تساؤلات حول عبد الله بن عباس

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما أوردتموه سماحتكم في تاريخ 2020/10/22م بحق عبدالله بن العباس نودُّ نبين ما يلي:

 

1- صحيح في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ثم مال إلى معاوية.

2- ادعى بأن أبا طالب (ع) مات مشركا انسجاما مع الخط المعادي لأهل البيت (ع).

 

3- مات رسول الله ص وعمره 13 أو 14 سنة ومع ذلك روى 1660 حديثًا عن النبي محمد (ص).

4- كان يفتي بدون الرجوع إلى أئمتنا المعصومين وقد عاصر منهم لغاية الإمام الباقر (ع) في حين لا نسمع أي فتوى من العباس (ع) مثلا أو من مسلم بن عقيل.

 

5- عارض الإمام الحسين (ع) لدى خروجه إلى كربلاء بدون أن يعتبره إمامًا مفترض الطاعة ويجب أن لا يطيل الجدل معه.

6- روى حديث (ما زنت امرأءة نبي قط) ربما صحيح ولكن لا يقول سمعت رسول الله ص حتى بعض المفسرين يُنهون الرواية إلى ابن عباس بدون التحقُّق هل هذا رأيه أم سمعه من رسول الله (ص) أو أحد من الائمة (عليهم السلام).

 

أرجو توضيح ذلك .. مع التقدير.

 

الجواب:

ابن عباس من رواة النصِّ على الأئمة (ع):

الأول: ميلُه إلى معاوية محضُ افتراء على الرجل، ولا دليل عليه يُمكن اعتماده من طُرقنا بل ثبت أنَّه كان مع الإمام الحسن (ع) وهو أحدُ بل أولُ مَن دعا إلى بيعة الإمام الحسن (ع) بعد استشهاد أمير المؤمنين (ع) ثم إنَّ الإمام الحسن (ع) ولَّاه على البصرة قبل أنْ يقع الصلح.

 

ثم كان مع الحسن والحسين (عليهما السلام) في المدينة بعد الصلح وكان أحد الداعمين للإمام الحسين (ع) في الإنكار على معاوية حين جعل ولاية العهد ليزيد. وله روايات كثيرة في بيان فضائل أمير المؤمنين (ع) والحسن والحسن (ع) وهو من رواة النصِّ على الأئمة الاثني عشر (ع)(1). راجع للمزيد كتاب قاموس الرجال للتستري ترجمة عبد الله بن عباس(2).

 

لم يصح عنه ما زعموه من تكفير أبي طالب:

الثاني: لم يثبت عليه ذلك بل هي من روايات العامة نُسبت إليه من قِبلهم دعمًا لدعواهم، وليس وحده الذي نُسب إليه ذلك فقد نسبوا إلى أمير المؤمين (ع) أنه وصف أباه بالضال والكافر كما في السنن للبيهقي بسنده عن علي قال: "لما تُوفي أبو طالب أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقلتُ يا رسول الله إنَّ عمَّك الضال -وفي رواية الكافر- قد هلك قال: فانطلق فوارِه، فقلت ما انا بمواريه قال: فمَن يواريه انطلق فوارِه ولا تحدثنَّ شيئا حتى تأتيني فانطلقتُ فواريتُه فأمرني أنْ اغتسل"(3).

 

وهو خبرٌ منكر ومستبشع، نعوذ بالله من مضلَّات الفتن. 

 

كيف يروي عن الرسول (ص) وكان صغيراً:

الثالث: أكثر هذه الروايات وردتْ من طُرق العامَّة وهو حين يُسند الرواية للرسول (ص) لا يعني بالضرورة أنَّه سمعها من الرسول (ص) مشافهة بل كثيرًا ما يكون ذلك قد تلقَّاهُ عن أحد الصحابة، ولأنَّ السنَّة تعتمد مراسيل الصحابة لذلك يعتمدون رواياته رغم عدم تلقيها عن الرسول (ص) مشافهة، لذلك تجدهم يقبلون روايات ابن عباس التي يرويها عن الرسول (ص) حين كان الرسول (ص) في مكَّة وفي أوائل الدعوة رغم أنَّ ابن عباس لم يولد حينها بعدُ ثم إنَّه بقي في مكَّة بعد الهجرة ولم ينتقل إلى المدينة إلا بعد غزوة بدر وكان صغيرًا فأكثر رواياته عن الرسول (ص) تلقَّاها بواسطة أحد الصحابة. وهكذا فإنَّ روايات عائشة عما يرتبط بالعهد المكي كانت ترويها بالواسطة ورغم ذلك يقبلونها لأنَّ رواية الصحابي عن الصحابي مقبولة عندهم وإنْ لم يُصرِّح باسم الصحابي الذي ينقل عنه.

