها المِلَّة. وإيتاءُ الزكاةِ، فإنَّها فريضةٌ، وصومُ شهرِ رمضانَ، فإنَّه جُنَّةٌ حصينةٌ، وحجُّ البيتِ والعمرةُ، فإنَّهما يَنفيانِ الفقرَ، ويُكفِّرانِ الذنبَ، ويُوجبانِ الجنَّةَ، وصلةُ الرحمِ، فإنَّها ثروةٌ في المالِ، ومنسأةٌ في الاجلِ، وتكثيرٌ للعددِ، والصدقةُ في السرِّ فإنَّها تكفِّرُ الخطأَ، وتُطفئُ غضبَ الربِّ تباركَ وتعالى. والصدقةُ في العلانيةِ، فإنَّها تدفَعُ مِيتة السوءِ. وصنائعُ المعروفِ، فإنَّها تَقي مصارعَ السوءِ.
قال اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيدِ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ﴿وَالطُّورِ / وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ / فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ / وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ / وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ / وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ / إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ / مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾(1) صدق الله مولانا العلي العظيم
ما ورد في فضل سورة الطور:
هذه الآياتُ المباركاتُ هي مطلعُ سورةِ الطورِ، وهي من السورِ المكيَّةِ، والتي لم يقعْ -ظاهرًا- خلافٌ بين المفسِّرينَ والمحدِّثينَ في أنَّها من السورِ المكيَّة، ورُوي أنَّ نزولَها وقعَ بعد نزولِ سورةِ السجدةِ وقبلَ نزولِ سورةِ تبارك.
وقد وردَ في فضلِها عن الرواياتِ عن أهلِ بيت (ع) أنَّه: "من قرأ سورةَ الطورِ جمعَ اللهُ له خيرَ الدنيا والآخرةِ"(2). ولعلَّ المرادَ من الخيرِ في هذه الروايةِ الشريفةِ ليس هو ما يُتبادرُ إلى الذهنِ من معنى الخيرِ، وهو السعةُ في الرزقِ مثلًا والوقايةُ من الشرورِ والأسواءِ والأدواءِ، فإنَّ كلَّ ذلك وإنْ كان من الخيرِ ولكنَّه ليس هو حقَّ الخيرِ، وليس هو حقيقةً الخيرِ، فعندما يكونُ رزقُ الإنسانِ واسعًا ويكونُ معافى من كلِّ داءِ ومكفيًّا من كلِّ الشرورِ، وعندما يكونُ الإنسانُ وجيهًا محتشمًا ولكنَّه ينتهي أمرُه إلى سخطِ اللهِ يومَ القيامة، فليس ما كان قد حظيَ به في الدنيا خيرًا كما أفادَ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ (عليه أفضلُ الصلاةِ والسلام): "وما شرٌّ بشرٍّ بعدَه الجنَّةُ، وما خيرٌ بخيرٍ بعدَه النار"(3).
قد يُبتلى المؤمنُ في الدنيا بالعديدِ من الابتلاءاتِ والآفاتِ: فيُبتلى بضيقٍ في الرزقِ، ويُبتلى بالفقدِ، ويُبتلى بالمرضِ، ولكنَّ قلبَهُ مطمئنٌ بالإيمانِ، وعامرٌ بتقوى اللهِ، ويموتُ على ذلك ثم يُبعثُ فيُساق إلى الجنَّةِ، فالشرُّ الذي كان يكابدُه في الدنيا ليس بشرٍّ -كما أفاد الإمام- لأنَّ شرًا عاقبتُه الجنَّة ليس بشرٍّ، ولعلَّ هذا هو المراد من الحديثِ الشريفِ، فأنْ يجمعَ اللهُ للمؤمنِ خيرَ الدنيا وخيرَ الآخرةِ فمعنى ذلك أنْ يمنحَه الهدايةَ والثباتَ عليها في الدنيا ويمنحَه الجنَّة في الآخرةِ، فمن وُفِّق لذلك فقد جمعَ اللهُ له خيرَ الدنيا وخيرَ الآخرة. هذا ما يتَّصلُ بما ورد في فضلِ قراءةِ هذه السورةِ المباركةِ.
بعد ذلك نتحدثُ عن معاني الآياتِ التي تلوناها ونبدأُ بالآيةِ الأولى وهي قولُه تعالى: ﴿وَالطُّورِ﴾.
