حديث تفلُّت القرآن مكذوب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في كتاب دعائم الإسلام قال: عن علي (ع) أنَّه قال: شكوت إلى رسول الله (ص) تفلُّت القرآن منِّي فقال: يا علي، سأعلِّمُك كلماتٍ يثبِّتنَ القرآنَ في قلبِك، قل: اللهم ارحمني .."([1]).

 

استوقفني في الرواية فقرة: "تفلُّت القرآن منِّي" فما معنى الرواية ؟ وهل هي صحيحة؟

 

الجواب:

معنى تفلُّت القرآن من الصدر:

الرواية مُنكرة، ومعنى الفقرة المذكورة هو الشكاية من العجز عن حفظ القرآن عن ظهر قلب وتعسُّر استجماعه في الصدر، فمعنى تفلُّت القرآن منه أو من صدره هو أنَّه كلّما حفِظَ منه شيئًا وأراد تجاوزه لغيره نسيَ ما كان قد حفِظَه، وفي التعبير بالتفلُّت تشبيه لحاله مع الحفظ للقرآن بالدابَّة الجموح العصيَّة على الترويض والتي كلَّما رامَ سائسها الإمساك بها استعْصَتْ ونفَرتْ، وكلَّما عقَلَها وأوثقها فلتتْ من رباطها، وفي الفقرة دلالة بيِّنة على إرادة الراوي للإيحاء بأنَّ الشاكي كان حريصًا شديدَ الاهتمام بالحفظ ولكنْ دون جدوى وهو ما يقتضي كونه سيِّئ الحفظ، نعوذُ بالله من الخُذلان.

 

وأمَّا سندُ الرواية فمرسلةٌ، فهي ضعيفةٌ بل هي في غاية الضعف لعدم ايراد سندٍ لها، والراجح أنَّها لم ترد من طُرقنا فصاحبُ دعائم الإسلام وهو القاضي النعمان المغربي إمَّا أن يكون إسماعليًّا أو يأخذُ عنهم -كما هو معلوم- وكذلك وردت فقرة: قال عليٌّ (ع): "شكوتُ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تفلُّت القرآن من صدري .."([2]) في طُرق الزيديَّة فهي ساقطة عن الاعتبار أيضًا.

 

ووردتْ في طرق العامَّة في سُنن الترمذي قال: حدَّثنا أحمد بن الحسن أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي أخبرنا الوليد بن مسلم أخبرنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه قال: "بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ جاءه عليُّ بن أبي طالب فقال: بأبي أنت وأمي تفلَّتَ هذا القرآن من صدري فما أجدني أقدرُ عليه، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: يا أبا الحسن أفلا أُعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك الله بهن وينفع بهنَّ من علمته ويثبِّت ما تعلَّمت في صدرك؟ قال أجلْ يا رسول الله فعلِّمْني .."([3]).

 

عكرمة متَّهمٌ باالنُصب والكذب:

ويكفي لسقوط هذه الرواية عن الاعتبار اشتمال سندها على عكرمة مولى ابن عباس المعروف بالنُصب والعِداء لأمير المؤمنين (ع) وكان يقول بمذهب الخوارج([4])، هذا مضافًا إلى كونه متَّهمًا بالكذب، قال أبو بكر حدَّثنا هارون بن معروف حدَّثنا ضمرة عن أيوب عن ابن سيرين قال: قال ابن عمر لنافع: لا تكذبْ عليَّ كما كذبَ عكرمةُ على ابن عباس، قال أبو بكر حدَّثنا موسى بن إسماعيل حدَّثنا أبو هلال الراسبي حدَّثنا الحكم بن أبي إسحاق كتبتُ عند سعيد بن المسيَّب وثَمَّ مولًى له فقال له: انظرْ لا تكذبْ عليَّ كما كذبَ عكرمةُ على ابن عباس"([5]).

 

وروى جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: دخلتُ على علي بن عبد الله بن عباس و"عكرمة" مُوثَقٌ على باب كنيف، فقلتُ: أتفعلونَ هذا بمولاكم؟ قال: إنَّ هذا يكذبُ على أبي"([6]).

 

وقال القاسم -بحسب تهذيب الكمال-: "إنَّ عكرمة كذَّاب يُحدِّثُ غدوةً حديثا يُخالفُه عشية"([7]).

 

هذا وقد وثَّقه بعضُ علماء العامَّة إلا أنَّنا نحن الإماميَّة لا نثقُ به ولا نُعوِّلُ على شيءٍ من حديثه فهو عندنا متَّهمٌ بالكذب والنُصب.

