مقام الإمامة (1)

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين والطاهرين

نتحدث هنا عن واحدٍ من مقامات الإمامة والتي هي محل وفاق بين الإمامية، وهو أن الإمامة امتداد للنبوة من جهة أنها تضطلع بدور المرجعية الدينية الشاملة لجميع معارف الإسلام وشئون الأمّة الإسلامية، وليست هي مجرد رئاسة وقتية للأمة الإسلامية، وهذه هي نقطة الخلاف الأساسية بين الإمامية وبين غيرهم.

وهذا الخلاف هو الذي نشأ عن الاختلاف في الكثير من الشرائط المعتبرة في الإمام والوظائف المناطة به، ففي الوقت الذي يذهب فيه الإمامية إلى أن الإمامة منصب إلهي وأن الإمام لابد وأن يكون معصوماً كما هو الحال في النبي (ص) وأن قول الإمام كقول النبي حجة على كل الأمة في حاضرها ومستقبلها، وأن ما ينطق به في مقام تبيان الأحكام الشرعية والمعارف الدينية هو المطابق للوحي الإلهي المنزَّل على قلب رسول الله (ص) وانَّه ما من شيء من معارف الدين ودقائقها وتفاصيلها إلا الإمام محيط بها.

وانَّ وظيفة الإمام لا تتلخص في إدارة شئون الأمة وحماية ثغورها وصيانة مقدراتها بل تمتدَّ لتستوعب كل الوظائف التي كان ينؤ بها رسول الله (ص) من التبليغ للأحكام الشرعية والتفسير لكتاب الله والتعريف بالعقائد الدينية وصيانة الدين من أن يمسَّه تحريف أو تغيير والتصدي لمعالجة الشبهات التي يثيرها المضلون.

ففي الوقت الذي يذهب فيه الإمامية إلى ذلك يري الأخوة من أبناء السنة أنَّ الإمامة إنما هي إلاّ منصب اجتماعي وان اختلفوا في كيفية انعقادها وبمن تنعقد، ويرون أن وظيفة الإمام تتلخص في الرئاسة الوقتية للأمة وأن صلاحيتها لا تتعدى إدارة شؤون الأمة وحماية ثغورها وصيانة مقدراتها على أن يكون ذلك وفقاً لما يعرفونه من أحكام الله عز وجل أو ما يصل إليه اجتهاد رأيهم فهم يرون التأهل لمنصب الإمامة لا يتطلب معرفة شاملة بالمعارف الدينية كما أنَّه لا يعتبر في أهلية أحدٍ للإمامة أن يكون معصوماً.

إذن الاختلاف في الشرائط المعتبرة في الإمام والوظائف المناطة به نشأ عن الاختلاف في مقام الإمامة ومفهومها، فحينما نقول أن الإمامة امتداد للنبوة في الاضطلاع بدور المرجعية الدينية الشاملة فإن ذلك يستلزم القول بعصمة الإمام وباستيعابه لجميع المعارف الدينية وإلا لما كان مؤهلا للمرجعية الدينية الشاملة، أمّا حينما يقول أبناء السُنة أن الإمامة لا تعدو الرئاسة الوقتية فإن ذلك يُفضي للقول بعدم الحاجة إلى واجدية الإمامة لملكة العصمة وعدم لزوم استيعاب الإمام لجميع المعارف الدينية.

ومن هنا لابدَّ لغرض التعرُّف على ما هو الصحيح من المذهبين من البحث في جهتين:

الجهة الأولى: في الرؤية الإسلامية لمفهوم الإمامة.

الجهة الثانية: فيما تقتضيه الظروف الموضوعية لرحيل الرسول (ص).

أمّا الجهة الأولى: فيمكن الوصول للرؤية الإسلامية لمفهوم الإمامة ودورها من خلال ملاحظة القرآن الكريم والسنة الشريفة وهو ما سنرجأ الحديث عنه إلى ما بعد البحث عن الجهة الثانيّة.