فقد بدأتْ هذه السورة بالقسمِ والمُقسمُ به هو الطورُ وأمورُ أخرى أربعة:
1- أقسم اللهُ عزَّوجلَ في هذه السورة بالطور.
2- وأقسمَ بالكتابِ المسطورِ.
3- وأقسمَ بالبيتِ المعمورِ.
4- وأقسمَ بالسقفِ المرفوعِ.
5- وأقسمَ بالبحرِ المسجورِ.
المعنى اللغوي لكلمة الطور:
ومعنى الطور -كما أفاد اللغويُّونَ- هو الجبلُ، ولكنّه ليس كلُّ جبلٍ، فليس كلُّ جبلٍ يُقالُ له طور، بل هو الجبلُ العظيمُ الذي يُعبَّرُ عنه بالطَود، وأفاد آخرونَ كابن عباس أنَّه ليس كلُّ جبلٍ عظيمٍ يُقالُ له طور، فثمة جبلٌ متشامخُ في الارتفاع ومتعاظمٌ من حيثُ السعة ولكنُّه لا يُسمَّى طورًا، وذلك لأنَّ الطورَ هو الجبلُ العظيمُ النابتُ أي الذي ينبتُ عليه الزرع في مقابل الجبلِ العظيمِ الأصمِّ الذي لا ينبتُ عليه الزرعُ، فالمرادُ من الطورِ لغةً -بحسب هذه الدعوى- هو الجبلُ العظيمُ الذي ينبتُ عليه الزرعُ هكذا أفاد بعضهم اللغويين، واكتفى آخرون بالقولِ: إنَّ الطورَ هو الجبلُ العظيمُ وإنْ لم يكن ممَّا ينبتُ عليه الزرع. هذا هو المدلولُ اللغويُّ لكلمةِ الطورِ.
المراد من الطور في الآية:
وأمَّا ما هو المرادُ من الطورِ في هذه الآيةِ؟ وهل هو مطلقُ الجبلِ؟ يعني أنَّ الله عزَّ وجل بصددِ القسمِ بكلِّ جبلٍ عظيم؟
احتمل عددٌ من المفسرينَ ذلك، وقالوا إنَّ القرآنَ كما هو الشأنُ في العديدِ من الآيات، أقسم ببعضِ خلقِ الله تعالى وببعض الظواهرِ الكونيَّة، فهو هنا أيضًا يُقسمُ بواحدٍ منمخلوقاتِ اللهِ تعالى للتعبيرِ عن عظمتِه جل وعلا.
ولكنَّ المعروفَ بين المفسرينَ أنَّ القرآن الكريم في هذه السورةِ لم يُقسمْ بمطلقِ الجبلِ، وإنُّما أقسمَ بجبلٍ معيَّنٍ هو الجبل الذي ناجى اللهُ تعالى فيه موسى (ع) أو ناجى موسى فيه ربَّه جلَّ وعلا، فالمقسمُ به في هذه الآيةِ هو هذا الجبلُ.
والمؤيِّدُ لذلك هو انَّ العديدَ من الآياتِ ذكرت اسمَ الطور وأرادتْ منه ذلك خصوصَ ذلك الجبلِ الذي وقعت فيه المناجاةُ بين نبيِّ اللهِ موسى (ع) وبينَ ربِّه جلَّ وعلا، فمن تلك الآياتِقولُه تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾(4). وكذلك قولُه تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ / وَطُورِ سِينِينَ﴾(5) فطورُ سينينَ هو الجبلُ الذي وقعتْ عنده المناجاةِ بين موسى (ع) وربِّه. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾(6) وقد عبَّر عنه القرآنُ في آيةٍ أخرى بطوى، قال تعالى: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾(7).
