كيف سمَّاه إبليس قبل أن يعصي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ / إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾([1]) قيل: إنَّ معنى كلمة إبليس في اللَّغة العربية هو من الفعل بَلَسَ بمعنى طُرِدَ، عندها يكون معنى إبليس هو "المطرود من رحمة الله تعالى، فكيف خاطبه الله تعالى ذكره بلفظ ابليس يعني المطرود من رحمة الله وهو كان في مصافِّ الملائكة؟

 

الجواب:

الإبلاس هو اليأس وليس هو الطرد:

أولًا: الإبلاس -كما أفاد اللُّغويُّون- هو اليأس أو قل هو الحزن الناشئ عن اليأس الشديد، فهو مرتبة متقدِّمة من اليأس، فالإبلاس ليس هو الطرد وإنَّما هو اليأس([2]).

 

ومنه قوله تعالى: ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾([3]) أي ينتابهم حينذاك اليأس من النجاة لعلمهم بقبيح عملهم وسوء عاقبتهم.

 

ومِن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ / وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾([4]) يعني إذا هطل المطر عليهم استبشروا وكانوا قبل نزوله مبلسين يعني قانطين آيسين من نزوله أو قل مكتئبين قد أخذ الحزن مأخذه من نفوسهم ليأسهم من نزوله.

 

وكذلك هو معنى الإبلاس في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾([5]) أي فاجئهم العذاب فإذا هم آيسون من النجاة أو فإذا هم حيارى محزونون قد يئسوا من النجاة.

 

اسم إبليس هل هو مشتقٌ من الإبلاس:

هذا وقد وقع البحث لدى اللُّغويين في أنَّ "إبليس" هل هو مشتقٌ من الإبلاس أو لا؟

 

فأفاد بعضهم أنَّه مشتقٌّ من الإبلاس فاسمُ إبليس مِن أبلس أي يئس، ومنشأ تسميته بذلك هو أنَّه قد أبلسَ ويئس من رحمة الله تعالى([6]).

 

ويمكن تأييد ما أفاده هؤلاء اللُّغويون بما أورده الشيخ الطبرسي في الاحتجاج عن أبي بصير قال سئل أبو جعفر الباقر (ع) ".. فلم سمي إبليس إبليس؟ قال (ع): لأنَّه أبلس من رحمة الله عزَّ وجل فلا يرجوها"([7]).

 

وكذلك يمكن تأييده بما أورده الشيخ الصدوق في معاني الأخبار بسنده عباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه ذكر: أنَّ اسم إبليس "الحارث" وإنَّما قول الله عز وجل: "يا إبليس" يا عاصي وسمِّي إبليس لأنَّه أبلس من رحمة الله عزَّ وجل"([8]).

 

إبليس اسمٌ أعجمي:

وفي مقابل ذلك ذكر بعضُ اللُّغويين أنَّ اسم "إبليس" ليس مشتقًّا من الفعل أبلسَ بل هو اسمٌ أعجمي، غايته أنَّ هذا الاسم قد وافق لفظُه جذرًا عربيًا معناه اليأس وإلا فليس معنى إبليس اليائس، والقرينة على أعجميَّة اسم إبليس هو أنَّه لا ينصرف في حين أنَّ نظائره في الوزن من الأسماء العربية منصرفة مثل إجفيل، وإخريط فيقال: رأيتُ إجفيلًا وإخريطًا ومررتُ بإجفيلٍ وإخريطٍ وهكذا هو الشأن في مثل إزميل وإكليل، أما اسم إبليس فإنَّه من الأسماء غير المنصرفة فيقال: رأيتُ إبليسَ وخُدعتُ بإبليسَ([9]).

 

فبناءً على ذلك ينتفي الإشكال فإبليس ليس معناه اليائس من رحمة الله حتى يُقال كيف يُخاطبه الله تعالى بهذا الاسم وهو لا زال في مصافِّ الملائكة وبعدُ لم يعصٍ الله تعالى، نعم بناءً على القول الأول الذي ذكره اللُّغويُّون وأنَّ اسم إبليس مشتقٌّ من الإبلاس والذي هو بمعنى اليأس من رحمة الله تعالى قد يتَّجه هذا الإشكال. لكنَّ الإشكال إنَّما يتَّجه لو كان الله تعالى قد خاطبه حقًّا بقوله يا إبليس قبل أنْ يعصي ويأبى الامتثال للأمر بالسجود. وهو ما سيتَّضح عدم ثبوته في الجواب الثاني.

