ثكلتك أمُّك ليس دعاءً على المخاطَب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

لمحتُ في قراءتي لأحد الكتب وجود رواية منسوبةً للنبيِّ صلَّى الله عليه واله أنَّه قال لمعاذ "ثكلتك أُمُّك" ووجدتُ بعد البحث أيضًا أنَّه صلَّى الله عليه واله قال أيضا لسودة بنت زمعة زوجته: "قطع الله يدك" وأنَّه قال لأُمِّ سلمة: "تبتْ يمينك" فهل لديكم شيخنا العزيز ما يثبت او ينفي هذا الكلام عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وجزيتم خيرا.

 

الجواب:

"قطع الله يدك" حديثٌ مكذوب:

أمَّا ما نُسب إلى الرسول (ص) أنَّه قال لإحدى زوجاته: "قطعَ اللهُ يدَكِ" فلا يصحُّ، فإنَّ ذلك واردٌ في طرق العامَّة كمسند أحمد بسنده عن ذكوان مولى عائشة عن عائشة قالت: دخلَ علَيَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بأسيرٍ فلهوتُ عنه، فذهب فجاء النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما فعل الأسير؟ قالت: لهوتُ عنه مع النسوة فخرج فقال: مالكِ قطعَ الله يدَكِ أو يديك، فخرج فآذنَ به الناسَ فطلبوه فجاؤوا به فدخل علَيَّ وأنا أُقلِّب يدي فقال: مالكِ أجننتِ؟ قلتُ: دعوتَ علَيَّ فأنا أقلِّبُ يدي أنظر أيَّهما يقطعان فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه مدَّا وقال: اللهمَّ إنِّي بشر أغضبُ كما يغضبُ البشر فأيُّما مؤمنٍ أو مؤمنةٍ دعوتُ عليه فاجعلْه له زكاةً وطهورا"(1).

 

وأورد كذلك بسنده عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلًا فقال: احتفظي به قال: فغفلتْ حفصة ومضى الرجل فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وقال: يا حفصة ما فعل الرجل؟ قالتْ: غفلتُ عنه يا رسول الله فخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قطع اللهُ يدكِ، فرفعت يديها هكذا فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما شأنُك يا حفصة؟ فقالت: يا رسول الله قلتَ قبلُ لي كذا وكذا فقال لها: صفِّي يديك فانِّي سألتُ الله عزَّ وجل أيُّما انسانٍ من أمتي دعوتُ الله عزَّ وجل عليه أنْ يجعلها له مغفرة"(2).

 

فمثل هذه الروايات المُسِيئة لمقام الرسول الكريم (ص) ساقطةٌ عن الاعتبار بل من المحرَز أنَّها مكذوبة، وذلك لمنافاتها مع أصلٍّ من أصول العقيدة وهي عصمته (ص)، فهو ليس كسائر البشر -كما تزعم الرواية- ينساقُ مع مقتضيات الغضب، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾(3) فمعنى أنَّه لا ينطق عن الهوى هو أنَّه لا يقع تحت تأثير المشاعر التي تنتابُ الإنسان كالرضا والغضب والحبِّ والبغض والحزن والفرح، فرغم أنَّه يغضبُ ويسخط ويرضى ويُحبُّ ويحزن ويفرح إلا أنَّ شيئًا من هذه المشاعر وغيرها لا يكون لها أدنى تأثير على ما يقول وما يفعل بمعنى أنَّها لا تُخرجه من حقٍّ إلى باطل ولا تصرفُه عن الصواب في القول والفعل كما هو شأن سائر الناس الذين قد يقولُ أحدهم في حال الغضب قولًا لا يقولُه لو لم يكن غاضبًا، ويقولُ في حال الرضا قولًا لا يقوله لو كان ساخطًا، ولو كان البناءُ هو القبول بتأثير المشاعر على أقوال النبيِّ (ص) وأفعاله بنحوٍ قد تُخرجه عن الصواب لم يكن لمدحه أو ذمِّه لأحدٍ قيمة لاحتمال أنَّ مدحه نشأ عن رضىً عارض وأنَّ ذمَّه نشأ عن غضبٍ أو سخطٍ عارض بل لن يكون لأمره ونهيه حجيَّة لاحتمال نشوء ذلك عن التشهِّي أو المحاباة أو الانتقام أو غير ذلك من الدواعي النفسية، وحينئذٍ كيف يجعلُ الله تعالى قوله وفعله وتقريره سُنةً متبعة وحجَّة يتعيَّن على العباد الاستنان بها والاقتفاء لأثرها كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِر﴾(4).

