هل تصحُّ الغبطة على الأنبياء

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

شيخنا سؤال عقائدي: هل الأنبياء تُصيبهم الغبطة للآخرين فالقرآن يُحدِّثنا عن زكريا (ع): ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾([1]) بعد أن رأى صلاح مريم (ع)؟

 

الجواب:

الغبطة المحمودة جائزة على الأنبياء:

إنْ كان المراد من الغبطة هو تمنِّي مثل الكمالات النفسيَّة والروحيَّة التي منحها الله تعالى لبعض عباده فهو جائزٌ على الأنبياء بل إنَّ ذلك محمودٌ منهم، وكذلك يصحُّ عليهم بل يحسنُ منهم تمنِّي الفضائل والكرامات والمِنَح الإلهيَّة ذات الصِّلة بنعيم الآخرة، فإنَّ كلَّ ذلك واقعٌ في سياق الابتغاء مِن فضل الله تعالى المأمور به والمندوب إليه في العديد من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾([2]) وقوله تعالى: ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾([3]) وقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾([4]) فإنَّ مقتضى إطلاق الأمر بالابتغاء من فضل الله تعالى هو محبوبيَّة تمنِّي مثل ما تفضَّل اللهُ به على عباده تمامًا كتمنِّي الفضائل ابتداءً.

 

وكذلك فإنَّ ممَّا يدلُّ على حُسن الغبطة -والتمنِّي لمثل ما وهبه اللهُ تعالى عباده من الفضائل والكرامات والمِنَح الإلهيَّة ذات الصِّلة بنعيم الآخرة- قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾([5]) فإنَّ التنافس يكونُ على الشيء النفيس الذي تحرصُ النفوس على تحصيله، وعليه فالتنافسُ على ما عند الله تعالى من نعيم الآخرة يُلازم الرغبة بل والحرص على تحصيل ما حاز عليه الأبرار من أسباب النعيم وهذه هي غبطة الأبرار التي تأمرُ الآيةُ الشريفة بها.

 

وكذلك هو مدلول قوله تعالى: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ﴾([6]) وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾([7]) وقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾([8]) فإنَّ التسابق هو السعي الحثيث المُلازم للطمع والرغبة في الوصول إلى الغاية المندوب إليها، وحيثُ إنَّ التسابق لا ينتهي بوصول مَن سبق فإنِّ المتأخِّر من المتسابقين يطمعُ في الوصول إلى ما وصل إليه السابقون وهو معنىً ملازم للغبطة.

 

الأنبياءُ يتمنَّون ما حظي به مَن سبقهم من الأنبياء:

هذا مضافًا إلى ما يظهرُ من بعض الآيات مِن تمنِّي بعض الأنبياء (ع) مثل ما منحَه الله عزَّ وجلَّ لغيرهم من الأنبياء والصالحين من عباده، كقوله تعالى على لسان يوسف (ع): ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾([9]) وكقوله تعالى على لسان سليمان (ع): ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾([10]) فإنَّ الدعاء باللحاق في الآخرة بركب الصالحين إنَّما يكون بعد تمنِّي هذه الكرامة وهذه الفضيلة التي منحَها الله تعالى لمَن سبقَ من الصالحين.

 

وكذلك فإنَّ قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾([11]) فيه دلالةٌ بيِّنة على تعلُّق الإرادة الإلهيَّة بأنْ يتمنَّى عموم المؤمنين الاستقامة على هُدى الكُمَّلِ من عباده الذين أنعم اللهُ عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، فهؤلاء هم المقصودون من قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ كما قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾([12]).

 

 وقريبٌ من الآية من سورة الفاتحة قوله تعالى مخاطبًا نبيَّه الكريم (ص): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾([13]) فإنَّ الاقتداء بأحدٍ يُلازم الرغبة في بلوغ الملكة أو الكمال الذي حَظيَ بها ذلك الذي يُراد الاقتداء به وهذه هي الغبطة.

 

وكذلك هو مدلول قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾([14]) فإنَّ الحثَّ على تمثُّل الصبر الذي كان عليه أولو العزم من الرُسل يلازم الترغيب في هذه الملكة التي يحظى بها أولو العزم، ففي الآية دلالةٌ على حُسن استحضار هؤلاء الرسل في النفس واستحضار ملكة الصبر التي كانوا عليها، والترغيب في أنْ يحظى بما حظيَ به هؤلاء الخواص من عباده، وهذه هي الغبطة في نيل الكمالات الممنوحة من الله تعالى لخاصَّة أوليائه.

