عليٌّ (ع) قالعُ الصخرةِ عن فَمِ القليب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في إحدى الزيارات التي يُزار بها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام): "السَّلامُ عَلَيكَ يا مَنْ تَصَدَّقَ فِي صَلاتِهِ بِخاتَمِهِ عَلى المِسْكِينِ، السَّلامُ عَلَيكَ يا قالِعَ الصَّخْرَةِ عَنْ فَمِ القَلِيبِ وَمُظْهِرَ الماءِ المَعِينِ ..".

 

السؤال: لماذا وُصفَ الإمام عليٌّ (ع) بقالع الصخرة؟

 

الجواب:

الفقرة المذكورة واردة في زيارةٍ لأمير المؤمنين (ع) مأثورةٍ عن الإمام الصادق (ع) وقد أورد هذه الزيارة الشيخ محمد بن جعفر المشهدي (رحمه الله) في كتاب المزار([1])، وكذلك أوردها السيد ابن طاووس (رحمه الله) في إقبال الأعمال([2])، وأوردها الشهيد الأول (رحمه الله) في كتابه المسمَّى بالمزار([3]).

 

منشأ وصف الإمام بقالع الصخرة:

وأمَّا منشأ وصف الإمام أمير المؤمنين (ع) بقالع الصخرة فهو الإشارة إلى منقبةٍ من مناقب أمير المؤمنين (ع) المشهورة والتي وقعت منه إبَّان خلافته حين مسيره إلى صفِّين، وكان على رأس كتيبةٍ من جيشه، وقد نفد ما كان عندهم من الماء، فأصاب أصحابه ظمأُ شديد، فأخذوا يمينًا وشمالًا يلتمسون الماء فلم يجدوا له أثرًا، فعدلَ بهم أميرُ المؤمنين(ع) عن الجادَّة وسار قليلًا، فلاحَ لهم دَيرٌ في وسط البرِّية، فسار بهم نحوه، حتى إذا صار في فِنائه أمر من نادى ساكنه بالاطلاع إليهم فنادوه فاطَّلع، فقال له أميرُ المؤمنين (عليه السلام): "هل قرْبُ قائمك -صومعتك- هذا ماءٌ يَتغوَّثُ به هؤلاء القوم؟

 

فقال: هيهات، بيني وبين الماء أكثر من فرسخين، وما بالقرب منِّي شيءٌ من الماء، ولولا أنَّني أُوتى بماءٍ يكفيني كلَّ شهرٍ على التقتير لتلفتُ عطشًا.

 

فقال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): "أسمعتُم ما قال الراهب؟" قالوا: نعم، أفتأمرُنا بالمسير إلى حيث أومأَ إليه لعلَّنا نُدركُ الماء وبنا قوَّة؟

 

فقال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): لا حاجة بكم إلى ذلك، ولوى عُنقَ بغلته نحو القبلة وأشار لهم إلى مكانٍ يقربُ من الدَير -الصومعة- فقال: اكشفوا الأرضَ في هذا المكان، فعدلَ جماعةٌ منهم إلى الموضع فكشفوه بالمساحي، فظهرتْ لهم صخرةٌ عظيمة تلمع.

 

فقالوا: يا أمير المؤمنين، هنا صخرةٌ لا تعملُ فيها المساحي، فقال (ع) لهم: إنَّ هذه الصخرةَ على الماء فإنْ زالت عن موضعِها وجدتُم الماء، فاجتَهدُوا في قلبِها، فاجتمع القومُ وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلًا، واستصعبت عليهم.

 

فلمَّا رآهم (عليه السلام) قد اجتمعوا وبذلوا الجُهد في قلع الصخرة فاستصعبتْ عليهم، لَوى (عليه السلام) رجلَه عن سَرجِه حتى صار على الأرض، ثم حسَرَ عن ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحرَّكها، ثم قلَعَها بيده، ودحا بها أذرعًا كثيرة، فلمَّا زالت عن مكانها ظهر لهم بياضُ الماء، فتبادروا إليه فشربوا منه، فكان أعذبَ ماءٍ شربوا منه في سفرهم وأبردَه وأصفاه. فقال لهم: "تزوَّدوا وارتووا" ففعلوا ذلك.

 

ثم جاء (ع) إلى الصخرةِ فتناولها بيدِه ووضعَها حيثُ كانت، وأَمرَ أنْ يُعفى أثرُها بالتراب.

