قطعُ السارق هل هو بمعنى الإبانة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
يزعم بعضُهم أنَّ القطع في قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾([1]). يعني الجرح وليس الإبانة، ويستدلُّون على ذلك بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾([2]) وربما تعني المنع. فهم يقولون إنَّها تأتي بمعاني عديدة مثل قطع الطريق، وقطع الإشارة، وقطع الرحم، وتقطعوا أمرهم بينهم، فقُطع دابر القوم.
أولا: ما ردُّكم على دعوى أنَّ القطع في الآية هو الجرح أو المنع وليس الإبانة؟
وثانيا: فيما يتعلَّق بالمعاني الأخرى مثل قطع الرحِم، وقطع الطريق .. هل ترجع هذه المعاني للمعنى الأول وهو البتر والإبانة واستُعملت في تلك المعاني لأغراض بلاغية؟
الجواب:
ظهور الآية الشريفة في إرادة الإبانة والبتر من الأمر بالقطع غيرُ قابلٍ للتأويل فهو نصٌّ في هذا المعنى، ولو كان البناءُ هو التصرُّف في مثل هذا الظهور البيِّن لم يستقم ظهورٌ لآيةٍ من آيات القرآن بل لم يستقمْ ظهورٌ لشيءٍ من كلام العرب، إذ ما مِن كلامٍ مهما كان ظهوره في معناه بيِّنًا إلا ويُمكن التعسُّف بصرفِه عمَّا يقتضيه ظهورُه العرفي واللُّغوي.
ويكفي لتبيُّن فساد تفسير القطع في الآية بغير الإبانة والبتر أنَّ فهم إرادة الإبانة من الأمر بالقطع لم يقعْ موردًا للشك والتردُّد منذُ نزول الآية إلى يومِنا هذا، ولذلك يُعدُّ الحكم ببتر يد السارق من ضرورات الفقه غير القابلة للاجتهاد، ويُعدُّ هذا الحدُّ من الحدود التي تعرفُها سائرُ المِلل عن الإسلام وأنَّه من تشريعاته التي فرضَها على مرتكب هذه الجناية كما يعرفون عنه أنَّه فرضَ على أتباعه الصلاة والصوم والحج.
تسالم المفسِّرين وعموم المذاهب الفقهيَّة والكلاميَّة:
فلن تجدَ أحدًا من المفسِّرين دون استثناء منذُ عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم كما لن تجد أحدًا من المحدِّثين أو الفقهاء أو المؤرِّخين أو الأدباء قد شذَّ ففسَّر الأمر بالقطع في الآية بغير الإبانة كما لن تجد فرقةً من الفرق الإسلامية أو مذهبًا من المذاهب الفقهيَّة أو الكلاميَّة قد فهم أو تبنَّى معنىً للأمر بالقطع في الآية غير الأمر بالإبانة والبتر رغم اختلاف هذه الفرق والمذاهب في الكثير من المسائل والقضايا ورغم تباينِ هذه المذاهب في المشارب وفي العديد من القواعد والمباني الأصوليَّة والفقهيَّة، وهو ما يكشف كشفًا قطعيًّا عن وضوح الآية في المعنى المذكور، ويكشفُ كذلك عن تلقِّي هذا الفهم عن الصادع بالقرآن المجيد وهو الرسول الكريم (ص) وإلا فما هو منشأ هذا المستوى المتقدِّم من التسالم، فالمذاهب الفقهيَّة والكلاميَّة وإنْ اختلفت في تحديد نصاب ما به يجبُ القطع في السرقة، واختلفت في شرائط هذا الحدِّ سعةً وضيقًا، واختلفت في المقدار الذي يتعيَّن قطعُه من يد السارق وهل هو من الرسغ أو من أصول الأصابع أو من الكتف كما هو مسلك الخوارج إلا أنَّهم لم يختلفوا في أنَّ حدَّ السارق هو القطع بمعنى البتر لشيءٍ من يدِه.