 

أكثر ما عند ابن عباس تلقَّاه عن عليٍّ (ع):

الرابع: لم يكن يُفتي إلا بما يوافق مذهب أهل البيت (ع) كما يظهر ذلك من فتواه في متعة الحج، ومتعة النساء، ومسألة العول والتعصيب في الميراث، ومسألة الجمع بين الصلاتين، ومسألة المسح على الخُفّين وغيرها من المسائل، وما عدا ذلك فلم يثبت من طرقنا وإنَّما نُسب إليه من طرق غيرنا. وأما آراؤه في التفسير فقد صرَّح في موارد عديدة أنَّه تعلَّم التفسير عن أمير المؤمنين (ع) وأنَّ كلَّ ما عنده فهو قطرة من بحر علم أمير المؤمنين (ع).

 

فمن ذلك ما رواه الشيخ المفيد في أماليه والشيخ الطوسي في أماليه بسندٍ عن سعيد بن المسيب قال: سمعتُ رجلا يسأل ابن عباس عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له ابن عباس: إنَّ علي بن أبي طالب صلَّى القبلتين، وبايع البيعتين، ولم يعبد صنما ولا وثنا" إلى أن قال: "عليٌّ علَّمني، كان علمُه من رسول الله صلَّى الله عليه وآله، ورسول الله صلَّى الله عليه وآله علَّمه الله من فوق عرشه، فعلمُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم من الله، وعلمُ عليٍّ من النبي، وعلمي من علم عليٍّ، وعلمُ أصحاب محمد كلُّهم في علم عليٍّ عليه السلام كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر"(4).

 

وأمَّا قولُكم أنَّه عاصر الإمام الباقر(ع) فلا يصحُّ، فهو لم يُدرك إمامة الإمام الباقر (ع) وتُوفي في أوائل إمامة الإمام زين العابدين (ع) بعد فاجعة كربلاء بسبع سنين تقريبًا يعني سنة ثمانية وستين للهجرة، وكانت وفاته في الطائف بعد أنْ أُقصي وجملة الهاشميين من مكة من قِبل عبد الله بن الزبير لرفضهم مبايعته وكاد أنْ يُحرقهم لولا تدخُّل المختار الثقفي فبقي بعد هذه الحادثة الشهيرة في الطائف إلى أنْ توفَّاه الله سنة ثمانية وستين هجريَّة يعني قبل استشهاد الإمام زين العابدين (ع) بسبعٍ وعشرين سنة تقريبًا.

 

كان صحيح العقيدة:

وقد روى الخزاز القمِّي في كتابه كفاية الأثر بسنده عن عبد الحميد الأعرج، عن عطا قال: دخلنا على عبد الله بن عباس وهو عليل بالطائف في العلَّة التي تُوفي فيها ونحن زهاء ثلاثين رجلًا من شيوخ الطائف وقد ضعُف، فسلَّمنا عليه وجلسنا، فقال لي: يا عطا مَن القوم؟ قلتُ: يا سيدي هم شيوخ هذا البلد، منهم عبد الله بن سلمة بن حضرمي الطائفي، وعمارة بن أبي الأجلح، وثابت بن مالك، فما زلتُ أعدُّ له واحدًا بعد واحد، ثم تقدَّموا إليه فقالوا: يابن عمِّ رسول الله إنَّك رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسمعتَ منه ما سمعت، فأخبرنا عن اختلاف هذه الأمة، فقومٌ قد قدموا عليًّا على غيره، وقومٌ جعلوه بعد ثلاثة.

