فضائيَّات تَرجم بالغيب

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمَّد وآل محمَّد الطَّيبين الطَّاهرين

 

اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك.

 

ثَمَّة موضوعٌ كَثُرَ السُّؤال عنه مؤخَّرًا ونظرًا لأهمِّيَّته وخطورة ما يترتَّب عليه من آثار ارتأيت أن أتحدَّثَ عنه في هذه الجلسة.

 

الموضوع هو أنَّ بعض الفضائيَّات أخذت تمتهن الدَّجل والاحتيال من خلال ما تبُثُّه من برامج يتصدَّى لتقديمها أُناسٌ يدَّعون العلم بالغيب والمعرفة بأسرار القرآن، فهم يكشفون وبمجرَّد معرفة اسم الشَّخص واسم والدته يكشفون عن خصوصيَّاته وما ينتظره في مستقبل الزَّمان، كما يدَّعون القدرة على تشخيص مرضه ثمَّ يصفون له دواءً من القرآن وغيره ويدَّعون أنَّ أثره حتميُّ الوقوع.

 

إنَّ ما تمارسه هذه الفضائيَّات وهؤلاء الدَّجالون أَمرٌ مُنتَظرٌ منهم فإنَّهم يبحثون عن مكسب يكتسبون منه المال إلا أنَّه من غير المنتظر أن تروْج هذه المخاريق وهذه التَّرهات في أوساطنا الاجتماعيَّة التي تدعي لنفسها الصَّحوة والوعي والعقلانية، إنَّ تلقِّي مجتمعاتنا لهذه الخرافات بالقبول أمرٌ يبعث على الإحباط وخيبة الأمل، فقد كُنَّا نتوهَّم أنَّنا قد تجاوزنا المرحلة التي كان يُصَدِّقُ فيها النَّاس أنَّ صورة السيد خوئي رحمه الله في القمر أو أنَّ امرأةً رأت الرسول (ص) في المنام فأمرها أن تكتب في ورقة ما كانت قد رأته في المنام وتدعو النَّاس لكتابتها عشرين مرَّة وأنَّ من فعل ذلك حصل على خيرٍ كثير ومن لم يكتبها أصيب بداهية، يموت كل أبنائه ويحترق بيته. وبعد أن كنَّا نتوهَّم أنَّنا تجاوزنا المرحلة التي يُصَدِّقُ فيها النَّاس أنَّ الإمام المهدي (عج) نصَّب له سفيرًا خامسًا وأنَّه يأتيه في المنام واليقظة ليخبره ببعض المغيبات وبعد أن كنَّا نتوهَّم أنَّنا قد تجاوزنا المرحلة التي يلجأ فيها النَّاس إلى الدَّجَّالين ليتعرَّفوا على من سرقهم ومن حسدهم ومن صنع لهم سحرًا وما هو السبيل لإيذاء شخص أو تسخيره.

 

بعد أن كنَّا نتوهَّم أنَّنا تجاوزنا هذه المرحلة نُفاجأ بتعاطي النَّاس وتفاعلهم مع هذه الفضائيَّات ويبذلون لأجل ذلك المال الكثير وينتظرون بثَّ هذه البرامج بشغفٍ وشوق.

 

إنَّ ما أودُّ قوله قبل بيان الرُّؤية الدِّينيَّة في هذا الموضوع هو أنَّ هؤلاء يحتقرون النَّاس ويسخرون منهم ويستصغرون عقولهم وإلا فإنَّهم لو كان يحترمون عقول النَّاس لما خرجوا عليهم بمثل هذا البرامج المعبِّرة عن سوء سريرة روَّادها والمعبِّرة عن شعورهم بالفوقيَّة والعلم الذي لا يكاد يتحصَّل عليه إلا من كان ذو حظٍّ عظيم!!.

 

أمَّا الحديث عن الرؤية الدِّينيَّة عن هذا الموضوع:

 

فأوَّلا: إنَّ علم الغيب من مختصَّات الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾(1)، وليس لأحدٍ من خلقه مَلَكًا كان أو رسولا أو وليًّا أن يطَّلع على الغيب إلا أن يُطلعه الله عزَّ وجلَّ على شيء من غيبه، قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا / إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ..﴾(2).

 

ثانيًا: إنَّ الله عزَّ وجلّ لا يُطلِع على شيء من غيبه أحدًا من أوليائه أو أنبيائه عبثًا وإنَّما يُطلعهم على غيبه لغرضٍ يتَّصل أمَّا بتثبيت دعوى النُّبوة أو الإمامة أو لتعريف النَّاس بمقامهم عنده أو لتحصيل بعض الأغراض المرتبطة بتدعيم بُنَى الدين وتشييد معالمه.

 

قال تعالى على لسان عيسى (ع): ﴿.. وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(3)، فما يظهر من الآية المباركة أنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل الإخبار عن خصوصيَّات النَّاس وما يأكلون وما يدِّخرون في بيوتهم علامة على نبوة السَّيد المسح (ع).

 

وقد يُطلع الله على غيبه بعض أوليائه إكراما له، وذلك لا يتحقَّق إلا بعد أن يكون هذا الوليّ قد بلغ مستوىً من الكمال يُؤهِّلُه لهذا المقام، فالعلم بالغيب ليس مقاما يتأهل له كل أحد، فهو تعالى لا يُعطي هذا المقام لأحدٍ لكي يستطيل به على النَّاس أو يستأكل به أو يبتزَّ به أموال النَّاس على غير وجه حقّ.