تواتر الروايات الدالة على أنَّ القطع يعني الإبانة:
والدليل الآخر الذي يكشف بنحو اليقين عن أنَّ المراد من الأمر بالقطع في الآية هو الأمر بالبتر الرواياتُ الواردة من طُرق الفريقين عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع) ومجموعُها يفوقُ حدَّ التواتر الإجمالي بمراتب بل إنَّ ما ورد من طُرق أهل البيت (ع) يفوق وحده حدَّ التواتر الإجمالي، ويكفي للتثبُّت من ذلك الوقوف على ما أورده الحرُّ العاملي في الوسائل تحت عنوان أبواب حدِّ السرقة، فقد أورد في هذه الأبواب ما يزيد على المائة والسبعين رواية هذا غير ما أورده في الأبواب الأخرى المتفرِّقة وغير ما ورد في المستدرك وفي كتب التفسير، وقد اشتملت هذه الأبواب مثلًا على الروايات المتصدِّية لبيان كيفيَّة القطع وهل هو من المفصل أو من أُصول الأصابع، وهل تُقطع معها الإبهام أو لا؟ وهو ما يعني المفروغيَّة عن أصل البتر، ومن الأبواب باب: أقل ما يُقطع فيه السارق وهل هو ربع دينار أو أكثر أو أقل؟ وباب: ما لو قُطعت يد السارق اليسرى غلطًا، وباب مَن سرق فقُطعت يدُه اليمنى ثم سرق ثانية، وباب: مَن أقرَّ بالسرقة بعد الضرب، وباب: مَن تكرَّرت منه السرقة قبل القطع، وباب: أنَّ السارق يلزمه القطع ويُغرَّم ما أخذ، وباب: حكم السارق المشلول اليد هل تقطع يمينة الشلاء، وباب: حكم النبَّاش للقبور، وباب: حكم الطرَّار، وباب: سقوط الحدِّ عمَّن سرق من غير حرز، وباب: أنَّه لا قطعَ على المختلس، وباب: حكم مَن سرق من المَغنم، وباب: أنَّه لا يُقطع السارق في عام المجاعة والمَحل، وباب: حكم الصبيان إذا سرقوا، وباب: لا بدَّ من حسم يد السارق إذا قُطعت وعلاجها والإنفاق عليه حتى تبرأ، وغيرها من الأبواب المبتنية على المفروغيَّة عن أنَّ حدَّ السرقة هو البتر ليد السارق.
تصدِّي النبيِّ (ص) وعليًّ (ع) لإقامة حدِّ السرقة:
هذا وقد نصَّت الكثيرُ من هذه الروايات وغيرها على تصدِّي النبيِّ (ص) وأمير المؤمنين (ع) وكذلك الولاة من الصحابة على إقامة هذا الحدِّ وبتر يد السارق.
فمِن ذلك موثقة سَمَاعَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِرِجَالٍ قَدْ سَرَقُوا فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي بَانَ مِنْ أَجْسَادِكُمْ قَدْ وَصَلَ إِلَى النَّارِ، فَإِنْ تَتُوبُوا تَجُرُّوهَا وإِنْ لَمْ تَتُوبُوا تَجُرَّكُمْ"([3]).
ووردت من طريقٍ آخر موثَّق للشيخ الصدوق في العلل عن سماعة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجالٍ قد سرقوا فقطع أيديهم، ثم قال: إنَّ الذي بانَ من أجسادِكم قد يصلُ إلى النار فإنْ تتوبوا تجرُّوها، وإلا تتوبوا تجرُّكم"([4]).
أقول: فالرواية تدلُّ على أنَّ الإمام عليَّاً (ع) الأعلم على الإطلاق بمقاصد القرآن قد تصدَّى لإقامة هذا الحدِّ فبتر أيدي رجال قد سرقوا ثم وعظهم بقوله: "إنَّ الذي بانَ من أجسادِكم" وهو صريحٌ في أنَّ القطع يعنى الإبانة.
ومنها: رواية إبراهيم بن عبد الحميد، عن عامَّة أصحابه، يرفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه كان إذا قطع السارق ترك الابهام والراحة، فقيل له: يا أمير المؤمنين تركتَ عليه يده؟ قال: فقال لهم: فإنْ تاب فبأيِّ شيءٍ يتوضأ؟ لأنَّ الله يقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ إلى قوله: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾"([5]).