 

تمنِّي زكريا للذرية من الغبطة المحمودة:

وأمَّا ما كان من تمنِّي زكريا (ع) للذريَّة بعد ما وجد من كرامة الله تعالى لمريم (ع) وأنَّه: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾([15]) فبناءً على استظهار أنَّ رغبته في الذريَّة نشأت عمَّا وجده من صلاح مريم (ع) وكرامة الله تعالى لها فإنَّ هذه الرغبة وهذه الغبطة تقعُ في سياق التمنَّي لما تفضَّل اللهُ به على عباده ممَّا يتَّصل بالآخرة، فلم يكن تمنِّي زكريا للذريَّة من الرغبة في حُطام الدنيا ومتاعها بل هي رغبةٌ في أنْ يمنحَه الله ذريَّة تحملُ بعده أعباء الرسالة والدعوة إلى توحيد الله وعبادته كما يتَّضح ذلك من قوله تعالى على لسانه: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾([16]) وكانت تنتابه خشيةٌ من ضياع تُراثه وجهوده على أيدي المُضلِّين من قومه وأقاربه كما يتبيَّنُ ذلك من قوله في مقام التعبير عن منشأ رغبته في الذريَّة الصالحة: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾([17]).

 

وخلاصة القول: هو أنَّه يصحُّ على الأنبياء (ع) بل يحسنُ منهم الغبطة بمعنى تمنِّي مثل الكمالات والفضائل الممنوحة مِن قِبَل الله لمَن سبَقَهم من الأنبياء والأصفياء وكذلك يحسنُ منهم تمنِّي الكرامات والنعم الإلهيَّة التي تنتهي في المآل إلى علوِّ المقام في الآخرة.

 

الغبطة المرجوحة لا تصدرُ عن الأنبياء:

وأمَّا الغِبطة بمعنى تمنِّى مثل ما عند الناس من صنوف النِعَم الإلهيَّة المتَّصلة برفاهيَّة المعاش في الدنيا فذلك وإنْ كان جائزًا على الأنبياء (ع) ولا يُنافي العصمة إلا أنَّه لا يصدرُ عنهم، فهم أزهدُ الناس فيما عند الناس مِن متاع الدنيا وزهرتها، فإنَّ قلوبهم متعلِّقة بما عند الله تعالى، وما أعدَّه لأوليائه، فما: ﴿عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾([18]) فما يشغلُهم ويستحوذُ على أفئدتهم هو الطمعُ في رضوان والخشية من سخطَه كما قال تعالى يصفُ من حال زكريا (ع): ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾([19]) فدأبُهم الرغبةُ فيما عند الله والدار الآخرة، والرهبةُ من غضبه أو خُذلانه، وكانت الخشيةُ والترقُّب والرجاء والتوجُّس هي المشاعرُ التي انطوت عليها قلوبُهم واستبدَّتْ بها وأُغلقت عليها.

 

فمثلُ هؤلاء ومَن يهتدي بهديهم من ذوي البصائر لا تمتدُّ أعينُهم إلى شيءٍ ممَّا في أيدي الناس من زينة الحياة الدنيا، فليس ذلك هو ما يشغلُ اهتمامهم فهم كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾([20]).

 

ويؤكِّد ما ذكرناه -من أنَّ الغبطة فيما يتصل بمتاع الدنيا لا تصدر عن الأنبياء- ما أورده القرآن من قصَّة قارون وانقسام قومِه في شأنه إلى فريقين قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾([21]) فرغم أنَّ الفريق الأول لم يحسدوا قارون وإنَّما تمنَّوا مثلما أُوتي قارون، وهذه هي الغبطة إلا أنَّ القرآن وصفَهم بما يُعبرُ عن التوبيخ لهم، ووصف الفريق الآخر الذين لم يعبئوا بما أُوتي قارون وصفهم بذوي العلم يعني البصيرة، وأجدرُ الناس بهذا الوصف هم الأنبياء.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

12 / جمادى الآخِرة / 1442هـ

26 / يناير / 2021م


[1]- سورة آل عمران / 38.

[2]- سورة الجمعة / 10.

[3]- سورة النحل / 14.

[4]- سورة النساء / 32.

[5]- سورة المطففين / 22-26.

[6]- سورة الحديد / 21

[7]- سورة البقرة / 148.

[8]- سورة الواقعة / 10.

[9]- سورة يوسف / 101.

[10]- سورة النمل / 19.

[11]- سورة الفاتحة / 6-7.

[12]- سورة سورة النساء / 69.

[13]- سورة الأنعام / 90.

[14]- سورة الأحقاف / 35.

[15]- سورة آل عمران / 37-38.

[16]- سورة مريم / 6.

[17]- سورة مريم / 5.

[18]- سورة آل عمران / 198.

[19]- سورة الأنبياء / 90.

[20]- سورة النور / 37-38.

[21]- سورة القصص / 79-80.