استعمال القرآن لمفرداتٍ من أصولٍ غير عربيَّة:
وهنا نُشيرُ إلى مسألةٍ ثم نرجعُ إلى التفصيلِ في بيانِ معنى الطورِ، وهي إنَّ كلمةَ الطورِ وإنْ كانت مستعملةً في لغةِ العربِ إلا انَّها ليست كلمةً عربيَّة -كما قيل- بل هي من لغةِ النبطِ أوهي من أصلٍ سرياني عُرِّبت واستُعملتْ في كلامِ العربِ، فالكلمةُ رغم أنَّها لم تكنْ من أصولٍ عربية إلا إنَّ القرآن استعملَها كما اتَّضحَ في هذه السورةِ وفي سورٍ عديدةٍ تبلغ ربَّما تسعُ آيات، فرغم انَّ كلمةَ الطور -بحسبِ هذه الدعوى- ليست عربيَّةً إلا انَّ القرآنَ قد استعملَها في آياتٍ عديدة، وكذلك استعملَ القرآنُ كلماتٍ أخرى ليستْ من أصلٍ عربي في مواردَ عديدةٍ:
فاستعملَ كلمةِ الفردوس، والفردوسُ ليست كلمةً عربيَّةً، ولعلَّها من أصلٍ فارسيٍّ، واستعملَ كلمةَ سجِّيلٍ وهي من أصلٍ فارسيٍّ أيضًا -كما قِيل- ومعناها الحجرُ الصلبُ. واستعملَ كلمةَ المشكاةِ، والمشكاةُ ليستْ كلمةً عربيَّة. وكذلك الإستبرقُ بمعنى الحرير، والقسطاسُ وهي من أصولٍ حبشيَّةٍ كما قيل. وهناك عددٌ آخر من الكلماتِ استعملَها القرآنُ الكريمُ رغم انَّها لم تكن من أصلٍ عربيٍّ.
هل ينفي ذلك عن القرآن وصف العربي:
من هنا انبرى بعضُ المسيحيين، وبعض المشكِّكينَ فقالوا: كيف يصفُ القرآنُ نفسَه بأنَّه قرآنٌ عربيٌّ، كما في قولِه تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(8) والحال أنَّه قد استعملَ في القرآنِ عددًا من الكلماتِ غيرِ العربيَّةِ.
جواب الشبهة:
هذا إشكالٌ يثيرُه بعضُ المسيحيين وبعض المستشرقين، وهو إشكالٌ واهنٌ، وذلك لأنَّ استعمالَ القرآنِ لكلماتٍ محدودةٍ من أصلٍ غيرِ عربيٍّ لا ينفي عنه وصفَ العربيَّة، لماذا؟ لأنَّ وصفَ خطابٍ بلغةٍ معيَّنة أو نسبةَ كتابٍ إلى لغةٍ معيَّنةٍ يتقوَّمُ بركنينِ أساسيينِ:
الركن الأول: هو إنَّ الكتابَ يعتمدُ الأسلوبَ والتراكيبَ والتصريفاتِ -تصريفاتِ الأفعالِ- التي هي مقرَّرةٌ في تلك اللغةِ المنتسبِ إليها، ويعتمدُ القواعدَ والضوابطَ اللغويَّةَ المعتمدَةَ في تلك اللغةِ التي ينتسبُ إليها ذلك الكتابُ، هذا هو الركن الأول. فإذا وجدنا كتابًا يُوصفُ بأنَّه كتابٌ عربيٌّ مثلًا وكان هذا الكتاب من حيثُ تراكيب جملِه وتصريفات أفعالِه والقواعد المعتمدة وأدوات الربط فيه كلها عربية فإنَّه يكونُ قد توفَّرَ على الركنِ الأولِ المصحِّحِ لنسبته إلى العربيَّةِ.
الركن الثاني: هو أنْ تكونَ الغالبيَّةُ العظمى لمفرداتِه من هذه اللغة التي انتسبَ إليها. فإذا كان كذلك فقد توفَّرَ على الركنِ الثاني المصحِّحِ لنسبةِ ذلك الكتابِ إلى تلك اللغةِ.
وعليه فلننظرْ للقرآنِ المجيد، والذي وصفَ نفسَه بأنَّه كتابٌ عربيٌّ، هل هو واجدٌ للركنينِ اللذَين ذكرناهما؟
والجوابُ هو انُّه بأدنى ملاحظة نجدُ انَّ تراكيبَ الجملِ في القرآنِ هي على نسقِ التراكيبِ العربيَّةِ دون استثناءٍ. ونجدُ أنَّ تصريفاتِ الأفعالِ وأسماءِ الفاعلِ وأسماءِ المفعولِ والصفاتِ المشبِّهة والمصادرِ وسائرِ الاشتقاقاتِ مصوغةٌ على النسقِ المقرَّرِ في اللغةِ العربيَّةِ، وكذلك نجدُ أدواتِ الربطِ فيه: من حروف الجر والضمائر وغيرها هي أدواتُ الربطِ في اللغةِ العربيَّةِ. إذن فالركنُ الأولُ متحقِّقٌ دونَ ريبٍ في التراكيبِ اللفظيةِ القرآنيَّة.