أقول: فهذه الرواية تدلُّ أيضًا على تصدِّي الإمام (ع) لإقامة حدِّ السرقة وذلك ببتر يد السارق كما صريح قوله: "قطع السارق ترك الابهام والراحة: أي أنَّه كان يبترُ من اليد ما دون الراحة والإبهام، وقد استدلَّ (ع) على ذلك بالآية الشريفة وهو الأعلمُ بمقاصدها ومدلولها ولا يصدرُ إلا عمَّا تلقَّاه عن رسول الله (ص).
ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "في رجلٍ سرق فقُطعت يدُه اليمنى، ثم سرق فقُطعت رجله اليسرى، ثم سرق الثالثة، قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يُخلِّده في السجن ويقول: إنِّي لأستحي من ربِّي أنْ أدعه بلا يدٍ يستنظفُ بها ولا رجلٍ يمشي بها إلى حاجته، قال: وكان إذا قطع اليد قطعَها دون المفصل، وإذا قطع الرجل قطعها من الكعب، قال: وكان لا يرى أنْ يُعفى عن شيءٍ من الحدود"([6]).
أقول: وهذه الرواية صريحةٌ أيضًا في تصدِّي الإمام أمير المؤمنين (ع) لإقامة حدِّ السرقة وذلك ببتر يد السارق كما يتَّضح ذلك من التعليل الذي أفاده (ع) وهو قوله: "إنِّي لأستحي من ربِّي أنْ أدعه بلا يدٍ يستنظفُ بها ولا رجلٍ يمشي بها إلى حاجته" إذ لا معنى لهذا التعليل لو لم يكن قطع اليد اليمنى بمعنى الإبانة والبتر وكذلك يتَّضح ذلك من قوله (ع): "وكان إذا قطع اليد قطعَها دون المفصل" أي أنَّ المقدار الذي تتمُّ إبانته من اليد هو ما دون المفصل.
ومنها: صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فِي السَّارِقِ إِذَا سَرَقَ قَطَعْتُ يَمِينَه، وإِذَا سَرَقَ مَرَّةً أُخْرَى قَطَعْتُ رِجْلَه الْيُسْرَى، ثُمَّ إِذَا سَرَقَ مَرَّةً أُخْرَى سَجَنْتُه وتَرَكْتُ رِجْلَه الْيُمْنَى يَمْشِي عَلَيْهَا إِلَى الْغَائِطِ ويَدَه الْيُسْرَى يَأْكُلُ بِهَا ويَسْتَنْجِي بِهَا وقَالَ: إِنِّي لأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّه أَنْ أَتْرُكَه لَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ ولَكِنِّي أَسْجُنُه حَتَّى يَمُوتَ فِي السِّجْنِ وقَالَ: مَا قَطَعَ رَسُولُ اللَّه (ص) مِنْ سَارِقٍ بَعْدَ يَدِه ورِجْلِه"([7]).
أقول: وكذلك هذه الرواية صريحةٌ في تصدِّي النبيِّ الكريم (ص) وكذلك تصدِّي الإمام عليٍّ(ع) لإقامة الحدِّ على السارق، وذلك ببتر يمينه في المرَّة الأولى ويتَّضح ذلك من قوله: "وتركت رجله اليمنى يمشي عليها إلى الغائط ويده اليسرى يأكلُ بها ويستنجى بها" فلو لم يكن القطع بمعنى البتر والإبانة فما معنى ترك اليسرى يأكلُ بها لولم تكن اليمنى قد بُترت فتعذَّر عليه الانتفاع بها.
ومنها: موثقة زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ (ع) لَا يَزِيدُ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ والرِّجْلِ ويَقُولُ: إِنِّي لأَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي أَنْ أَدَعَه لَيْسَ لَه مَا يَسْتَنْجِي بِه أَوْ يَتَطَهَّرُ بِه قَالَ: وسَأَلْتُه إِنْ هُوَ سَرَقَ بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ والرِّجْلِ فَقَالَ: أَسْتَوْدِعُه السِّجْنَ أَبَدًا وأُغْنِي عَنِ النَّاسِ شَرَّه"([8]).