وأمّا الجهة الثانية: وهي ما تقتضيه الظروف الموضوعية لرحيل الرسول (ص) فنقولإن التعرُّف على ما تقتضيه الظروف يستوجب الحديث عن مقدمتين:

المقدمة الأولى: هي أن الإسلام عرض نفسه على أساس أنه واجد لخصائص أربع:

الأولى: أنَّه الدين الخاتم وأن به انقطعت الرسالات الإلهية وأنَّه ما من نبي بعد نبي الإسلام قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(1) فهذه الآية المباركة تعبِّر عن أن رسول الإسلام هو خاتم النبيين، وذلك يعني أنَّ أي دين بعد الإسلام فهو ليس ديناً إلهيا إذ أن الدين لا يكون إلهياً إلاّ حينما يتم تبليغه عن الله بواسطة واحدٍ من الأنبياء وقد أفادت الآية المباركة أن النبوة خُتمت بنبي الله محمد (ص).

الثانية: أنّه دين عالمي بمعنى أنّه دين للإنسان بما هو إنسان بقطع النظر عن انتماءاته العرقية والإقليمية أو انتماءاته الاعتبارية فليس ثمّة من فواصل أو حدود قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِّلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾(2).

وقال عز وجل ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾(3) ففي هاتين الآيتين يعبِّر القرآن عن ثبوت الخصوصية الثانية وهو عالمية الدين الإسلامي وأن رسول الإسلام قد بُعث لكافة الناس.

الثالثة: أنه دين خالد يراد له الاستمرار والبقاء ما بقي الإنسان على وجه الأرض وهذه الخصوصية يمكن استفادتها بواسطة ما دلَّ على خاتمية هذا الدين وعالميته وإنما أفردناها لغرض الإيضاح وإلاّ فعالميّة هذا الدين وخاتميته تقتضيان بمجموعهما أنّه دين البشريّة إلى آخر الدهر على أنه يمكن استشراف ذلك من مجموعة آيات من القرآن الكريم.

منها قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾(4) حيث تعبِّر هذه الآية المباركة عن أن القرآن إنما أوحي لرسول الله (ص) ليكون وسيلة لإنذار كل من بلغه القرآن وهذا معناه أنها تُلغى كل الفواصل الزمنيّة لتعبِّر عن أنه ما من أحد بلغه القرآن في أي زمن إلاّ وهو مسئول عن التدين بمفاده.

ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(5) ولا معنى لتصدي الله عز وجل لحفظ القرآن أبد الدهر غير ما ذكرناه من أنه تعالى اقتضت إرادته أن يتعبّد الإنسان على امتداد مستقبله الطويل بمفاداته ومضامينه وأنه وسيلة الهداية التي ارتضاها لعباده عز وجل.

الرابعة: أنه دين كامل بمعنى أنَّ أحكامه وتشريعاته مستوعبة لجميع وقائع الحياة وأنه ما من واقعة مهما دقت وحقرت إلا ولها حكم في الشريعة الإسلامية.

قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(6) وقال عز وجل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(7).

وثمّة رواية رائعة وردت عن الإمام الصادق (ع) في تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال:"قال أبو عبد الله (ع) قال الله لموسى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾(8) فعلمنا أنّه لم يُكتب لموسى الشيء كلّه، وقال الله لعيسى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾(9)، وقال الله لمحمّد (ص): ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(10).

هذه خصائص أربع للإسلام، وهي ليست مورداً للخلاف بين المسلمين بل هي مورد إجماع وتسالم بل أن المنكر لواحدٍ منها يعتبر بنظر المسلمين منكراً لواحد من ضروريات الإسلام، ونحن إنما ذكرنا بعض ما يدلُّ على ثبوتها استئناساً وتذكيراً وتيمناً بالقرآن الكريم وإلاّ فالأدلة على ثبوتها كثيرة وسيتضح إن شاء الله تعالى مما سنذكره

منشأ استعراضنا لهذه المقدمة.

المقدمة الثانية: إن الرسول (ص) كان مسؤولاً عن الاضطلاع بمجموعة من الأدوار

منها: تفسير القرآن الكريم وبيان مقاصده والتعريف بمضامينه والكشف عن غوامضه وإيضاح ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومجمله وباطنه ومطلقه ومقيده ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه.