 

وقد نصَّت الكثيرُ من الروايات الواردة من طُرقهم على ما يؤكدُ أنَّ النبيَّ الكريم (ص) لا يقع تحت تأثير مشاعر الرضا والغضب بنحوٍ تُخرجُه عن الحقِّ والصواب، فمِن ذلك ما أخرجه الحاكم النيسابوري عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه قال: قلتُ: يا رسول الله أتأذنُ لي فأكتبُ ما أسمعُ منك؟قال: نعم. قلتُ في الرضا والغضب؟قال: نعم. فإنّه لا ينبغي أنْ أقولَ عند الرضا والغضب إلاّ حقًا"(5).

 

ومنها: ما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمر أنّه قال: كنت أكتبُ كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أُريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كلَّ شيء تسمعُه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشر يتكلّم في الغضب والرضا؟! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: أُكتب، فوالله الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حق"(6).

 

ومنها: ما أخرجه أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله إنّي أسمعُ منك أسماءً أفأكتبُها؟ قال: نعم. قلت: في الغضب والرضا؟ قال: نعم. فإنّي لا أقول فيهما إلاّ حقًّا"(7).

 

ومنها: ما أخرجه أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أقول إلا حقًّا، فقال بعضُ أصحابه: فإنَّك تداعبُنا فقال: لا أقولُ إلا حقًّا"(8).

 

والروايات الواردة من طُرقنا وطرقِهم -والتي تدلُّ على ذلك بالتصريح أو بالملازمة- تفوقُ حدَّ التواتر بمراتب، ولهذا يتعيَّن البناء على طرح كلِّ خبرٍ -يُنسبُ للنبيِّ (ص)- يتنافي مع مقتضيات عصمته كالخبرين المذكورين، فإنَّ مقتضى قوله -بحسب الخبر-: "اللهمَّ إنِّي بشرٌ أغضبُ كما يغضبُ البشر فأيُّما مؤمنٍ أو مؤمنة دعوتُ عليه فاجعله له زكاة وطهورا" فإنَّ مقتضى ذلك أنَّ دعاءه على زوجته المؤمنة بأنْ يقطع الله يدها كان دعاءً على مَن لا يستحِق وأنَّه من الظلم للمدعوِّ عليه ولكنَّه صدر عنه انسياقًا مع مقتضيات الغضب!! وعليه كيف يُمكن القبول بمثل هذا الخبر والبناء على صدقه؟!!.

 

الواردُ تربتْ يمينُك وليس تبَّتْ يمينك:

وأمَّا ما ذكرتم من أنَّه نُسب للنبيِّ (ص) أنَّه قال لإحدى زوجاته: "تبتْ يمينُك" فهو اشتباه، فلم يرد ذلك في شيء من الأخبار، والوارد في الأخبار هو أنَّ النبيَّ (ص) قال لإحدى زوجاته: "تربت يمينُك" أو قال كما في روايةٍ أخرى "تربت يداك" وهي مقولةٌ متعارفة، ومتداولة بين العرب لا يُقصد منها الدعاء والمعنى الحرفي لألفاظها بل المقصود منها الحثُّ أو التشجيع أو الزجر، ويختلفُ ذلك باختلاف السياق ومورد الاستعمال، وكذلك هو الشأن في مثل مقولة: "ثكلتك أمُّك" أو مثل "ويحك" أو مثل "ويلُ أمِّه" أو "لا أمَّ لك" أو "قاتله الله ما أشجعه" أو ما أشبه ذلك من المقولات الجارية على ألسنة العرب والمتداولة بينهم في محاوراتهم وخُطبِهم، فهم لا يقصدون منها المعنى الحرفي لألفاظها والدعاءَ على المخاطب بل يقصدون من ذلك مثل الزجر أو الحثِّ أو التنبيه أو الإنكار والتوبيخ أو الإعجاب أو الاستعظام أو التعجُّب أو الذم أو المدح أو غير ذلك من القصُود التي تُعرف من سياق الكلام.

 

فمثلًا حين يُقال: قاتله اللهُ ما أشجعه، فإنَّ القائل لا يقصدُ من ذلك الدعاء على المخاطَب وإنَّما يقصد منه التعبيرَ عن الإعجاب، وهكذا حين يُقال مثلًا: "ويلُ أمِّه" أو "الويلُ لأمِّك" فإنَّ القائل لا يقصد من ذلك الدعاء بالويل على أمِّ المعنيِّ بالخطاب وإنَّما يقصدُ من ذلك التعبير عن الخشية عليه أو تثبيط المخاطَب عن الإقدام وهكذا.

