حديث جنود العقل وجنود الجهل

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) وعِنْدَه جَمَاعَةٌ مِنْ مَوَالِيه فَجَرَى ذِكْرُ الْعَقْلِ والْجَهْلِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): اعْرِفُوا الْعَقْلَ وجُنْدَه والْجَهْلَ وجُنْدَه تَهْتَدُوا قَالَ سَمَاعَةُ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ لَا نَعْرِفُ إِلَّا مَا عَرَّفْتَنَا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ الْعَقْلَ وهُوَ أَوَّلُ خَلْقٍ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ .."([1]).

 

سماحة الشيخ الجليل

نحن نعرف أنه لم يخلق الله كائنا اسمه الكرم أو العلم أو العفة ولكن خلق أنسانا يتصف بالكرم، فالموجود في الخارج هو الكريم والعالم والجاهل والعفيف والمتهتك فهل يمكن القول إنَّ حديث الصادق (ع) على حذف الموصوف وابقاء الصفة؟

 

الأمر الآخر جعل الإمام (ع) العقل مقابل الجهل، وفي داخل طيات الحديث جعل العلم ومقابله الجهل.. فكيف صار المقسَم(الجهل) قسما؟

 

الأمر الثالث: هل نقول إن العقل هنا ما يرشد له من المحاسن والجهل بما يقود له من القبائح؟

 

الجواب:

الأول: الكرم والشجاعة والعفَّة والعلم وما أشبه ذلك صفاتٌ وقوى واستعدادات وغرائز قائمة بالنفس، فهي نحو من الوجودات الحقيقيَّة الواقعيَّة، ولكنَّها ليست موجودات مستقلَّة كما هو الشأن في الجواهر بل هي من قبيل الأعراض التي لا تُوجد إلا في موضوع، فكما أنَّ الألوان والحركة والقيام والجلوس موجودات قائمة بموضوعاتها، ولا يُتعقَّل وجودها إلا في موضوع -الجوهر- كذلك هي قِوى النفس فإنَّها موجودات قائمة بالنفس، فهي من قبيل العرَض القائم بالجوهر.

 

نعم الأعراض كالحركة والقيام والألوان يُمكن للعقل أنْ ينتزع لها مفاهيم كليَّة استقلاليَّة لكنَّها بالحمل الشايع الصناعي لا يكون لها وجود إلا ضمن موضوع، كذلك هي قِوى النفس من الغرائز والاستعدادات والملكات فإنَّ لها مفاهيم كليَّة استقلاليَّة ولكنَّ وجودها لا يكون إلا في موضوع (الجوهر) أي أنَّ وجودها قائمٌ بالنفس. فإذا ثبت أنَّها موجودات فهي مخلوقةٌ لله تعالى، فكما أنَّ الجواهر مخلوقةٌ لله جلَّ وعلا كذلك هي الأعراض.

 

الثاني: الجهل المقابل للعقل ليس هو الجهل المقابل للعلم، فالمقسَم لجنود الجهل هو الجهلُ المقابل للعقل، وأمَّا الجهلُ المقابل للعلم فهو مِن أقسام الجهل المقابل للعقل أي أنَّ الجهلَ المقابل للعلم هو من جنود الجهل المقابل للعقل فهو قسمٌ وليس مقسَمًا، والمقسَمُ إنَّما هو الجهل المقابل للعقل، نعم هو متحدٌ معه في اللفظ ولكنَّه غيرُه كما يتَّضح ذلك من ملاحظة جعل المقسَم مقابلًا للعقل وجعل الآخر مقابلًا للعلم.

 

فالجهل المقابل للعلم يعني غياب صور الأشياء عن الذهن وكذلك هو يعنى عدم التصديق بما هو متقرِّر واقعًا من ثبوت شيء لشيء أو انتفاء شيءٍ عن شيء.

 

وأمَّا الجهل المَقسم المقابل للعقل فهو ما يُمكن تفسيره بمبدأ الشرور أو تفسيره بالأصل الذي تتفرَّع عنه الصفات والحالات النفسانيَّة الباعثة على الشرور أو المناقضة والمضادَّة للكمالات

 

الثالث: الظاهر أنَّ المراد من العقل في الرواية هو القوَّة المدرِكة في الإنسان والتي يقتدرُ بها على التمييز بين الخير والشر والفضائل والرذائل والكمالات والنقائض، ويقتدر بها في الجملة على التمييز بين الأسباب المُوصلة للخير والكمال والفضيلة والأسباب المانعة أو المفضية للشرِّ والنقائص والرذائل، ويقتدر بها على إدراك العلوم وتوظيفها وتأليفها والبناء عليها.

 

وهذه القوَّة المُدرِكة تتفاوت عند الناس شدَّةً وضعفًا، ويظهرُ من الرواية أنَّها قابلة للتكامل والاشتداد كما أنَّها قابلة للتراجع والتبلُّد، ويظهرُ كذلك من الرواية أنَّ جنود العقل تُسهمُ في تقويتها وصقلها وفاعليتها كما تُسهِم جنودُ الجهل في إضعافها أو إضعاف تأثيرها وفاعليتها.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

24 / شعبان المعظّم / 1442هـ

7 / أبريل / 2021م


[1]- الكافي -الكليني- ج1 / ص21، 23.