وقد أكد القرآن الكريم هذا الدور لرسول الله (ص).

قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(11).

قال تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(12).

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(13).

ومنها: بيان الأحكام الشرعية، وهي من السعة بحيث تستوعب جميع وقائع الحياة كما ذكرنا ذلك في المقدمة الأولى، وكل الآيات التي أفادت أنَّ على الرسول البلاغ المبين، وانه جاء بالبينات، وانه إنما يدعو الناس لما يحييهم وان معصية الله ورسوله والتعدي لحدوده موجب لدخول النار، وان ما جاء به الرسول (ص) فإنه يلزم الأخذ به وما نهى عنه فإنه يلزم الانتهاء عنه، كل هذه الآيات تعبِّر عن اضطلاع الرسول بهذا الدور.

ومن الأدوار التي كان على الرسول التصدي لها هو معالجة الشبهات التي تطرأ في أذهان الناس أو التي يثيرها المضلّون كما أنه مسئول عن الإجابة على استفهامات الناس وأسئلتهم في كل ما يتصل بالشئون الدينية، ويتضح هذا الدور من جميع الآيات التي أفادت أن الغرض من بعث الرسول (ص) هو هداية الناس وتعليمهم.

كما أن من وظائفه صيانة الدين وتعاليمه من أن تمتد إليه دسائس المضلِّين والمبطلين بغية حرفه عن المسار القويم الذي أراده الله عز وجل، إذ أن عدم التصدي لذلك ينافي الغرض من بعث الرسول (ص) والذي هو هداية الناس

وباتضاح هاتين المقدمتين نتمكن من الوقوف على ما هو الصحيح من مفهوم الإمامة ومقامها وهل أنها مجرّد رئاسة وقتية للأمة أو أنها امتداد للنبوة المستوجب للاضطلاع بدور المرجعية الدينية الشاملة.

فإذا كان الإسلام هو خاتم الأديان وهو الدين الذي ارتضاه لعباده كلَّ عباده أبدَ الدهر ألا يكون من اللازم عقلاً خلق المقومات المُنتِجة لتحقُّق هذا الغرض فهل أن التعبير عن الغرض وحده كافٍ لحمايته وضمان حصوله، وإذا كانت من السعة بحيث تكون الشريعة مستوعبة لجميع وقائع الحياة أفلا يكون ذلك مستوجباً لحمايتها من التبعثر والضياع والتحريف بعد أن كان الغرض خلودها ووصولها لكل بني الإنسان وماذا عن الأدوار التي تصدى النبي لها في حياته هل استنفدت أغراضها بعد رحيله بحيث لا يكون من اللازم إيكال هذه الأدوار لأحدٍ من بعده أو أن ذلك كان لازماً ولكن الرسول (ص) لم يكن يعبأ بذلك بعد أن نهض بهذه الأدوار في حياته، إذ لم يكن من الحرص على دعوته وخلودها إلى درجة تدعوه للتفكير في مستقبلها، ولذلك أهمل هذا الأمر لتصبح رسالته في مهب الريح.

لا أعتقد أن أحداً يقبل بالفرض الثالث خصوصاً بعد الالتفات إلى المقدمة الأولى، ولو اتفق أن قبل أحد بهذا الفرض فهذا شأنه، وهو بذلك يتهم الرسول (ص) إما بعدم التعقل أو بعدم الإخلاص لربه ولرسالته، إذ ليس من التعقل أن يعلن الرسول عن أن الغرض من رسالته هو هداية البشرية إلى آخر الدهر ثم لا يخطط لضمان هذا الهدف إلا أن يكون غير مدرك للحاجة إلى التخطيط لمستقبل دعوته وهو ينافي ما افترضاه من الحاجة لذلك و إذا كانت الحاجة مقتضية للتخطيط فلابد وأن يكون الرسول مدركاً لذلك، وإذا كان مدركاً لذلك ثم لايسعى لضمان هذا الغرض فذلك ينافي التعقل أو ينافي الإخلاص، وكلاهما مستحيل، وحينئذٍ يتعيَّن احد الفرضين الأولين.

