من أين تعلَّم قابيل كيفية القتل

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾([1]) من أينَ تعلَّمَ قابيلُ القتلَ عندما قتلَ أخاهُ هابيل؟ وهلْ أقامَ آدَمُ (عليه السلام) الحدَّ على قابيلَ أم لا؟

 

الجواب:

إنَّ تعلُّم كيفيَّة إيقاع القتل على الآخر لا يحتاج إلى المزيد من العناية فيمكن أنْ يكون قد تعلَّم ذلك من مشاهدته للسباع وهي تقتل فرائسها فيُلاحظ الوسيلة التي تعتمدها السباع لإزهاق روح الفريسة من الأنياب والمخالب والخنق بالجثوم على الفريسة فيتَّخذ الإنسان وسائل شبيهة بوسائل السباع كالحجارة الحادَّة ووضع اليد على مجرى النفس كما أنَّ مشاهدة الإنسان للحيوان يموت حين يسقط من شاهق أو حين يصدم رأسه بصخرة أوحين يغرق في الماء أو يحترق بالنار، مشاهدته لذلك يجعله يستنتج أنَّ ذلك من أسباب الموت وزهاق الروح، فالإنسان بطبعِه وبما أودع اللهُ تعالى فيه من قوَّة الملاحظة والاستنتاج قادرٌ على الوصول لهذه النتيجة بيُسر خصوصًا وأنَّه يجد نفسه بحاجةٍ إلى تناول لحوم الحيوانات وبحاجةٍ لصدِّ المفترس منها عن نفسه، فإنَّ مثل هذه الحاجة الملحَّة تدفعُه للحرص على استكشاف كيفيَّة إزهاق أرواحها والوسائل البدائيَّة التي تُمكِّنه من ذلك ليتاح له التحصيل لغايته من تناول لحومها أو دفعها عن نفسه.

 

وممَّا يُشير إلى قدرة الإنسان الأول على التعلُّم والاستنتاج ممَّا يُشاهده من أفعال الحيوانات والتي تُمارسها بمقتضى غرائزها للوصول لحاجاتها، إنَّ ممَّا يُشير إلى ذلك ما أفاده القرآن من تعلُّم قابيل كيفيَّة الدفن لأخيه من طريق الملاحظة لما فعله الغراب بعد قتله لغرابٍ آخر مثله قال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾([2]).

 

وكيف كان فقد ورد في تفسير القمِّي بسندٍ معتبر عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعتُ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) يُحدِّثُ رجلًا من قريش، قال: لمَّا قرَّب ابنا آدم القربان، قرَّب أحدُهما أسمنَ كبشٍ كان في ضأنه، وقرَّب الآخرُ ضغثًا من سنبل، فتُقبَّل من صاحب الكبش، وهو هابيل، ولم يُتقبَّل من الآخر، فغضبَ قابيل، فقال لهابيل: والله لأقتلنَّك. فقال هابيل: ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ / لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ / إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ / فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُه قَتْلَ أَخِيه﴾([3]) فلم يدر كيف يقتلُه، حتى جاء إبليس فعلَّمه، فقال: ضعْ رأسَه بين حجرين، ثم اشدخْه. فلمَّا قتله لم يدرِ ما يصنعُ به .."([4]).

 

وورد في بعض طرق العامَّة عن بعض الصحابة أنَّ قابيل شدخ رأس أخيه بصخرة حين كان يغط في نومه([5]).

 

ونقل الطبري عن ابن جريج أنَّ إبليس علَّم قابيل كيفية القتل لأخيه بعد أن تمثَّل له في صورة طير قال ابن جريج: ابنُ آدم الذي قتل صاحبَه لم يدر كيف يقتلُه، فتمثَّل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرًا فقصع رأسَه، ثم وضعَه بين حجرين فشدخَ رأسه، فعلَّمه القتل"([6]).

 

وهذه الزيادة وهي تمثُّل إبليس لقابيل في صورة طيرٍ لم ترد في رواية الإمام زين العابدين (ع) فهي -أي ما ورد عن الإمام (ع)- لم تزد على إفادة أنَّ إبليس هو مَن علَّم قابيل كيفيَّة القتل. ثم إنَّ ذلك لا يعني أنَّ قابيل كان يجهل بمطلق وسائل القتل، فلعلَّ المقصود من قوله (ع): "فلم يدرِ كيف يقتلُه" أنَّه تحيَّر في اختيار الوسيلة المناسبة لقتله أو الوسيلة المناسبة للتمكُّن من قتله فأرشده إبليس -الذي يجري من الإنسان مجرى الدم من العروق- إلى الكيفيَّة المثلى لذلك.

 

ولعلَّ ممَّا يؤكد معرفة قابيل وكذلك هابيل لوسائل القتل أو بعض وسائله قوله لأخيه في مقام التهديد له: ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ فقوله: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ يدلُّ على أنَّ قابيل كان يعلمُ إجمالًا حين هدَّد أخاه أنَّ ثمة ما يُوجب إنهاء حياة الإنسان وأنَّه قادرٌ على التوسُّل بها لإنهاء حياة أخيه، ويدلُّ جوابُ أخيه: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ أنَّه يعلمُ بذلك أيضًا، ويدلُّ كذلك على علمه أنَّ البطش باليد وسيلةٌ لتحصيل هذه الغاية، ومن ذلك يترجَّح أنَّ تعليم إبليس لقابيل كيفيَّة القتل معناه الإرشاد إلى الوسيلة المناسبة لذلك أو الإرشاد إلى التخطيط المُوصِل للتمكُّن من الانتفاع بالوسيلة المعلومة كإرشاده إلى اغتياله وهو نائم أو غافل.

 

وأمَّا السؤال عن إقامة آدَم (عليه السلام) الحدَّ على قابيلَ بعد قتله لأخيه فإنْ كان المقصود من الحدِّ هو القصاص فالمُستفاد من بعض الروايات هو أنَّ آدم (ع) لم يقتصَّ لهابيل من قابيل، ولو ثبتَ ذلك فلعلَّه نشأ عن عدم تشريع القصاص في تلك المرحلة، نعم ورد في بعض الروايات كمعتبرة ثوير بن أبي فاختة عن زين العابدين(ع) أنَّ آدم (ع) أمر بلعنِ قابيل قال (ع): ".. وأُمر آدم أنْ يَلعنَ قابيل، ونُودي قابيل من السماء: لُعنت كما قتلتَ أخاك .."([7]).

 

ونُسب إلى سالم بن أبي الجعد أنَّه قال: ".. وأمَّا قابيل فقيل له اذهب طريدًا شريدًا فزِعًا مرعوبًا لا تأمنُ مَن تراه .."([8]).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / شوال المكرم / 1442هـ

19 / مايو / 2021م


[1]- سورة المائدة / 30.

[2]- سورة المائدة / 31.

[3]- سورة المائدة / 27-30.

[4]- سورة تفسير القمِّي -علي بن إبراهيم القمِّي- ج1 / ص165.

[5]- جامع البيان -الطبري- ج6 / ص265.

[6]- جامع البيان -الطبري- ج6 / 266.

[7]- تفسير القمِّي -علي بن إبراهيم القمِّي- ج1 / 165.

[8]- لاحظ تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج3 / ص320، تفسير الثعالبي- ج4 / ص53.