تأخُّر بيان الأحكام والمخصِّصات عن وقت الحاجة

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل يُمكن تعقُّل أنْ يصدر من النبيِّ (ص) تشريعًا عاماً مثل القصر في الصلاة للمسافر، ثم بعد مائتي عام يأتي المخصِّص من الإمام أن لا يكون سفر معصية؟ فهل ظلَّ المسلمون يسافرون ويقصرون رغم أنَّ وظيفتهم التمام؟

 

وكذلك يقول القرآن كل صيد البحر حلال ثم يأتي الإمام العسكري يُخصص هذا العموم بتحريم بعض الأصناف؟ هل استمر المسلمون يأكلون هذه المحرمات طيلة أكثر من مائتي عام؟ أو أن الإمام إنَّما قيد المباحات بوصفه ولي الأمر كما تفعل الدولة .. أي أنَّه أصدر حكما ولائيا لوجود مصلحة تناسب الناس في عصره ووجد أنَّهم يتضررون من هذه الاصناف؟

 

كيف ترك النبي (ص) الأمة بلا مخصِّصات في العديد من التشريعات وظلوا يتعبدون خلاف ما ورد فيما بعد من قبل الإمام (ع)؟ ألا ترون أن هذا يصعب تعقُّله

 

والمخرج لكل ما سبق القول أنَّ كثيرا مما صدر من الأئمة من المخصصات إنَّما هي أحكام ولائية مؤقتة، صدرت عنهم لتصحيح أوضاع اجتماعية وإصلاح المجتمع .. أو لمعالجة حالات فردية أو .. ولكن من غير المعقول أنْ يترك النبي (ص) المسلمين يتعبَّدون خطأ ولا يعرفون الحكم المخصِّص إلا بعد مائتي عام.

 

الجواب:

مبنى الإشكال خاطئ:

الإشكال مبتنٍ على أنَّ التشريع العام لهذه المسألة أو تلك صدر عن النبيِّ الكريم (ص) وسكتَ عن بيان المخصِّص لها وظلَّ المخصِّص لها مسكوتاً عنه إلى أنِّ جاء الإمام الهادي (ع) مثلًا أو الإمام العسكري (ع) بعد مائتي عام وبيَّن المخصِّص لذلك التشريع العام إلا أنَّ الأمر لم يكن كذلك غالبًا، فالنبيُّ (ص) حين بيَّن الحكم العام لهذه المسألة أو تلك تصدَّى لبيان حدودها وقيودها ومخصِّصاتها، غايته أنَّ الأمَّة لم تحفظ أو لم تفهم أو لم يصل إليها، ولذلك كانت وظيفة الأئمة (ع) من بعد النبيِّ (ص) تبليغ الأحكام بحدودها ومقيِّداتها والتي بلَّغها ولكنَّها لم تصل نظرًا لبدائية وسائل التبليغ.

 

وكذلك من وظائف الأئمة (ع) توضيح ما كان قد بيَّنه النبيِّ (ص) فلم يفهمه الناس أو لم يستوعبوه بحدوده، فلم يكن من الميسور عليهم -وهم حديثوا عهدٍ بالإسلام والشريعة- فهْمُ جميعِ ما يشغل اهتمامهم فضلًا عمَّا لم يكن يشغل اهتمامهم، كما لم يكن من الميسور عليهم الإحاطة بأحكام الشريعة التي عرضها الرسول (ص) على أنَّها خاتمة الشرائع وأنَّها للناس كافة إلى يوم الدين وهو ما يقتضي بطبعه سعة فروعها وتشعُّبها.

 

وكذلك فإنَّ الكثير من الأحكام قد بيَّنها النبيُّ (ص) فضيَّعها المسلمون إما لقصورهم عن الحفظ أو عدم اهتمامهم واشتغالهم بشؤنهم الخاصَّة أو لعدم تدوينهم للسنَّة الشريفة فنُسيت بمرور الزمن، فكان لابدَّ من وجود أئمة حفَظَة يُبينون للناس -بحسب ما تسمح به الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة- ما كان قد بيَّنه النبيُّ (ص) للناس فنسوه أو ضيَّعوه.

 