 

قال: فتنفَّس ابنُ عباس وقال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ، وهو الإمامُ والخليفةُ من بعدي، فمَن تمسَّك به فاز ونجا، ومَن تخلَّف عنه ضلَّ وغوى، يلي تكفيني وغسلي ويقضي ديني وأبو سبطي الحسن والحسين، ومن صلب الحسين تخرج الأئمةُ التسعة، ومنَّا مهديُّ هذه الأمة.

 

فقال له عبد الله بن سلمة الحضرمي: يابن عمِّ رسول الله فهلَّا كنتَ تُعرِّفنا قبل هذا؟ فقال: قد واللهِ أديتُ ما سمعتُ ونصحتُ لكم ولكن لا تُحبُّون الناصحين.

 

ثم قال: اتقوا الله عباد الله تقيةَ من اعتبر بهذا واتقى .. وتمسكوا بالعروة الوثقى من عترة نبيِّكم، فإنِّي سمعتُه صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "من تمسَّك بعترتي من بعدي كان من الفائزين".

 

ثم بكى بكاءً شديدا، فقال له القوم: أتبكي ومكانك من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مكانك؟ فقال لي: يا عطا إنَّما أبكي لخصلتين: هول المطَّلع، وفراق الأحبة.

 

ثم تفرَّق القوم فقال لي: يا عطا خذ بيدي واحملني إلى صحن الدار، ثم رفعَ يديه إلى السماء وقال: اللهمَّ إنِّي أتقرًّبُ إليك بمحمَّدٍ وآله، اللهمَّ إنِّي أتقرَّبُ إليك بولاية الشيخ عليِّ بن أبي طالب. فما زال يُكرِّرها حتى وقع إلى الأرض، فصبرنا عليه ساعةً ثم أقمناه فإذا هو ميِّت رحمة الله عليه"(5).

 

الخامس: لم يُعارض الإمام الحسين (ع) تخطئةً له بل إشفاقًا عليه كما يتَّضح ذلك من محاوراته فكان يُقرُّ بحقانيَّة موقف الإمام (ع) ولكنَّه كان أضعف من أنْ يستوعب إقدام الإمام الحسين (ع) على التضحية، فشأنُه شأنُ كثيرٍ منَّا يعرفُ الحقَّ ويعرفُ أهله ويُقُّر به ويعتقدُه ولكنَّه يضعفُ عن الالتزام به.

 

معنى الحديث الموقوف:

السادس: هذا النوع من الحديث يُعبَّر عنه بالحديث الموقوف وهو الذي لم يُسنده الصحابي إلى الرسول (ص) ولكنَّ مضمونه لا يُمكن تلقِّيه إلا بواسطة الوحي أي أنَّ مدلوله لا يُمكن أن يكون قد نشأ عن اجتهاد ففي هذا الفرض يُعدُّ حديث هذا الصحابي من الأحاديث المُسندة عن الرسول (ص) فتكون حجةً بناءً على حجيَّة خبره.

 

ومثال الحديث الموقوف ما لو أخبر الصحابي عن شأنٍ من شؤون الغيب كمسائل البرزخ والبعث أو الجنَّة أو النار أو مقدار ثوابٍ على عمل أو نوع عقابٍ على عمل فإنَّ مثل ذلك لا يُمكن أن يكون عن اجتهادٍ ورأي، وكذلك لو أخبر الصحابي عن شيءٍ ممَّا وقع للأنبياء السابقين كالخبر المذكور فإنَّ مثله لا يصحُّ تصنيفه في المسائل الاجتهاديَّة التي يُمكن للإنسان أن يُعمِلَ فيها رأيه، ولذلك يُصنُّف مثل هذا القول في الحديث الموقوف المتلقَّى عن الرسول (ع) مشافهةً أو بالواسطة، هذا لو تمَّ التثبت من صدور الخبر الموقوف عن الصحابي وكان الصحابي ثقة.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / ربيع الأوّل / 1442هـ

1 / نوفمبر/ 2020م


1- كفاية الأثر -الخزاز القمي- ص10-22.

2- قاموس الرجال -التستري- ج6 / ص418-493

3- السنن الكبرى -البيهقي- ج1 / ص304، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج66 / ص333.

4- الأمالي -المفيد- ص232، الأمالي -الطوسي- ص12.

8- كفاية الأثر -الخزاز القمِّي- ص20-21.