وأما الركنُ الثاني وهو مفرداتُ القرآنِ من الأسماءِ وموادِ الأفعالِ وموادِّ أسماءِ الفاعلِ والمفعولِ والصفاتِ المشبِّهةِ، فانَّ الغالبيةَ العظمى والساحقةِ هو انَّها مفرداتٌ من اصولٍ عربيَّة وليس في مقابل ذلك إلا نزرٌ يسيرٌ من الكلماتِ التي هي من أصولٍ غيرِ عربيَّة، فالغالبيَّة العظمى من مفرداتِ القرآنِ وأسمائِه وموادِّ أفعالِه هي من اللغةِ العربيَّةِ. أي انَّه لو قسنا المفرداتِ التي من هي أصلٍ غيرِ عربي إلى المفرداتِ التي استُعملت في القرآن وكانت من أصلٍ عربي لوجدنا أنَّ النسبة بينهما تتجاوزُ نسبةَ الواحدِ إلى 100 ألف أو أكثر، أفيصحُّ والحال كذلك نفيُ وصفِ العربيَّةِ عن القرآنِ لمجرَّدِ أنَّه اشتملَ على كلماتٍ محدودةٍ من أصلٍ غيرِ عربيٍّ؟!
إنَّ مثلَ هذه الإشكالاتِ هي مِن الوهنِ بحيثُ لا تكونُ بحاجةٍ إلى جوابٍ لولا الخشيةُ من عُلوقِ مثلِ هذه الشبهاتِ في أذهانِ البسطاءِ من الناسِ.
فلو بحثتم في أيِّ كتابٍ من الكتبِ منتسبٍ إلى أيِّ لغةٍ، فإنَّكم ستجدونَ بعض كلماتِه من غير تلك اللغةِ لكنَّ أحدًا لا يسعُه أنْ ينفيَ انتسابَ ذلك الكتابِ إلى تلك اللغةِ، فلو كان الكتابُ منسوبًا إلى اللغةِ الفرنسيَّةِ مثلًا وسئلَ عنه المصنِّفونَ في المكتباتِ الفرنسية وكذلك أدباءُ تلك اللغةِ وعموم المتكلِّمينَ بها لو سئل هؤلاءِ جميعًا عن لغةِ هذا الكتابِ؟ وفي أيِّ الكتبِ يصحُّ تصنيفُه؟ لأجابوا بأنَّه كُتب باللغةِ الفرنسيةِ ويُصنَّفُ في الكتب الفرنسيةِ رغم أنَّ هذا الكتاب قد اشتملَ على مفرداتٍ ليست من أصولِ تلك اللغةِ.
وحتى الخطيب الذي يتكلَّم، لو سُئل الناسُ عن لغةِ خطابه لكانَ جوابُهم إنَّه يتكلَّمُ باللغةِ التي يستعمل مفرداتِها وتراكيبَها اللفظيَّةِ، فينسبون خطابَه إلى اللغةِ العربيةِ مثلًا إذا كان يستعملُ مفرداتِها وتراكيبَها في ذلك الخطابِ، ولا ينفونَ العربيَّة عن خطابِه الذي امتدَّ لساعةٍ لمجرَّدِ استعمالِه كلمةً أو كلمتينِ أو عشرَ كلماتٍ أو أكثر من لغاتٍ أخرى، فلو جاء بمصطلحاتٍ ليست عربيَّة، مثل كلمة الديمقراطيَّة والبرجوازيَّة والأرستقراطيَّة، فإنَّ أحدًا لا يسعُه أن ينفيَ وصفَ العربيَّةِ عن خطابِه لمجرَّدِ ذلك.
