﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ لماذا لم تُمنع من الصرف؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾([1]) لماذا تمَّ تنوين كلمة "مصر" رغم أنَّها من الأسماء الممنوعة من الصرف؟ وقد ذكرها القرآنُ في موارد عديدة ممنوعةً من الصرف كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ﴾([2]) وقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ﴾([3]) وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ﴾([4]).

الجواب:

كلمة "مصر" من الأسماء التي يجوزُ صرفُها كما يجوز منعُها من الصرف، فهي وإنْ كانت واجدةً لعلَّتين من العِلل التسع الموجبة للمنع من الصرف وهما العلميَّة والتأنيث إلا أنَّهم ذكروا -النحاة- أنَّ الاسم إذا كان ثلاثيًا ساكنَ الوسط فإنَّه يجوز فيه الوجهان -الصرف والمنع من الصرف- حتى وإنْ كان علَمًا مؤنَّثًا، ويُمثِّلون لذلك بمثل اسم "دعد" واسم "هند" فإنَّ هذين الاسمين وإنْ كانا من الأعلام المؤنَّثة ولكنَّهم اتَّفقوا على جواز صرفِهما، وجواز منعِهما من الصرف، فيصحُ أنْ يقال: جاءت هندٌ ودعدٌ، رأيتُ هندًا ودعدًا، ومررتُ بهندٍ ودعدٍ، ويصحُّ أنْ يُقال: جاءت هندُ ودعدُ، ورأيتُ هندَ ودعدَ، ومررتُ بهندَ ودعدَ، وإنَّما جاز صرفُهما ومنعُهما من الصرف رغم أنَّهما من الأعلام المؤنثة لأنَّهما من الأسماء الثلاثيَّة الساكنةِ الوسط.

وهكذا هو الشأن في كلمة "مصر" فإنَّها وإن كانت الأعلام المؤنَّثة إلا أنَّه يجوز صرفُها ومنعُها من الصرف باعتبارها من الأسماء الثلاثيَّة الساكنة الوسط.

والجواب الآخر: هو أنَّ كلمة "مصر" في قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ ليستْ علَمًا أساسًا، فليس المقصود من "مصر" البلد المعروف حتى تكون علَمًا بل المقصود من مصر في قوله: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ هو أيُّ مدينةٍ أو قرية، فقوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ يعني مصرًا من الأمصار، فكلمة مصر المُستعملة في هذه الآية ليست علَمًا فهي إذن فاقدة لشرط المنع من الصرف، إذ أنَّ الاسم الممنوع من الصرف هو العَلَم المؤنَّث، وعلى خلاف ذلك الآيات الأخرى التي استعملتْ كلمة مصر فإنَّ المقصود منها تلك البلد المعروفة.

فالمقصود من قوله تعالى على لسان يوسف: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ﴾ هو بلد مصر المعروفة، وكذلك هو المقصود من كلمة "مصر" في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ﴾ فالذي اشترى يوسف (ع) كان رجلًا من بلدة مصر المعروفة وهو عزيز مصر. وكذلك هو المقصود من كلمة مصر في قوله تعالى على لسان فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ﴾.

فكلمةُ مصر في الآيات الثلاث واجدةٌ لشرطي المنع من الصرف، وهما العلميَّة والتأنيث، وأمَّا كلمة مصر في قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ فهي فاقدة لأحد شرطي المنع من الصرف وهو العلمية، فمصر في هذه الآية ليست هي البلد المعروفة وإنَّما المقصود منها اسم جنسٍ لأيِّ مصرٍ من الأمصار.

فمساقُ الآية المباركة أنَّ بني إسرائيل لمَّا خرجوا من مصر واجتازوا البحر هرَبًا من فرعون استقرُّوا في صحراء سيناء فأنزل اللهُ تعالى عليهم المنَّ والسلوى، فكان ذلك هو طعامهم مدَّةً مديدة من الزمن، وقد طلب منهم نبيُّ الله موسى (ع) أنْ يدخلوا الأرض المقدَّسة لكنَّهم تقاعسوا واعتذروا عن ذلك بحجَّة أنَّ فيها قومًا أشداء لا طاقة لهم على مقارعتهم كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ / قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾([5]).

ونظرًا لعصيانهم أمر نبيِّهم (ع) فإنَّ الله تعالى حَرَمهم من دخول الأرض المقدَّسة أربعين سنة كما قال تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾([6]) وفي هذه المدَّة كانوا يستوطنون صحراءَ سيناء، وكان طعامهم فيها المنَّ والسلوى فأصابهم من ذلك السأم والضجَر فشكوا إلى موسى (ع) وطلبوا أنْ يمنحَهم اللهُ تعالى أطعمةً أخرى كما قال تعالى يصفُ من أحوالهم: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ فأجابهم موسى (ع): ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾([7]) أي إنَّ مثل هذه الزروع لا تنبتُ في الصحاري والمفاوز، فإن كنتم تريدون أن يمنحَكم اللهُ تعالى مثل هذه الزروع فتحوَّلوا عن هذه الصحراء واهبطوا مصرًا من الأمصار القريبة منكم فإنَّ لكم فيها ما سألتُم من هذه الزروع والأطعمة.

فهو لا يأمرهم بالعودة إلى بلدة مصر التي فرُّوا منها، وإنَّما يأمرُهم أنْ يهبطوا إلى مصرٍ من الأمصار ومدينةٍ من المدن، فإنَّ مثل هذه الزروع إنَّما تنبتُ في الأراضي العامرة وليس في الصحاري والمفاوز، فذلك هو منشأ تنوين كلمة مصر، فإنَّها اسمُ جنس مثل أسد وبلد وبقل وثوم، وليست اسم علَمٍ مؤنَّث حتى يُقال لماذا لم تُمنع من الصرف.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

20 / شعبان المعظّم / 1442هـ

3 / أبريل / 2021م


[1]- سورة البقرة / 61.

[2]- سورة يوسف / 21.

[3]- سورة يوسف / 99.

[4]- سورة الزخرف / 51.

[5]- سورة المائدة / 21-22.

[6]- سورة المائدة / 26.

[7]- سورة البقرة / 61.