 

رأي علماء العامَّة في حديث التفلُّت:

وبقطع النظر عن ذلك فإنَّ رواية التفلُّت التي أوردها الترمذي في سننه قد ضعَّفها أكثرُ علماء العامَّة من غير جهة عكرمة بل وصفه الذهبي بأنَّه حديثٌ موضوع أي مكذوب وقال: ولعلَّ الآفة دخلتْ على سليمان ابن بنت شرحبيل فيه، فإنَّه منكرُ الحديث"([8])، وكذلك وصفَه الألباني بالموضوع في كتابه صحيح وضعيف سنن الترمذي([9]).

 

وفي السنن والمبتدعات "قال الإمام الشوكاني: قال السيوطي في اللآلئ: وأخرجه الحاكم عن أبي النضر الفقيه، وأبي الحسن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج، عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس، وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم تركن النفس إلى مثل هذا من الحاكم، فالحديث يقصرُ عن الحسن فضلًا عن الصحَّة، وفي ألفاظه نكارة، قال وأنا في نفسي من تحسين هذا الحديث فضلا عن تصحيحه فإنَّه منكر غير مطابق للكلام النبويِّ والتعليم المصطفوي، وقد أصاب ابنُ الجوزي بذكره في الموضوعات، ولهذا ذكرتُه في كتابي الذي سميتُه: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"([10]).

 

وخلاصة القول: إنَّ الحديث المذكور ساقطٌ عن الاعتبار بل لا ريب في كونه مكذوبًا لمنافاته لأصول العقيدة الثابتة بالأدلَّة القطعيَّة، ولعلَّ نقلَ صاحبِ دعائم الإسلام لهذا الحديث نشأ عن التسامح المتبانَى عليه في إيراد الأدعية وقد غفِل عن أنَّ صدر الحديث يستلزمُ التنقُّص من الإمام أمير المؤمنين (ع)، مضافًا إلى منافاته إلى ما ثبت بالتواتر الإجمالي من أنَّ عليًّا (ع) هو الأذُنُ الواعية التي قال الله فيها: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾([11]) بمعنى الحافظة -من الوعاء الذي يستوعب المظروف ويحفظه- فقد ورد ما يزيدُ على الاثنين والعشرين طريقًا أنَّ عليًّا (ع) هو المعنيُّ من هذا الوصف الوارد في الآية الشريفة، وأنَّ رسول الله (ص) قال لعليٍّ (ع): إنَّ الله أمَرني أنْ أُدنيكَ ولا أُقصيك وأنْ أعلمك وأنْ تعيَ وحقَّ على الله أنْ تَعِي. ثم قال: ونزلتْ ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ وفي طريقٍ آخر قال له: "فسألتُ ربِّي اللهمَّ اجعلها أذُنَ عليٍّ. فكان عليٌّ (ع) يقول: ما سمعتُ من نبيِّ الله كلامًا إلا وعيتُه وحفظته، فلم أنسَه"([12]).

 

وأنَّ عليًّا هو مَن عنده علم الكتاب كلِّه لاحظ مثلًا صحيحة ابن أُذينة عن العجلي قال قَالَ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (ع): ﴿قُلْ كَفى بِالله شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَه عِلْمُ الْكِتابِ﴾([13]) قَالَ إِيَّانَا عَنَى وعَلِيٌّ أَوَّلُنَا وأَفْضَلُنَا وخَيْرُنَا بَعْدَ النَّبِيِّ (ص)"([14]).

 

وأنَّ عليًّا (ع) مع القرآن والقرآنُ مع علي خليفتان بصيران لا يفترقان حتى يردا علي الحوض([15])، فأسألهما ماذا خلَّفت فيهما، فلم يحظ من أحدٍ من أصحاب النبيِّ (ص) بهذه المعيَّة مع القرآن سوى عليٍّ (ع) وأنَّه باب مدينة علم الرسول(ص)([16]) وأنَّه الثقل الثاني الذي خلَّفه الرسول (ص) في أمَّته مع القرآن وأنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض([17]).

 

وأنَّ عليًا (ع) هو أول وأفضلُ الراسخين في العلم الذين قال الله فيهم: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلَّا الله والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾([18])([19]) وهو الذي قال الله تعالى فيه: ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾([20])([21]) وهو وأهل بيته (ع) المعنيُّون بقوله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾([22])([23]).