 

وقع ذلك بمرأى من الراهب الذي كان يُشرفُ عليهم من صومعته فرأى الجيش وهو يعالجُ إزاحة الصخرة عن مقرِّها دون جدوى ثم وجد عليًّا (ع) كيف اقتلع الصخرةَ وحده ورمى بها بعيدًا، فارتاعَ لهول المشهد، فنزل يسألُ عن هويَّة عليٍّ (ع) هل هو نبيٌّ مُرسَل، إذ لا يتَّفق ذلك إلا للأنبياء والمرسَلين المؤيَّدين بكرامة الله تعالى، فأجابه عليٌّ (ع) بأنَّه ليس نبيًّا ولكنُّه وصيُّ خاتم الأنبياء (ص) فأسلم بعد أنْ أخبرهم عن أسلافه أنَّهم توارثوا نبًا عن هذا الموقع، وأنَّ ثمة صخرةً عظيمة لا يعلمُ بموقعِها ولا يقدرُ على اقتلاعها إلا نبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ، وكنتُ آملُ أنْ أشهدَ ذلك فبلَّغني اللهُ ما كنتُ أرجو، لذلك أسلمَ، وسار في ركب عليٍّ (ع) إلى صفِّين واستُشهد فصلَّى عليه أميرُ المؤمنين (ع) واستغفر له وأمر بدفنه([4]).

 

هذا موجز ما أورده الشيخ المفيد في الإرشاد وأفاد (رحمه الله) أنَّ خبر هذه المنقبة قد: "رواه أهلُ السيرة، واشتهر الخبرُ به عند العامَّة والخاصَّة، حتى نظمَته الشعراء، وخطبت به البلغاء، ورواه الفقهاءُ والعلماء .. وشهرتُه تُغني عن تكلُّف إيراد الإسناد له"([5])، وقد أورد هذه المنقبة بتفاوتٍ يسير السيِّد الشريف المرتضى في رسائله، ووصفها بالمشهورة([6]).

 

ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: "وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجزِ الجيشِ كلِّه عنها، وأنبطَ الماءَ من تحتِها"([7])، وقد أورد غيرهم من الأعلام هذه المنقبة في مصنَّفاتهم، وقد أشرنا إلى بعضها في الهامش.

 

ومن ذلك يُعرف منشأُ وصف أمير المؤمنين (ع) بقالع الصخرة، فهي كما وصفَها الرواةُ بالصخرة العظيمة تلمعُ، فهي إذن صلدةٌ صمَّاء وليست رخوة، لا تعملُ فيها المساحي، ومعنى ذلك أنَّها متجذِرة في الأرض، وقد تواثبَ عليها الرجالُ الأشدَّاء مجتمعين، فهي من السعة بحيثُ تهيأَ لهم أنْ يتحلَّقوا حول أطرافها مجتمعين، فما اسطاعوا أنْ يُزيحوها عن مقرِّها رغم حرصِهم وشديدِ حاجتهم المقتضية لأنْ يستفرغوا لذلك ما في وسعهم، فحين أعيتهم وخارتْ دونها قُواهم حسَرَ أميرُ المؤمنين (ع) عن ذراعيه فغرز في بعض أطرافِها أصابعَه فحرَّكها ثم اجتذبَها فاقتلَعها من جذورها وحملها وحده بيده، ودحا بها أذرعًا في مشهدٍ يبعثُ على الذهول، فنبطَ الماء وتدفَّق. فكان أعذبَ ماءٍ شربوا منه وأبردَه وأصفاه، فبعد أنْ ارتووا منه عن آخرهم تزوَّدوا منه لطريقهم.

 

القصيدة البائيَّة المذهبة:

هذا وقد نظم هذه المنقبة الشاعرُ المعاصر للإمام الصادق (ع) والإمام الكاظم(ع) وهو السيِّد إسماعيل الحميري (رحمه الله) المتوفى سنة 178ه أنقلها توثيقاً للواقعة باعتبار أن الشاعر قريب عهدٍ منها:

 

ولقد سرى فيما يسيرُ بليلةٍ ** بعد العشاء مغامِرًا في موكبِ

حتى أتى متبتِّلًا في قائمٍ ** ألقى قواعدَه بقاعٍ مُجدِبِ

يأتيه ليس بحيثُ يلقى عامِراً **غيرَ الوحوش وغيرَ أصلعَ أشيبِ

في مدمجٍ زلقٍ أشمَّ كأنَّه ** حلقومُ أبيضَ ضيقٍ مستصعَبِ

فدنا فصاحَ به فأشرف ماثلًا ** كالنسر فوق شظيةٍ من مَرقبِ

هل قُربُ قائمِك الذي بوأْتَه ** ماءٌ يُصابُ فقالَ: ما مِن مَشربِ

إلا بغايةِ فرسخين ومَن لنا ** بالماء بين نقا وَقيٍّ سبسبِ

فثنى الأعنَّةَ نحو وعْثٍ فاجتلى ** ملساءَ تبرقُ كالُّلجينِ المُذهِبِ

قال: اقلبوها إنَّكم إنْ تفعلوا ** تُروَوا ولا تُروَونَ إنْ لم تُقلبِ

فاعصوصبوا في قلعِها فتمنَّعتْ ** منهم تمنُّعَ صعبةٍ لم تُركبِ

حتى إذا أعيتهمُ أهوى لها ** كفًّا متى تردُ المغالبَ تَغلِبِ

فكأنَّها كُرةٌ بكفِّ حَزوَّرٍ ** عبْلَ الذِراع دحا بها في مَلعبِ

فسقاهمُ من تحتِها مُتسلسلًا ** عذبًا يزيدُ على الزُلالِ الأَعذبِ

حتى إذا شربوا جميعًا ردَّها ** ومضى فخِلْتَ مكانَها لم يُقرَبِ

ذاك ابنُ فاطمةَ الوصيُّ ومَن يقُلْ ** في فضلِه وفعالِه لم يكذِبِ([8])

 

ومقصوده من فاطمة هي السيِّدة فاطمة بنت أسد رضوان الله تعالى عليها والدة الإمام أمير المؤمنين (ع).