الاستعمال تمَّ بعد التعريب:
ثم إنَّ القرآنَ حينما استعملَ هذه الكلماتِ التي هي من أصولٍ غيرِ عربيةٍ إنَّما استعملَها بعد أنْ استعملتها العربُ في أشعارها وفي خُطبها وفي محاوراتِها وفي يومياتِها، واستعملَها بعد أن تمَّ تعريبُها في لغةِ العربِ، فتلك الكلماتُ وإن كانت من أصولٍ غيرِ عربيَّةٍ إلا انَّها صيغتْ وفقَ التصريفاتِ العربيَّةِ، فالقرآن إنَّما استعملها بعد التعريبِ، فلذلك يُعبَّرُ عنها بالكلماتِ المعرَّبةِ، كما هو الشأنُ في أيِّ لغةٍ، فعمومُ اللغاتِ تسعملُ المفرداتِ التي هي من غيرِ أصولِها ولكن بعد صياغتِها وفق التصريفاتِ المناسبةِ لتلك اللغةِ، فالكلمةُ العربيَّةُ حينما يستعملُها الفارسيُّ فإنَّه يصوغُها بما يتناسبُ مع التصريفاتِ المقرَّرة في اللغة الفارسيةِ، وهكذا هي اللغة السريانيَّةُ أو العبريَّةُ أو الفرنسيةُ أو غيرُها من اللغاتِ، ولو بحثتم في اللغاتِ لوجدتُم أنَّ لغاتِ الأرضِ متداخلةٌ في بعض كلماتِها، فلا ينفي ذلك تميُّزَ اللغاتِ بعضِها عن بعضٍ. فهذا إشكال واهٍ لا يُعتدُّ به ولا يستحقُّ الوقوفَ عليه أكثرَ من ذلك.
موارد استعمالِ كلمةِ الطور في القرآن:
بعد هذا الاستطرادِ نرجعُ إلى كلمةِ الطور والتي قلنا: إنَّ القرآنَ قد ذكرَها في مواردَ عديدةٍ، وأكثرُ هذه المواردِ التي استعملَ القرآنَ فيها كلمةَ الطور كان المقصودُ منها ذلك الجبلَ المقدَّسَ الذي كان ظرفًا لذلك الحدثِ العظيمِ وهو تكليمُ اللهِ عزَّوجلَ لموسى (ع) -أي أنه كان المحلُّ الذي كلَّمَ اللهُ فيه موسى تكليمًا، ومعنى تكليمِه لموسى (ع) -كما أفادَ أهلُ البيت (ع)- هو أنَّ اللهَ عزَّوجل خلقَ الكلامَ وأوجده في الشجرةِ التي كانت في ذلك الموقعِ فانبعث الكلامُ من تلك الشجرةِ وملأ الأجواءَ المحيطةَ بذلك الموقعِ، فهذا هو معنى التكليمِ كما أفادَ أهلُ البيتِ (ع).
فمن تلك الآياتِ التي تحدثتْ عن الطورِ وكانت تقصدُ منه ذلك الموقعَ هو الآية التي قرأناها قبل قليلٍ: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾(9).
فرار موسى (ع) من مصر والتقاؤه بشعيب (ع):
فموسى (عليه السلام) بعد حادثةِ القبطيِّ التي وقعتْ له عندما كان يمرُّ في طريقِهِ فوجدَ رجلين يقتتلانِ هذا من شيعتِه وهذا من عدوِّه فأرادَ أنْ يفكَّ النزاعَ بينهما فوكزَ القبطيَّ -وكان موسى قويًّا شديدَ البأس- وكزَه فسقطَ ميِّتًا، فبعدَ يومٍ جاءه ناصحٌ فقال له: ﴿إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾(10) فخرجَ موسى خائفًا يترقَّب لا يلوي على شيءٍ حتى وردَ ماءَ مدين، فوجد عليه أُمةً من الناس يسقونَ مواشيهم، ووجدَ امرأتينِ معهما قطيعٌ من غنمٍ تذودانِ أي تمنعانِ الغنمَ من ورودِ الماء، فسألَهما عن شأنهما، لأنَّ العادةَ هي المبادرةُ إلى الماء لسقي المواشيةِ لكنَّه وجد هاتينِ المرأتين تذودانِ الغنمَ عن الماءِ، فسألهما عن شأنهما؟ فقالتا: لا نسقي حتى يُصدرُ الرعاة، فإذا ابتعد الرعاةُ بمواشيهم عن الماءِ بادرنا لسقي مواشينا حتى لا نُخالَطهم، وذلك يُعبِّرُ عن حشمةٍ تميَّزتْ به هاتانِ المرأتانِ، فهما لا تبادرانِ لسقي الأغنامِ حرصًا منهما على عدم مزاحمةِ الرُعاةِ المقتضيةِ عادةً للإحتكاكِ المنافي للحشمةِ، ولأنَّ موسى (ع) وجد أنَّ انتظارَهما حتى يُصدرُ الرُعاة فيه مشقةٌ يصعبُ تحملُها على مثلِ النساء لذلك أشفقَ عليهما فأخذ القطيعَ وسقاه، ثم أوى إلى الظلِّ.