أقول: وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو عينه التقريب في الرواية التي سبقتها.
ومنها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن السارق يسرقُ فتُقطع يده، ثم يسرق فقطع رجله، ثم يسرق، هل عليه قطع؟ فقال: في كتاب عليٍّ (عليه السلام): إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) مضى قبل أنْ يقطع أكثر من يد ورجل، وكان عليٌّ (عليه السلام) يقول: إنِّي لأستحيي من ربِّي أنْ لا أدع له يدًا يستنجي بها، أو رجلًا يمشي عليها([9]).
أقول: وهذه الرواية صريحة في تصدِّي النبيِّ الكريم (ص) لإقامة حدِّ السرقة بالبتر ليدٍ في المرَّة الأولى ولرجلٍ في المرَّة الثانية، ويدلُّ على أنَّ القطع بمعنى البتر التعليل الذي أفاده أمير المؤمنين(ع) في ذيل الرواية، إذ لا معنى لقوله: "أن لا أدع له يدًا يستنجي بها، أو رجلا يمشي عليها" لولم يكن القطع بمعنى الإبانة الذي لا يبقي له إلا يدًا واحدة يستنجي بها ورجلًا واحدة يمشي بها.
ومنها: رواية الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ قَالَ: مَرَرْتُ بِحَبَشِيٍّ وهُوَ يَسْتَسْقِي بِالْمَدِينَةِ وإِذَا هُوَ أَقْطَعُ، فَقُلْتُ لَه: مَنْ قَطَعَكَ فَقَالَ: قَطَعَنِي خَيْرُ النَّاسِ، إِنَّا أُخِذْنَا فِي سَرِقَةٍ ونَحْنُ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ فَذُهِبَ بِنَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) فَأَقْرَرْنَا بِالسَّرِقَةِ فَقَالَ لَنَا: تَعْرِفُونَ أَنَّهَا حَرَامٌ قُلْنَا: نَعَمْ فَأَمَرَ بِنَا فَقُطِعَتْ أَصَابِعُنَا مِنَ الرَّاحَةِ وخُلِّيَتِ الإِبْهَامُ ثُمَّ أَمَرَ بِنَا فَحُبِسْنَا فِي بَيْتٍ يُطْعِمُنَا فِيه السَّمْنَ والْعَسَلَ حَتَّى بَرَأَتْ أَيْدِينَا ثُمَّ أَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا وكَسَانَا فَأَحْسَنَ كِسْوَتَنَا ثُمَّ قَالَ لَنَا إِنْ تَتُوبُوا وتَصْلُحُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يُلْحِقْكُمُ اللَّه بِأَيْدِيكُمْ فِي الْجَنَّةِ وإِنْ لَا تَفْعَلُوا يُلْحِقْكُمُ اللَّه بِأَيْدِيكُمْ فِي النَّارِ"([10]).
أقول: وهذه الرواية صريحة في إقامة الإمام لحدِّ السرقة على السرَّاق وأنَّه يكون بالبتر والإبانة كما يتَّضح ذلك من قوله: "مررتُ بحبشيٍّ وهو يستقي بالمدينة فإذا هو أقطع" أي مقطوع اليد، وكذلك يتَّضح من قوله: "فقُطعتْ أصابعُنا من الراحة وخُليت الابهام" أي تركت الإبهام، وكذلك يتَّضح من قول أمير المؤمنين في ذلك: "إن تتوبوا وتصلحوا فهو خير لكم يلحقكم الله بأيديكم في الجنة، وإلا تفعلوا يلحقكم الله بأيديكم في النار" فهي قد انفصلت عنهم فإمَّا أن تلحقَ بهم في الجنَّة لو تابوا وأصلحوا وإمَّا أن يلحقوا بها في النار لولم يتوبوا.