وهي أن الأدوار التي نهض بها رسول الله (ص) إما أن تكون قد استُنفدت برحيله أو أنها لم تُستَنفد وكان من اللازم إيكالها لأحدٍ بعده.

الغرض الأول ليس صحيحاً قطعاً لأن الفترة الوجيزة التي قضاها الرسول (ص) مع الأمّة لم تكن كافية لاستنفاد الغرض من الأدوار، وهذا يتضح إذا تم الالتفات إلى عمق الرسالة وسعتها واشتمالها على تفاصيل ودقائق يستوجب استيعابها إلى ردح طويل من الزمن، وكيف يتسنى له ذلك وقد اشتغل طوال عقدٍ من الزمن بتأصيل العقائد الأساسية دون أن تسنح له الفرصة لتخطي هذه المرحلة إلا بمستوىً محدود، وذلك نتيجة الضغط الهائل الذي فرضته عليه قريش حتى عزلته عن الناس في شعب أبي طالب ثلاث سنين أو يزيد واضطرته إلى أن يأذن للمؤمنين بالهجرة إلى الحبشة، ولم يكن شغله في تلك الفترة أوسع من الدعوة إلى التوحيد والإيمان برسالته وإبراز الدلائل على صدق دعواه والسعي المحدود لتكثير المؤمنين به، وحينما هاجر إلى المدينة تآزرت العرب على حربه ومنابذته حتى لم تخلُ سنة من ثلاثة حروب أو أكثر، هذا بالإضافة إلى ما كانت تثيره اليهود من قلاقل وما تحدثه من مشكلات وقد كانت قبائلهم الكثيرة مُحدقة بأطراف المدينة المنورة، وقد كان نفوذهم واسعاً في الوسط الذي أسس منه رسول الله (ص) المجتمع الإسلامي، هذا وقد ظهرت في المدينة المنورة بعد الهجرة مشكلة معقَّدة استأثرت بمساحة واسعة من جهد رسول الله (ص) وهي مشكلة المنافقين، والذي يعبِّر عن ذلك الآيات الكثيرة التي تصدَّت لمعالجة هذه المشكلة.

هذه هي بعض الظروف التي اكتنفت العقدين والثلاث سنين والتي مارس فيها الرسول (ص) دور الهداية والمرجعية الدينية الشاملة، وهي فترة وجيزة إذا ما قيست بالغرض الكبير من الرسالة، وهو الهداية الشاملة لبني الإنسان على امتداد رقعة وجوده ومستقبله الطويل.

نعم هو قد قطع أشواطاً جبّارة في هذا السبيل فأرسى دعائم الإسلام وأوضح معالمه وكابد من أجل حمايته وصيانته من التحريف والدس، وردَّ شبهات المضلِّين وكشف عن مرامي المنافقين إلا أن ذلك وحده غير كافٍ للحكم بأنه قد استنفد الأدوار التي نهض بها.

فلو كان النبي (ص) قد تصدّى لتفسير كلَّ كتابِ الله عز وجل وإيضاح غوامضه وأسراره فذلك لايعني نفاد هذا الدور، إذ أن ذلك لا يضمن عدم ضياع الكثير مما أوضحه وبيَّنه إلا أن تكون الأمّة قد استوعبت كلَّ ما أفاده رسول الله (ص) من تفسير وبيان.

وحينئذ تتحمل الأمّة إيصاله للأجيال المتعاقبة أو أن النبي (ص) قد أودع شروحه وبياناته في كتاب وأوصى الأمة باعتماده وسيلةً للتعرف على معاني آيات الله عز وجل.

والاحتمال الثاني لم يقع بإجماع الأمّة، فما من كتاب خلَّفه رسول الله (ص) غير كتاب الله عز وجل، والصحابة الذين كتبوا بعض ما سمعوه من رسول الله (ص) أمروا بإحراق ما كتبوه في عهد الخليفة الأوّل ومنعوا من كتابة ما حفظوه من رسول الله (ص) بعد وفاته حتى تأخر تدوين السنة الشريفة إلى عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز.