فعادت البنتان إلى أبيهما في وقتٍ مبكرٍ فكان رجوعُهما في ذلك الوقتِ ملفتًا، ولهذا سألهما فأخبرتاه بأنَّ رجلًا صالحًا شابًا سقى لهما ثم أوى إلى الظل، فقالت إحداهما: يا أبتي استأجره، ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾(11) فبعثها أبوها إليه تدعوه، فجاءت إليهتمشي علىاستحياء وأخبرته انَّ أباها يدعوه ليجزيَه أجر سقياه لهما، ولأنَّ موسى (عليه السلام) يبحث عمَّن يأويه لذلك ذهب إلى ذلك الشيخ فوجدَه نبيَّ اللهِ شعيبًا (عليه السلام)، ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(12)، فطمأنه أنَّ أرض مدين خارجةٌ عن سلطانِ فرعونَ وقومِه، ثم عرضَ عليه أن يستأجرَه وعرضَ عليه أن يُزوِّجه إحدى ابنتيه على أنْ يكونَ صداقُها هو ثمنَ تأجيرِ نفسه عنده ثمانِ حجج؟أي ثمان سنين فإن أضاف إليها سنتينِ فمن عنده ثم قال له: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾([13])، فوافقَ موسى (عليه السلام) على ذلك العرضِ فتزوَّج ابنةَ شعيبٍ وظلَّ أجيرًا عندَه إلى تمامِ الأجلِ.
اللحظة التي أصبح موسى بعدها رسولًا من ربِّ العالمين:
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ أخذ زوجته ليعودَ بها إلى وطنِه وهي مصرُ.وأفادت بعض الروايات أنَّ زوجته كانت حُلبى وكان الطقسُ حينذاك شاتيًا كما يُشيرُ إليه قولُه تعالى: ﴿لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ فكان من الدوافعِ التي بعثتْه إلى قصدِ النار التي آنسَها من بعيدٍ هو أن يأتيَ لزوجتِه بجذوةٍ من النار تتدفأ بها، ويظهرُ من بعض الرواياتِ أنَّه قد ضلَّ الطريقَ إلى بلدِه، فلمَّا رأى النارَ شعرَ بالأنس، لأنَّ وجود النار يلازمُ عادةً وجود أناسٍ حولَها فلعلَّ عندهم خبرٌ يهتدي به للوصولِ إلى مقصدِه، لذلك أفادتِ الآيةُ ﴿آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّور﴾ من جانبِ هذا الجبل ﴿مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ امكثوا: أي أقيموا في هذا الموقع وأنا سأذهبُ إلى موضعِ هذه النار، ﴿امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ هذا الخبرُ يرفعُ عنا التَيهَ الذي وقعنا أو لا أقلَّ آخذُ جذوةً من تلك النارِ لتصطلوا بها وتتدفؤوا، فحين أتاها تبيَّن أنَّها نارٌ مشتعلةٌ في شجرةٍ ولهبُها ممتدٌ إلى عنانِ السماءِ، لذلك فزِعَ موسى، وزاد من فزعِه أنَّه سمعَ صوتًا لا يدري من أينَ مصدرُه يُخاطبُه: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ في ليلٍ بهيمٍ وصحراءَ مقفِرةٍ وأجواءٍ شاتيةٍ كلُّ ذلك يبعثُ على الرعب ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾.
وفي آية أخرى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(14) تلك هي اللحظةُ التي أصبحَ بعدها موسى رسولًا من ربِّ العالمينَ ذهبَ إلى النارِ يبتغي خبرًا عن الأرضِ فعادَ منها بخبرٍ عن السماءِ.
نستكملُ الحديثَ فيما بعدُ.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(15).
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
4 من شهر رمضان 1437هـ - الموافق 10 يونيو 2016م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- سورة الطور/ 1-8.
2- مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج9/270.
3- الأمالي -الشيخ الصّدوق- ص400.
4- سورة القصص / 29.
5- سورة التين / 1-2.
6- سورة مريم / 52.
7- سورة طه / 12.
8- سورة يوسف / 2.
9- سورة القصص / 29.
10- سورة القصص / 20.
11- سورة القصص / 26.
12- سورة القصص / 25.
13- سورة القصص / 27.
14- سورة القصص / 30.
15- سورة العصر / 1-3.