ومنها: رواية محَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِقَوْمٍ لُصُوصٍ قَدْ سَرَقُوا فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ وتَرَكَ الإِبْهَامَ ولَمْ يَقْطَعْهَا وأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا دَارَ الضِّيَافَةِ وأَمَرَ بِأَيْدِيهِمْ أَنْ تُعَالَجَ فَأَطْعَمَهُمُ السَّمْنَ والْعَسَلَ واللَّحْمَ حَتَّى بَرَؤُوا فَدَعَاهُمْ وقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ إِنَّ أَيْدِيَكُمْ قَدْ سَبَقَتْ إِلَى النَّارِ فَإِنْ تُبْتُمْ وعَلِمَ اللَّه مِنْكُمْ صِدْقَ النِّيَّةِ تَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ وجَرَرْتُمْ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وإِنْ لَمْ تُقْلِعُوا ولَمْ تَنْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْه جَرَّتْكُمْ أَيْدِيكُمْ إِلَى النَّارِ"([11]).
أقول: وهذه الرواية صريحةٌ أيضًا في تصدِّي الإمام علي (ع) لإقامة حدِّ السرقة وذلك بالبتر والإبانة لأيديهم من نصف الكف كما يتَّضح ذلك من قوله: "فقطع أيديهم من نصف الكفِّ وترك الابهام ولم يقطعها" وكذلك يتَّضح من قوله (ع): "فَإِنْ تُبْتُمْ وعَلِمَ اللَّه مِنْكُمْ صِدْقَ النِّيَّةِ تَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ وجَرَرْتُمْ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وإِنْ لَمْ تُقْلِعُوا ولَمْ تَنْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْه جَرَّتْكُمْ أَيْدِيكُمْ إِلَى النَّارِ" بنفس التقريب السابق.
المدلول اللُّغوي لمادَّة القطع:
وثانيًا: إنَّ المدلول اللغوي وكذلك العرفي لكلمة القطع بمختلف اشتقاقاتها يُساوق معنى الفصل والتفريق والإبانة والجزّ والاستئصالِ والبتر خصوصًا إذا أُسنِد أو أُضيف إلى الأجسام والأشياء المتَّصلة أو كان من شأنها الاتِّصال المادِّي أو المعنوي، فيقال انقطع الحبل وقطَّعتُ الجلدة وتقطيع اللحم، ومقطوع الذنب، وقطعتُ الشجرة، وسيف قاطع، وانقطع العِقد، فالقطع لغةً يقع في مقابل الوصل كما في قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾([12]) نعم قد تُستعمل مادَّة القطع مجازًا في غير ذلك لمناسبةٍ ترجعُ في المآل إلى الأصل اللُّغوي لمعنى القطع كما سيتَّضح ذلك فيما بعد.
استعمال القرآن لمادة القطع في إفادة معنى الفصل والتفريق:
وقد استعمل القرآن مادَّة القطع فيما يُساوق معنى الفصل والإبانة والتفريق والبتر والاستئصال كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾([13]) وكذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾([14]) فإنَّ الواضح مِن مساق الآيتين أنَّ تهديد فرعون لمَن آمن بموسى(ع) بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف يعني البتر لأيديهم وأرجلهم من خلاف والذي يقتضي فصل أيديهم وأرجلهم وإبانتها من أجسادهم، وكذلك هو حدُّ الحرابة المفروض على قطَّاع الطرق والذي ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾([15]).
ومن موارد استعمال القرآن لمادة القطع بمعنى التفريق والفصل قوله تعالى:﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾([16]) أي صيَّر ماءُ الحميم لفرط حرارته أمعاءَهم قِطعًا وأجزاءً متفرِّقة ومُفتتة بعد أنْ كانت على هيئةٍ متَّصلة، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾([17]) يعني إلا أنَّ تصير قلوبُهم قطعًا وأشلاء موزَّعة يعني أنَّ النفاق والريبة ستظلُّ متمكِّنة من قلوبهم ولن تزول إلا بزوال قلوبِهم وتلاشيها وصيرورتها إلى أجزاء مُفتَّتة، وفي ذلك كناية عن أنَّها لن تزول إلا بزوالِهم وموتهم.
