إذا استولى الفساد فحُسن الظنِّ تغريرٌ بالنفس

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

رواية عن أمير المؤمنين (ع) يقول فيها: "إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلَاحُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ -خزية- فَقَدْ ظَلَمَ، وإِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ"([1])

 

هل هذه الرواية تقيِّد حرمة سوء الظنِّ أم أنَّ مدلولها شيء آخر؟

 

الجواب:

الرواية لا تُقيِّد النهي عن سوء الظنِّ ولكنَّها تُحذِّر من حُسن الظنِّ -المُفضي للوقوع في الهلكة أو الخديعة- إذا غلب على أهل الزمان الفساد.

 

وبيان ذلك:

إنَّ بين سوءِ الظنِّ وحُسن الظنِّ واسطة، لا يكون فيها سوءُ ظنٍ ولا حُسنُ ظن، فسوءُ الظنِّ بأحدٍ يعني -في أدنى مراتبه- اتِّهامه والارتياب في صدقه، وحُسن الظنِّ يعني الوثوق والطمأنينة بصدقه وصحَّة عمله، وبين هاتين الحالتين ثمة حالة لا تُسيءُ فيها الظنَّ بأخيك ولا تُحسن الظنَّ به، فلا تتهمه وترتاب في صدقه، ولا تطمئنُ إلى صدقه، فتحتمل في شأنه الصدق وعدمه وهو ما يبعثُك على التثبُّت والتأنِّي.

 

فالذي تنهى عنه الآيات والروايات هو سوءُ الظن والاتِّهام للمؤمن، والذي تُحذِّر منه الرواية هو حسنُ الظن والطمأنينة بصدقه والذي هو تعبيرٌ آخر عن الإرشاد إلى التثبُّت في شأنه والتأنِّي قبل ترتيب الأثر على قوله أو فعله.

 

ولعلَّ ممَّا يُؤيِّد أنَّ الرواية بصدد التحذير من حسن الظن وليست بصدد الأمر بسوء الظن ما روي عن الإمام الصادق (ع) أنَّه قال: "إذا كان الزمانُ زمانَ جورٍ وأهلُه أهلَ غدرٍ فالطمأنينة إلى كلِّ أحدٍ عجزٌ"([2]).

 

فالمنهي عنه حين جور الزمان وغدر أهله هو الطمأنينة، ومن الواضح أنَّ المقابل للطمأنينة بالصدق والنصيحة ليس هو سوء الظنِّ حتى يُقال إنَّ النهي عن الطمأنينة يُساوق الأمر بسوء الظن، إنَّ المقابل للطمأنينة هو التردُّد وتجويز صدور الصدق والنصيحة وتجويز الخلاف لهما، وعليه فالذي وصفته الرواية بالعجز وضعف الرأي هو الطمأنينة، فهي تُرشد إلى التعاطي مع الآخرين على قاعدة إمكان صدور الصدق عنهم وعدمه والنصيحة وعدمها وذلك ما يقتضي التثبُّت والتأنِّي قبل الحكم وترتيب الأثر.

 

وكذلك فإنَّ هذا المعنى هو المُستفاد من رواية عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه الصادق (ع): لَا تَثِقْ بِأَخِيكَ كُلَّ الثِّقَةِ، فَإِنَّ صِرْعَةَ الِاسْتِرْسَالِ لَنْ تُسْتَقَالَ"([3]).

 

فإنَّ النهي عن الوثوق لا يُساوقُ الأمر بإساءة الظنِّ، فإنَّ المقابل للوثوق هو تجويز عدم الصدق وعدم النصيحة وليس الظن بالكذب والغش أو الغدر، ويؤكِّد ذلك التعليل الوراد في ذيل الرواية، وهي قوله: "فَإِنَّ صِرْعَةَ الِاسْتِرْسَالِ لَنْ تُسْتَقَالَ" فإنَّ ما يُقابل الاسترسال هو التثبُّت والتأنِّي، فالرواية تنهى عن الاسترسال وتُرشدُ إلى الأناة والتثبُّت وليس إلى إساءة الظن والذي يعني الاتِّهام وترجيح جانب الكذب والخديعة مثلًا.

 

وبذات الفهم الذي ذكرناه للرواية الواردة في النهج عن أمير المؤمنين (ع) يُمكن تفسير ما رُوي عن الإمام أبي الحسن الهادي (ع) قال: "إذا كان زمانٌ العدلُ فيه أغلبُ من الجور، فحرامٌ أنْ يُظنَّ بأحدٍ سوءً حتّى يُعلم ذلك منه؛ وإذا كان زمانٌ الجورُ أغلبُ فيه من العدل، فليس لأحدٍ أنْ يَظنَّ بأحدٍ خيرًا حتّى يبدو ذلك منه"([4])، وفي الكافي "حتّى يعرفَ ذلك منه"([5]).

 

 فالمُرشَد إليه في فرض غلبة الجور هو المحاذرة من حُسن الظنِّ وليس الأمر بسوء الظنِّ، وبين الحالتين واسطة بيِّنة.

 

توجيه المأثور عنه (ص): "احترسوا من الناس بسوء الظن":

بقي الكلام في رواية أوردها صاحبُ تحف العقول عن النبيِّ (ص): "احترسوا من الناس بسوء الظن"([6]).

ولا يبعد أنَّ مصدر الرواية هي طرقُ العامة، فهي مروية عندهم بالنصِّ عن أنس بن مالك([7]).

 

وعلى أيِّ تقدير فإنَّ إطلاق الرواية منافٍ للكثير من الروايات الناهية عن سوء الظن ولعلَّها أيضًا منافية لقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾([8]) أعني قوله تعالى: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.

 

ولهذا فسَّر بعض العامة الرواية بما حاصله: أنَّ موضوع الأمر بسوء الظن هو النفس وليس الناس، فمعنى قوله (ص): "احترسوا من الناس بسوء الظن" هو احترسوا بسوء الظنَّ بأنفسكم أي احتاطوا في معاملتكم للناس باتِّهام أنفسكم بالتقصير في أداء حقوقهم.

 

وهذا المعنى وإنْ كان مخالفًا لظاهر الرواية إلا إنْ استظهاره نشأ عن الاستيحاش من قبول الأمر بسوء الظن بالناس رغم تكاثر الروايات الناهية عن سوء الظن.

 

وكيف كان فلابدَّ من الحمل للرواية -بناء على صدورها- من أنَّ المراد منها الأمر بسوء الظن بالكفار والمنافقين والفاسقين غير المبالين، وأمَّا المؤمنون الأعم من العدول وغيرهم فهم المقصودون من النهي عن سوء الظن بهم والأمر بحُسن الظنِّ بهم في ظرف غلبة العدل والصلاح، والأمر بالتثبُّت في شأنهم في ظرف غلبة الجور والفساد.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

3 / رجب المرجّب / 1442هـ

16 / فبراير / 2021م


[1]- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج4 / ص27.

[2]- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص357.

[3]- الكافي -الكليني- ج2 / ص672.

[4]- مستدرك الوسائل -النوري- ج9 / ص145.

[5]- الكافي -الكليني- ج5 / ص298.

[6]- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص54.

[7]- المعجم الأوسط -الطبراني- ج1 / ص189.

[8]- سورة التوبة / 61.