 

ثالثًا: إنَّ من يدعي علم الغيب من غير الأنبياء والأولياء إمَّا أن يكون كاهنًا أو عرَّافًا أو مُنجِّمًا أو دَجَّالاً.

 

وكُلُّ هؤلاء وردت روايات كثيرة عن أهل البيت (ع) تنهى عن تصديقهم واللجوء إلهم وترتيب الأثر على قولهم.

 

ونحن هنا سنذكر بعض هذه الروايات لتوثيق ذلك:

 

1- ورد عن الإمام الصَّادق (ع): "من تكهَّن أو تُكِهِّنَ له فقد برأ من دين محمَّد (ص)".

2- عن الصَّادق (ع): "جُعِلَ مِنَ السُّحتِ أَجْرُ الكاهِنِ".

3- في حديث المناهي: أنَّ رسول الله (ص) نهى عن إتيان العرَّاف، وقال: "مَن أتاهُ وصدَّقه فقد بَرَأَ مِمَّا أَُنْزَلَ على مُحمَّد".

4- وَوَرَدَ عن الإمام زين العابدين (ع) قال: "الذنوب التي تُظلِمُ الهواء السِّحرُ والكَهَانَة والإيمان بالنُّجوم".

5- روى الهيثم قال: قلت لأبي عبد الله (ع) إنَّ عندنا بالجزيرة رجلا ربَّما أخبر من يأتيه يسأله عن شيء يُسَرق أو شِبهِ ذلك، فنسأله؟ فقال (ع): قال رسول الله (ص): "مَن مشى إلى ساحِرٍ أو كاهِنٍ أو كذَّابٍ يُصدِّقهُ فِيما يقولُ فقد كَفَرَ بما أنْزَلَ اللهُ مِن كتاب".

 

وثَمَّة روايات أخرى تُشَدِّد النَّهي عن التَّعاطي مع هؤلاء، وقد أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة.

 

رابعًا: إنَّ الوسائل المعتمدة عند هؤلاء لمعالجة الموضوعات التي يتصدَّون لها منافية تمامًا للوسائل المعتمدة عند الإسلام ونذكر بذلك نماذج:

 

النّموذج الأول: عندما يُبْتَلَى الإنسانُ بمرضٍ فإنَّ توصيات القرآن الكريم والرسول وأهل بيته (ع) تدعوه لعرض نفسه على طبيب متخصص ليُشخِّص له المرض ويصف له الدواء كما تدعوه مضافا لذلك إلى الدعاء والتَّصدُّق.

 

أمَّا هؤلاء فيدَّعون أن عندهم علمٌ بالغيب يتمكَّنون بواسطته من تشخيص الأمراض ووصف الدواء.

 

النَّموذج الثاني: عندما يقع نزاعٌ بين الزَّوجين فإنَّ علاج ذلك هو الإصلاح بينهما بالوسائل العُقلائيَّة قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا ..﴾(4).

 

أمَّا هؤلاء فيعتمدون ما يُعبَّر عنه بالتَّعطيفة وينسبون النزاع الواقع بين الزوجين إلى أمور غيبية لا يعلمها إلا الله تعالى مثل الجنّ أو السحر أو غير ذلك.

 

النَّموذج الثالث: عندما لا يُرزق الإنسان بولد فإنَّ توصيات أهل البيت (ع) تتلخَّص في الأمر بالدّعاء وتناول بعض الأطعمة والأدوية، وأمَّا هؤلاء فينسبون المانع إلى الجنّ والشياطين والأرواح فيأمرون من يُراجعهم بذبح ديكٍ أسود أو كبشٍ أبيض أو تفقيس بيضٍ أو ما إلى ذلك.

 

بقي شيء أودُّ الإشارة إليه، وهو أنَّ هؤلاء يدعون أنَّ عندهم علم من القرآن الكريم فنقول: إنْ كان المُراد من هذه الدعوى العِلم بمُحكمات القرآن وظواهره فهو متاح لمن تعلَّم وتدرَّج في مدارج العلم، وليس شيء من محكمات القرآن وظواهره مما يُفضِي للعلم بالغيب، وأعلمُ النَّاس بذلك هم الفقهاء ولا يدَّعي أحد منهم العلم بالغيب.

 

وإن كان المراد من العِلم بالقرآن هو أنَّهم يعلمون متشابهات القرآن وبواطنه فقد صرَّح القرآن أنَّه لا يعلم بذلك إلا الله والرَّاسخون بالعلم وهم النَّبيّ وأهل بيته (ع) وكُلُّ مَن يَدَّعِي العلم بذلك فهو ممَّن وصفه القرآن بأنَّ في قلبه زيغٌ فهو كاذبٌ ومنافق أو واهم.

 

قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ / رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾(5).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمَّد صنقور

حديث الجمعة

12 صفر 1428 هـ


1- سورة الأنعام / 59.

2- سورة الجن / 26-27.

3- سورة آل عمران / 49.

4- سورة النساء / 35.

5- سورة آل عمران / 7-8.