ومن استعماله في ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾([18]) والوتين عرقٌ أو وريدٌ في القلب أو متَّصل بالقلب، وقطعُه يعني فصله أو صيرورته أوصالًا وقطعًا بعد أنْ كان على هيئة متَّصلة.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾([19]) واللِّينة هي النخلة أو هي نوع من النخل، وقطعها يعني اجتزازها واستئصالها، فلأنَّها متصلة ومتجذرة في الأرض لذلك كان اقتلاعها من الأرض قطعًا لها وذلك في مقابل تركها موصولة بمنبتها وكذلك فإنَّ تصيير جذعها إلى وصلتين أو إلى أوصال يُعدُّ قطعًا لها بعد أنَّ كانت أجزاء الجذع وأوصاله متَّصلة.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾([20]) فلأنَّ الأرحام ينبغي أنْ توصل وقد أكَّد الإسلام في الكثير من النصوص على الأمر بصلة الأرحام لذلك ناسب أنْ يكون ما يُقابل الصلة للأرحام هو التعبير بالقطيعة والتقطيع للأرحام وهو ما يُؤكِّد أنَّ القطع والتقطيع يقع فيما يُقابل الوصل كما في قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ فاللهُ تعالى قد أمر بوصل الأرحام إلا أنَّهم يقطعون ما أمر اللهُ بوصله.
الاستعمال المجازي للقطع يرجع في المآل لِما يساوق الفصل:
هذا وقد استعمل القرآن مادَّة القطع في معانٍ مجازيَّة ترجعُ في المآل إلى معنى الفصل والتفريق كقوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾([21]) أي ليُهلك طائفةً من الذين كفروا فشبَّه الذين كفروا بالجسد الواحد ثم شبَّه الإهلاك لطائفة وجماعة منهم بالقطع فكان إهلاكهم أشبهُ شيء بفصل جزءٍ وطرفٍ من هذا الجسد.
واستعمل مادَّة القطع بمعنى التفريق في قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾([22]) أي فرَّقناهم في البلاد فرقًا وجماعاتٍ شتى فشبَّه الناس بالجسد الواحد المتَّصل وأنَّه قام بتقطيعه وتفريقه إلى أُممٍ وجماعات، وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾([23]) أي فرَّقنا بني إسرائيل -أبناء يعقوب- إلى اثنتي عشرة قبيلةً، فبعد أن كانوا أُسرةً واحدة صاروا اثنتي عشرة أُمة، كلُّ أمةٍ ترجعُ إلى سبطٍ من الأسباط الإثني عشر.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾([24]) أي تفرَّقوا وجعلوا مِن أمرهم الواحد قِطَعًا مفرَّقة وموزَّعة وبذلك صاروا قرقًا وأحزابًا متباينة يتبرأ بعضُهم من بعض بعد أن كانوا على أمرٍ واحد، وقريبٌ من ذلك استعمال تقطَّع في قوله تعالى: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾([25]) أي لقد تقطَّع وتفرَّق وصلُكم وجمعُكم أو تقطَّع وتفرَّق الأمر بينكم وتفرَّق وصلُكم بينكم.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾([26]) فالأسباب هنا بمعنى الوصلات وأسباب وأنحاء العلائق كالقرابة والمودَّة والتحالف والعهود فجميع أنحاء وأسباب هذه الوصلات والعلائق قد تقطَّعت وانفصلت وزالت، فهذه العلائق التي كانت تربط بين التابعين والمتبوعين قد انفصمت وانفصلت وهذا هو معنى تقطَّعت.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([27]) فالقطعُ هنا بمعنى الاستئصال فدابرُ القوم هو آخرهم ومَن يكون في مؤخرتهم تابعًا لهم ولاحقًا بهم فيكون مددًا لهم، فمفادُ الآية أنَّ العذاب قد استوعبَهم إلى آخرهم فلم يبقَ منهم مِن أحد، فقطْعُ دابرهم معناه قطعُ ما يمدُّهم بالبقاء والاستمرار، فليس لهم تابع ولاحق يمدُّهم لأنَّهم استؤصلوا عن آخرهم، ومنه يتَّضح معنى قوله تعالى:﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾([28]) وقوله تعالى:﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا﴾([29]).
ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾([30]) وقوله تعالى: ﴿قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾([31]) القِطَع جمع قطعة، فهو قد اعتبر الليل وحدةً واحدة متَّصلة ثم قطَّعه إلى أجزاء وقِطَع، فتقطيع الليل يعني تجزئته وتفريقه إلى أجزاء وآنات، فمنه أوله ومنه وسطه وآخره، ومن ذلك يتَّضح معنى قوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾([32]) أي بقاعٌ متجاورة، فهو قد قسَّم الأرض والتي هي وحدةٌ واحدة إلى أجزاء وقِطَع، فقطعة طيِّبة وأخرى سبخة وثالثة رخوة صالحة للزرع وصلبة لا يستقرُّ فيها الماء ولا ينبت فيها زرع، فهو قد فرَّق الأرض ووزَّعها إلى قِطَع، ومنه يتَّضح معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾([33]) فتقطيع الأرض والتي هي وحدة متَّصلة معناه تفريقها و تصييرها قِطَعًا وأجزاء متفرِّقة.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا﴾([34]) قطعُ الوادي يعنى تجاوزه إلى غيره أي تجاوزه والدخول في موضعٍ آخر من الأرض، فمنشأُ التعبير عن ذلك بالقطع هو أنَّ المسافر يُقسِّم الأرض إلى قِطَع وأجزاء، أودية وشعاب وجبال وسهول أو بلدان ومُدن وقرى، فكلَّما تجاوز موضعًا يكون كأنَّه قد انفصل عنه لذلك ناسبَ التعبير عن تجاوز ذلك الموضع بالقطْع، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يعني انفصلت قافلةُ إخوة يوسف عن مصر، فاعتبرت التجاوز لأرض مصر انفصالًا عنها ذلك لأنَّ المسافر يُقسِّم الأرض إلى قطع وبلدان، فكلَّما تجاوز تلك القطعة وذلك البلد يكون قد انفصل عنه، ومنه يتَّضح منشأ التعبير عن تجاوز المسافة الشرعية بقطع المسافة.
ومنه قوله تعالى: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾([35]) السبيل هو الطريق الذي يتَّخذه الناس والمسافرون معبرًا للوصول إلى مقاصدهم، وقطع الطريق يكون بالتعرُّض للمسافرين بالسلب والنهب لأمتعتهم وإيذائهم أو قتلهم، لذلك يُحجِم الناس عن سلوك الطريق الذي يكون فيه قطَّاع الطرق، والتعبير عمَّا يفعله قطَّاع الطرق بقطع السبيل والطريق نشأ عن أنَّ ما يفعلونه يكون سببًا لانفصال طرفي الطريق أي انفصال أوله عن آخره، فالطريق له امتداد، فله أول وآخر ووسط كالحبل، فإذا توسَّطوا الطريق وتعرَّضوا للمسافرين بالإيذاء امتنع المسافرون عن عبوره فكأنَّهم فصلوا الطريق أوله عن آخره كما يفصل طرف الحبل عن طرفه الآخر، لذلك ناسب التعبير عن فعلهم بالقطع للطريق.
هذه تقريباً مجمل الآيات التي استعملت مادَّة القطع استعمالًا مجازيًا وهي كما لاحظتم ترجع جميعًا إلى ما يساوق معنى الفصل والتفريق والاستئصال والذي هو المعنى الحقيقي لمادَّة القطع.
النكتة البلاغية لآية: ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾:
بقي الكلام حول قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ أي فلمَّا رأى النسوةُ يوسفَ (ع) وقد خرج عليهنَّ أكبرنه وقطَّعن أيديهنَّ أي خدشنَها وجرحنَها بالسكاكين التي آتت امرأةُ العزيز: ﴿كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا﴾ ومنشأُ استظهار إرادة الخدش والجرح للأيدي من التقطيع هو استبعاد أنْ يقطعن أيديهنَّ بمعنى يفصلنها، إذ يمتنع وقوع ذلك منهنَّ دون أنْ يشعرن بالألم المقتضي للتوقُّف عن القطع، نعم مِن الممكن أنْ يأخذ جمالُ يوسف بألبابهنَّ فتغيبُ عن الوعي والشعور لحظة رؤيتهنَّ له فيكون ذلك سببًا لخدش أيديهنَّ بالسكاكين التي يحملنها لتقطيع الفاكهة المقدَّمة لهن، ولذلك تمَّ استظهار إرادة الجرح والخدش من التعبير بالتقطيع، إذن استعمال التقطيع في الخدش مجازيٌّ وقد قامت القرينة على إرادة المعنى المجازي ولا ضير في استعمال اللفظ في غير ما وُضع له إذا اقترن بقرينةٍ تدلُّ على إرادته، وهذا لا يعني صحَّة حمل التقطيع على إرادة الجرح في كلِّ موردٍ استُعمل فيه لفظ التقطيع إلا أنْ تقوم القرينة على إرادته، فمع عدمِها يُحمل لفظُ التقطيع على المعنى الموضوع له هذا اللفظ أي أنَّه عند فقد القرينة يتعيَّن حملُه على معناه الحقيقي وهو الفصل والإبانة.