 

لم تُخاطب الآية إبليس بهذا الاسم قبل المعصية:

ثانيًا: إنَّ الآية المذكورة وهي قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ ليس فيها ما يدلُّ على أنَّ الله تعالى قد خاطبَ إبليس حين أمرَه بالسجود بقوله يا إبليس، نعم هي تدلُّ على أنَّه تعالى قد أمرَه كما أمر الملائكة بالسجود لآدم (ع) ولكنَّ الآية لم تُبيِّن لنا بأيِّ اسمٍ قد خاطبه حين أمره بالسجود، فنحن إنَّما علمنا أنَّ إبليس كان ضمنَ مَن أُمر بالسجود من طريق إخبار الآية أنَّ إبليس قد أبى أنْ يسجد، فمِن ذلك علِمنا أنَّه قد أُمر بالسجود لكنَّها لم تُبيِّن بأيِّ خطابٍ وبأيِّ اسمٍ قد خاطبَه حين أمرَه بالسجود، فلعلَّه خاطبه ضمنَ خطاب الملائكة فحيثُ إنَّه كان في مصافِّهم لذلك كان الأمرُ بالسجود شاملًا له، ولعلَّه خاطبه باسمه الذي كان يُسمَّى به قبل المعصية، وعلى أيِّ تقدير فإنَّ الآية لم تُبيِّن كيفية مخاطبة الله تعالى لإبليس حين أمرَه بالسجود، نعم الآية التي تلتْ هذه الآية قد خاطبت إبليس بقوله: يا إبليس ولكن بعد أنْ عصى وأبى السجود لآدم فقال له تعالى حينذاك: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾([10]) فقوله له: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ﴾ وقع بعد أنْ عصى، فلم يمتثل الأمر بالسجود.

 

لم يخاطب القرآن إبليس بهذا الاسم قبل المعصية:

وهكذا فإنَّ جميع الآيات التي تحدَّثتْ عن عصيان إبليس للأمر بالسجود لآدم (ع) لم تُبيَّن الكيفيَّة التي خاطبَ اللهُ تعالى بها إبليس وبأيِّ اسمٍ ناداه حين أمره مع الملائكة بالسجود لآدم (ع)، فقد أورد القرآن الكريم هذه القصَّة في سبع سورٍ فمضافًا إلى الآيات المذكورة الواردة في سورة الحجر فإنَّ القرآن أورد هذه القصة في سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾([11]) وفي سورة الأعراف عند قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِين﴾([12]) وفي سورة الإسراء عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾([13]) وفي سورة الكهف عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾([14]) وفي سورة طه عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾([15]) وفي سورة ص عند قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾([16]).

 

فتمامُ هذه الآيات لم تُبيِّن الصيغة التي خاطب اللهُ تعالى بها إبليس وبأيِّ اسمِ ناداه حين أمره بالسجود، فتمامُها بصدد الإخبار عن أنَّ إبليس لم يسجد لآدم، فهي قد سمَّته إبليس في مقام الحكاية عمَّا وقع منه يعني أنَّها سمَته إبليس حيث كانت بصدد الإخبار عن عصيانه للأمر بالسجود، فلا موضع إذن للإشكال المذكور.

 

فهي أشبهُ بما لو كان المتكلِّم في مقام الحكاية عن صدور القتل من زيد رغم نهيه فيقول كنتُ قد نهيتُ القاتل عن هذه الجريمة لكنَّه لم يمتثل، فهو لا يقول أنَّه ناداه بالقاتل قبل أنْ يقتل بل هو بصدد الحكاية عن أنَّه سبق منه النهي له لكنَّه لم يمتثل وارتكب جريمة القتل، فوصفُه إيَّاه بالقاتل كان بعد صدور القتل منه حيث كان في مقام الحكاية والإخبار للآخرين بما كان منه معه.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

5 / شوال المكرم / 1442هـ

18 / مايو / 2021م


[1]- سورة الحجر / 30-31.

[2]- لسان العرب -ابن منظور- ج6 / ص29، معجم مقاييس اللغة -ابن فارس- ج1 / ص299، مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص143، الصحاح -الجوهري- ج3 / ص909.

[3]- سورة الروم / 12.

[4]- سورة الروم / 48-49.

[5]- سورة الأنعام / 44.

[6]- لسان العرب -ابن منظور- ج6 / ص29، معجم مقاييس اللغة -ابن فارس- ج1 / ص299، مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص143، الصحاح -الجوهري- ج3 / ص909.

[7]- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص65.

[8]- معاني الأخبار -الصدوق- ص138.

[9]- لاحظ المصباح المنير -الفيومي- ج1 / ص60، تفسير غريب القرآن -الطريحي- ص300، اللباب في علوم الكتاب -أبو حفص الدمشقي- ج1 / ص540.

[10]- سورة الحجر / 32.

[11]- سورة البقرة / 34.

[12]- سورة الأعراف / 11.

[13]- سورة الإسراء / 61.

[14]- سورة الكهف / 50.

[15]- سورة طه / 116.

[16]- سورة ص / 74.