 

وهو الذي أُثر عنه قوله (ع) -وله نظائر كثيرة-: ".. فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها، وأملاها عليَّ، فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علمًا أملاه عليَّ وكتبته، منذ دعا اللهَ لي بما دعا. وما ترك شيئًا علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية، إلاّ علّمنيه وحفظته، فلم أنسَ حرفًا واحدًا. ثمّ وضع يده على صدري، ودعا الله لي أن يملأ قلبي علمًا وفهمًا، وحكمًا ونورًا، فقلت: يا نبيّ الله! بأبي أنت واُمّي، منذ دعوتَ الله لي بما دعوت لم أنسَ شيئًا، ولم يفُتني شيء لم أكتبه، أفتتخوّف عليَّ النسيان فيما بعد؟ فقال: لا، لستُ أتخوّف عليك النسيان والجهل"([24]).

 

وغير ذلك من الروايات الكثيرة والتي يمنعنا من استعراضها البناء على الإيجاز في الجواب.

 

إنَّ من يقف على مجموع هذه الطوائف من الروايات والتي يفوقُ مجملُها حدَّ التواتر الإجمالي بمراتب -بل إنَّ بعض هذه الطوائف من الروايات متواترٌ في نفسه- إنَّ من يقف على هذه الروايات لا يرتابُ في أنَّ حديث التفلُّت مكذوبٌ وأنَّ واضعه أراد منه التنقُّص من أمير المؤمنين (ع) وأمَّا إيراد صاحب الدعائم للحديث المذكور فنشأ عن الغفلة عن لوازمه الباطلة، وعلى أيِّ تقدير فإنَّ إيراده للحديث المذكور لا يعني التزامه باعتباره خصوصًا وأنَّه قد أورده مرسَلًا دون سند.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

29 / رجب المرجّب / 1442هـ

14 / مارس / 2021م


[1]- دعائم الإسلام -القاضي النعمان المغربي- ج2 / ص137.

[2]- مسند زيد بن علي ص399.

[3]- سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص22.

[4]- التمهيد -ابن عبد البر ج2 / ص28، تهذيب التهذيب- ابن حجر -ج7 / ص237، ميزان الاعتدال -الذهبي- ج3 / ص95-96، المنتخب من ذيل المذيل -محمد بن جرير الطبري- ص122.

[5]- التعديل والتجريح -سليمان بن خلف الباجي المالكي- ج3 / ص1150، تهذيب الكمال المزي ج20 / ص277-281، تهذيب التهذيب- ابن حجر -ج7 / ص237، العلل -احمد بن حنبل- ج2 / ص71.

[6]- المعارف -ابن قتيبة الدينوري- ص456، المنتخب من ذيل المذيل -محمد بن جرير الطبري- ص122.

[7]- تهذيب الكمال -المزي- ج20 / ص286، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج5 / ص28-29.

[8]- سير أعلام النبلاء الذهبي ج9 / ص218.

[9]- صحيح وضعيف سنن الترمذي -الألباني- ج8 / ص70.

[10]- السنن والمبتدعات -الشقيري- ج1 / ص124.

[11]- سورة الحاقة / 12.

[12]- لاحظ: شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني ج2/ ص361-378، الكافي -الكليني- ج1 / ص423، عيون أخبار الرضا(ع) -الشيخ الصدوق- ج2/ ص67، مسائل علي بن جعفر -علي بنجعفر الصادق- ص330، بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص156، المحرز الوجيز -ابن عطية الأندلسي- ج5 / ص358، أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص294 وغيرها.

[13]- سورة الرعد / 43.

[14]- الكافي -الكليني- ج1 / ص229، الأمالي -الشيخ الصدوق- ص659، الاحتجاج -الطبرسي- ج1 / ص232.

[15]- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص460، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ج3 / ص124، المعجم الأوسط -الطبراني- ج5 / ص135، الإكمال في أسماء الرجال -الخطيب التبريزي- وقال: هذا حديث حسن صحيح وقد صححه الذهبي والحاكم وحسنه السيوطي ص156.

[16]- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي- ج1 / ص68، شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج1 / ص104، 432، المستدرك على الصحيحين- الحاكم النيسابوري -ج3 / ص127، المعجم الكبير -الطبراني- ج11 / ص55.

[17]- لاحظ: السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص45، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص329، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج3 / ص14، ج4 / ص371، ج5 / ص182، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص110، ج3 / ص148.

[18]- سرة آل عمران / 7.

[19]- لاحظ: الكافي -الكليني- ج1 / ص213.

[20]- سورة العنكبوت / 49.

[21]- لاحظ: الكافي -الكليني- ج1 / ص213-214، بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص224-227.

[22]- سورة النحل / 43.

[23]- لاحظ: الكافي -الكليني- ج1 / ص210-212، بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص58-62، تفسير القمي- علي بن إبراهيم- ج2 / ص68.

[24]- لاحظ: الكافي -الكليني- ج1 / ص62-64، الخصال -الصدوق- ص 255-257.