 

معنى قوله (ص): "ثكلتك أمُّك":

وعليه فقوله (ص) لمعاذ: "ثكلتك أمُّك" لم يقصد منه الدعاء على أمِّه بفقده كما هو مقتضى المدلول الحرفي للمقولة بل المقصود منه التنبيه على ثبوت ما يسأل عنه وأنَّه من الوضوح والبداهة بحيث لا ينبغي الجهل به.

 

فتمام الحديث -كما في المعجم الكبير للطبراني- أنَّ معاذ بن جبل قال: يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل قال: فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لسانه ثم وضع عليه إصبعه فاسترجع معاذ فقال يا رسول الله: أنؤاخذ بكلِّ ما نقولُ، ويُكتب علينا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكبِ معاذ مرَّات وقال: ثكلتك أمك يا بن أم معاذ، وهل يكبُّ الناس على مناخرِهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم"(9).

 

فقوله: "ثكلتْك أمك" سيق لغرض التوطئة والتنبيه والتأكيد على ثبوت ما سيُجيبه به وأنَّه من الوضوح بحيثُ لا ينبغي الجهل به، فليس المقصود من قوله: "ثكلتك أُمُّك" هو الدعاء عليه بالموت وعلى أمِّه بالفقْد، ولذلك تُقال هذه المقولة حتى لمَن قد ماتت أمُّه، وكذلك فإنَّ من خُوطب بهذه المقولة لا يشعر بالحزن أو الغيظ على قائلها لعلمِه بأنَّه لم يقصد منها الدعاء عليه بل يشعر أنَّ قائلَ هذه المقولة قصدَ منها المؤانسة له، ولذلك يفتخرُ بنقلها عنه، وذلك ما يُؤكد أنَّه لم يفهم منها الدعاء، تمامًا كما ينقلُ أحدُهم عن معلِّمه أنَّه قال له: أنتَ ساحر، وذلك لعلمِه أنَّه لم يقصد من وصفه له بالساحر الإساءةَ له وإنَما قصد من ذلك وصفه بالذكاء والفطنة.

 

وقد تُستعمل مقولة: "ثكلتك أمُّك" للإنكار والتعبير عن فظاعة ما صدر عن المخاطَب كما في الرواية التي أوردها الكليني في الكافي بسنده عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَوْصِلِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: جَاءَ حِبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَتَى كَانَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ لَه: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ومَتَى لَمْ يَكُنْ حَتَّى يُقَالَ مَتَى كَانَ، كَانَ رَبِّي قَبْلَ الْقَبْلِ بِلَا قَبْلٍ، وبَعْدَ الْبَعْدِ بِلَا بَعْدٍ ولَا غَايَةَ ولَا مُنْتَهَى لِغَايَتِه، انْقَطَعَتِ الْغَايَاتُ عِنْدَه، فَهُوَ مُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أفَنَبِيٌّ أَنْتَ؟ فَقَالَ: وَيْلَكَ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍ (ص)"(10).

 

فقولُ أمير المؤمنين (ع) للمخاطَب سيق لغرض الإنكار عليه والتعبير عن فظاعة قوله، فهو ليس دعاءً على المخاطَب وإنَّما هو كلام أُريد منه التعبير عن استعظام قول القائل والتنبيه على جسامة خطئه فيما قال، وأنَّ هذا القول ممَّا لا ينبغي التفوُّه به أو توهُّم مؤدَّاه، وأما قوله (ع): "ويلك": فالغرضُ منه الزجر والتوبيخ والتأكيد على النفي.

 

وممَّا ذكرناه يتضح أنَّ المراد من هذه المقولة يختلف باختلاف موارد الاستعمال ويعرف ذلك من ملاحظة السياق الذي جاءت فيه.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / جمادى الأولى / 1442هـ

21 / 12 / 2020م


1- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج6 / ص52.

2- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج3 / ص141.

3- سورة النجم / 3.

4- سورة الأحزاب / 21.

5- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص528.

6- سنن أبي داود -السجستاني- ج2 / ص176، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري-ج1 / ص105، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج2 / ص162، المصنف -ابن أبي شيبة- ج6 / ص229.

7- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج2 / ص215.

8- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج2 / ص340، سنن الترمذي -الترمذي- ج3 / ص241.

9- المعجم الكبير -الطبراني- ج20 / ص64.

10- الكافي -الكليني- ج1 / ص89.