وببيانٍ آخر: إنَّ التقطيع معناه التفريق والفصل واستعماله في الجرح والخدش دون قرينة خاطئ، وإنَّما صحَّ استعمال الآية لفظ التقطيع في الجرح لوجود القرينة على ذلك، والنكتة البلاغية التي نشأ عنها استعمال الآية للتقطيع رغم إرادة الجرح هو ما يُعبَّر عنَّه في علم البديع بالمشاكلة كما في قول الشاعر:
قالوا اقترحْ شيئا نُجِد لك طبخه ** قلتُ اطبخوا لي جبةً وقميصا
فالجبّة لا تُطبخ وإنَّما تُخاط وكذلك القميص، فهو قد استعمل كلمة اطبخوا وأراد منها خيطوا وإنَّما استعمل كلمة اطبخوا للمشاكلة بينها وبين قولهم: "نجد لك طبخه"
كذلك هو الشأن في الآية فإنَّ السكاكين المقدَّمة للنسوة كانت لتقطيع الفاكهة المقدَّمة لهن، فالنسوة بدلًا من تقطيعهنَّ للفاكهة جرحن أيديهن، لذلك ناسب التعبير عن الجرح بالتقطيع، فالآية تكشف عن واقع حال النسوة وأنَّهن أردنَ أنْ يقطعن الفاكهة فقطعنَ أيديهنَّ، فالمصحِّح لإطلاق التقطيع على الجرح رغم أنَّ الجرح ليس من معاني التقطيع هو المشاكلة بين ما ينبغي لهنَّ فعله وهو تقطيع الفاكهة وبين ما صدر عنهنَّ وهو الجرح لأيديهن.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
3 / شوال المكرّم / 1442هـ
16 / مايو / 2021م
[1]- سورة المائدة / 38.
[2]- سورة يوسف / 31.
[3]- الكافي -الكليني- ج7 / ص224.
[4]- علل الشرائع -الصدوق- ج2 / ص537.
[5]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج28 / ص254.
[6]- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج4 / ص64.
[7]- الكافي -الكليني- ج7 / ص223.
[8]- الكافي -الكليني- ج7 / ص222.
[9]- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج10 / ص108.
[10]- الكافي- الكليني- ج7 / ص264.
[11]- الكافي -الكليني- ج7 / ص266.
[12]- سورة البقرة / 27.
[13]- سورة الأعراف / 123.
[14]- سورة الشعراء / 49.
[15]- سورة المائدة / 33.
[16]- سورة محمد / 15.
[17]- سورة التوبة / 110.
[18]- سورة الحاقة / 46.
[19]- سورة الحشر / 5.
[20]- سورة محمد / 22.
[21]- سورة آل عمران / 127.
[22]- سورة الأعراف / 168.
[23]- سورة الأعراف / 160.
[24]- سورة الأنبياء / 93.
[25]- سورة الأنعام / 94.
[26]- سورة البقرة / 166.
[27]- سورة الأنعام / 45.
[28]- سورة الحِجر / 66.
[29]- سورة الأعراف / 72.
[30]- سورة هود / 81.
[31]- سورة يونس / 27.
[32]- سورة الرعد / 4.
[33]- سورة الرعد / 31.
[34]- سورة التوبة / 121.
[35]- سورة العنكبوت / 29.