 

هذا وللسيِّد الشريف المرتضى شرح مفصل لقصيدة الحميري في رسائله، وله شرحٌ موجز للغريب من ألفاظها نقلها صاحب البحار عن رسالة له موجزة([9])، وقد لخَّص هذه الرسالة الشيخ عباس القمي (رحمه الله) في كتابه الكنى والألقاب([10]) ننقلها في الهامش إتمامًا للفائدة([11]).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

18 / رجب المرجَّب / 1442هـ

03 / مارس / 2021م


[1]- المزار -المشهدي- ص209.

[2]- إقبال الأعمال -ابن طاووس- ج3 / ص133.

[3]- المزار -الشهيد الأول- ص94.

[4]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج1 / ص334، 337. خصائص الأئمة -الشريف الرضي- ص50، 51، الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص222، المستجاد من الإرشاد -العلامة الحلِّي- ص128، 133 منهاج الكرامة -العلامة الحلي- ص171، نهج الإيمان -ابن جبر- ص223، إعلام الورى بأعلام الهدى -الطبرسي- ج1 / ص346، الدر النظيم -المشغري- ص305، الفضائل -ابن شاذان القمي- ص104، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج2 / ص123، كشف الغمة في معرفة الأئمة -الأربلي- ج1 / ص282.

[5]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج1 / ص334.

[6]- رسائل الشريف المرتضى -الشريف المرتضى- ج4 / ص85.

[7]- شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد- ج1 / ص21.

[8]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج1 / ص334، 337. خصائص الأئمة -الشريف الرضي- ص50، 51، رسائل الشريف المرتضى -الشريف المرتضى- ج4 / ص85، إعلام الورى بأعلام الهدى -الطبرسي- ج1 / ص346، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج2 / ص123، كشف الغمة في معرفة الأئمة -الأربلي- ج1 / ص282. روح الجنان في تفسير القرآن -أبو الفتح الرازي- ج15 / ص121، نهج الإيمان -ابن جبر- ص223.

[9]- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج41 / ص264، 266.

[10]- الكنى والألقاب -الشيخ عباس القمي- ج2 / ص337.

[11]- قال السيد المرتضى (رضي الله عنه) في شرح القصيدة:

السرى: سير الليل كله.

والمتبتل: الراهب.

والقائم: صومعته.

والقاع: الأرض الحرة الطين التي لا حزونة فيها ولا انهباط.

والقاعدة: أساس الجدار وكل ما يبنى عليه.

والجدب: ضد الخصب.

ومعنى يأتيه أي يأتي هذا الموضع الذي فيه الراهب.

ومعنى عامر أنَّه لا مقيم فيه سوى الوحوش، ويمكن أن يكون مأخوذا من العمرة التي هي الزيارة.

والأصلع الأشيب هو الراهب، وذكر بعد هذا البيت قوله: في مدمج زلقٍ أشمَّ كأنه * حلقوم أبيض ضيق مستصعب

والمدمج: الشيء المستور.

والزلِق: الذي لا يثبت عليه قدم.

والأشم: الطويل المشرف.

والأبيض: الطائر الكبير من طيور الماء، وإنَّما جرَّ لفظة ضيقٍ مستصعبٍ لأنَّه جعلهما من وصف المُدمج.

والماثل: المنتصب وشبَّه الراهب بالنسر لطول عمره.

والشظية: قطعةٌ من الجبل مفردة.

والمرقب: المكان العالي.

والنقا: قطعة من الرمل تنقاد محدودبة.

والقي: الصحراء الواسعة.

والسبسب: القفر.

والوعث: الرمل الذي لا يُسلك فيه.

ومعنى: اجتلى نظر إلى صخرةٍ ملساء فتجلَّت لعينه.

ومعنى: تبرق تلمع ووصف اللُّجين بالمُذهَّب لأنَّه أشدُّ لبريقه ولمعانه.

ومعنى: اعصوصبوا اجتمعوا على قلعها، وصاروا عصبةً واحدة.

ومعنى: أهوى لها مدَّ إليها، والمغالب) الرجل المغالب.

والحزوَّر: الغلام المترعرع.

والعبل: الغليظ -الذراع- الممتلئ.

والمتسلسل: الماء السلس في الحلق ويقال إنَّه البارد أيضا انتهى.