وأمّا الاحتمال الأول وهو أن الأمّة قد استوعبت ما أفاده رسول الله (ص) من تفسير وبيان لكتاب الله عز وجل فهو يعني أن دور البيان لمعاني كتاب الله عز وجل لم يُستنفد بل أنيط هذا الدور بالأمّة، فهي المسئولة عن إيصاله للأجيال المتعاقبة، وهذا يقتضي التبني للفرض الثاني وهو لزوم إيكال الأدوار التي نهض بها لأحد بعده، وسيتضح مما نذكره هناك أن الأمّة هل هي الموكَّلة حقاً بحمل هذا الدور أولا؟

ولو أن النبي (ص) قد أوضح للأمّة كل الأحكام الشرعيّة بسعتها وتفاصيلها ودقائقها فإن ذلك لايضمن ضياع الكثير مما أوضحه وبيَّنه إلا أن يعتمد إحدى الوسيلتين أمّا التأكد من استيعاب الأمّة أو بعضها لما جاء به من أحكام وتشريعات أو إيداع ذلك في كتاب ليكون مرجعاً للأمّة والأجيال المتعاقبة، والوسيلة الثانيّة لم تُعتَمد وحينئذٍ تتعين الأولى فيعود ما ذكرناه سابقاً.

ثم انه هل انقطعت شبهات المضلِّين برحيله (ص) وهل استنفد الناس أسئلتهم وإشكالاتهم حتى لا تكون ثمَّة حاجة إلى أن ينهض بهذا الدور أحد بعد رسول الله (ص) وهل انتفت الخشية من الدس والتحريف حتى لا يخشى رسول الله على دعوته من عبث العابثين والمدلسين فلا يخطط لصيانتها وحياطتها وإذا لم يكن الأمر كذلك فما هي الوسيلة التي اعتمدها لحماية رسالته من أن تطالها يد التحريف والوضع بعد أنَّ اتضح انّه لم يعتمد التدوين وسيلة لذلك، وهذا ما يقتضي تعيّن الفرض الثاني وهو لزوم إيكال النهوض بأدواره إلى أحدٍ بعده، وبذلك يتبين أن الإمامة لا تنحصر في الرئاسة الوقتيّة للأمّة لأنها لا تنتج حماية الغرض من الرسالة وان الذي يُنتج ذلك إنما هو الاضطلاع بالأدوار التي كان يمارسها رسول الله (ص) وهذا هو معنى ما ذكرناه من الإمامة امتداد للنبوّة في الاضطلاع بدور المرجعيّة الدينيّة الشاملة لجميع معارف الإسلام وشئون الأمّة الإسلاميّة. وحينئذٍ يقع الحديث عن الغرض الثاني وهو يقتضي واحداً من احتمالين.

الاحتمال الأول: أن النبي (ص) قد أناط مسئولية ما كان يمارسه من أدوار إلى الأمّة وذلك لأنه وجد فيها اللياقة والأهليّة للنهوض بهذه الأدوار.

الاحتمال الثاني: انه ولإدراكه خطورة هذه الأدوار وانَّ الأمّة غير مؤهلّة لتحمّل أعباء هذه المسؤولية الثقيلة لذلك سعى لتأهيل واحدٍ أو أكثر لينهض بعده بهذا العبء الثقيل وتدخلت العنايّة الإلهية في صياغته كما تدخلت في صياغة رسول الله (ص) حرصاً منها على حماية الرسالة وصيانة أهدافها لتكون صالحة أبد الدهر لهداية الإنسان.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأحزاب / 40.

2- سورة سبأ / 28.

3- سورة الأعراف / 158.

4- سورة الأنعام / 19.

5- سورة الحجر / 9.

6- سورة المائدة / 3.

7- سورة النحل / 88.

8- سورة الأعراف / 144.

9- سورة النحل / 38.

10- سورة النحل / 89.

11- سورة النحل / 44.

12- سورة النحل / 64.

13- سورة الجمعة / 2.