هذا وثمة الكثير من الأحكام التي بيَّنها النبيُّ (ص) قد تمَّ العبثُ بحدودها وقيودها بالحذف أو الإضافة أو الطمس لها من أساسها أو استبدالها بما يُشبهها بل وبنقيضها كلُّ ذلك انسياقًا مع مقتضيات الهوى والمصلحة الذاتية أو القبليَّة أو السياسية، وكان المتنفِّذون من أبناء هذه الأمة قد ملكوا أزمَّة الأمور فتهيأ لهم فعل ما يشاؤون من الطمس والتعمية على عوام الناس والتشويش والحذف والإضافة والتبديل والتحريف، فكان بأيديهم تعيين القضاة والرواة والمحدِّثين والخطباء والدعاة والفقهاء والمفسِّرين وأئمة الجُمُعات والجماعات وأمراء الحج وقادة الجند وعمَّال الولايات فيحجبون ما يبتغي السلطان حجبَه ويُضيفون ويحذفون ويغيرون ويبدِّلون بحسب ما يقتضيه هوى السلطان والخصومات السياسية والمذهبيَّة ويُشيعون في الناس أنَّ ذلك هو دينُ الله والمأثور عن رسول الله (ص) فكان لابدَّ من وجود أئمة حفَظَة -قد تلقوا الشريعة من معينها الصافي كابرًا عن كابر- يُصحِّحون ما انحرف ويُظهِرون ما انطمس واندرس من سنَّة الرسول (ص) فما بيَّنوه بعد مائةٍ أو مائتي سنة كان قد بيَّنه الرسول (ص) لكنَّه قد غاب عن ذاكرة الأمة أو لم يصل إلى الجيل الذي جاء بعد الجيل الأول بفعل السياسة والظروف والخصومات، فإذا كانت الناس قد وقعت فيما يُخالف الشريعة في بعض عبادتها ومعاملتها فذلك لم ينشأ عن تأخير بيان المخصِّصات والقيود بل نشأ عن عدم وصولها بسبب العوامل التي أشرنا إلى بعضها.

 

الوسائل التي اعتمدها الرسول (ص) في أداء الأحكام:

ثم إنَّ هنا أمرًا يحسن الالتفات إليه وهو أنَّ النبيَّ الكريم (ص) وإنْ كان قد تصدَّى لبيان جميع أحكام الشريعة بحدودها وقيودها، فلم يترك خطيرًا ولا حقيرًا إلا وقد أدَّاه وبيَّن حكمه، وعندها قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ﴾([1]) فالأمر وإن كان كذلك إلا أنَّ أداء النبيِّ (ص) لأحكام الشريعة قد اعتمد وسائل أربع:

 

الوسيلة الأولى: البيان العام للناس وذلك من خلال خطاباته وخطبه ومحاوراته وإجاباته على الأسئلة وقضائه ومعالجاته للقضايا التي تصادفه وكان يأمرهم بالتدوين والتفقه والحفظ ويؤكد لهم أنَّه لا يخرج من فمِه إلا ما هو حقٌّ ويأمرهم باتباعه والاستنان به والتأسِّي بما يفعل وبما يقول وبما يقرُّه.

 

الوسيلة الثانية: التصدِّي بنفسه لتدوين أحكام الشريعة بجميع تفاصيلها وتشعباتها حتى أرش الخدش كما ورد في الروايات المعتبرة والمستفيضة، فكان (ص) يُملي في خلواته الطويلة مع عليٍّ (ع) وكان عليٌّ (ع) يكتب كلَّ ما كان يُمليه عليه رسولُ الله (ص)، فكان من ذلك الجامعة طولها سبعون ذراعًا بذراع رسول (ص) كما في صحيحة أبي بصير عن أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): ".. وإِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ ومَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَامِعَةُ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ ومَا الْجَامِعَةُ قَالَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ رَسُولِ اللَّه (ص) وإِمْلَائِه مِنْ فَلْقِ فِيه وخَطِّ عَلِيٍّ بِيَمِينِه فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وحَرَامٍ وكُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه حَتَّى الأَرْشُ .."([2]).

 

وهذا الكتاب الجامع كان من الممكن أن يكون في متناول الجميع لولا الخشية من إحراقه كما أحرقوا المقدار اليسير الذي كانوا قد دوَّنوه على عهد رسول الله (ص) بذريعة الخوف من أن يشتبه بالقرآن([3]). وبذريعة أنَّ النبيَّ (ص) يقول في الرضا والغضب.

 

وكانوا قد رفضوا القبول بالقرآن الذي جمعه الإمام علي (ع) على تاريخ النزول وزعموا أنَّهم في غنىً عنه فما الذي يمنعهم من عدم القبول بهذا الكتاب الجامع الذي كتبه عليٌّ (ع) بإملاء رسول الله (ص) أو التشكيك في مصداقيته.

 

الوسيلة الثالثة: تصدِّي الرسول (ص) لتعليم الإمام عليٍّ (ع) لتمام تفاصيل الشريعة أولًا بأول فكان معه في داره طوال العهد المكِّي وكانت داره ملاصقة لداره في المدينة المنورة، وكانت له معه خلوتان طويلتان إحداهما في الليل وأخرى في النهار، يقول أمير المؤمنين (ع) كما في معتبرة سليم قيس الهلالي: ".. وقَدْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّه ص كُلَّ يَوْمٍ دَخْلَةً وكُلَّ لَيْلَةٍ دَخْلَةً فَيُخَلِّينِي فِيهَا أَدُورُ مَعَه حَيْثُ دَارَ وقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه ص أَنَّه لَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي فَرُبَّمَا كَانَ فِي بَيْتِي يَأْتِينِي رَسُولُ اللَّه (ص) أَكْثَرُ ذَلِكَ فِي بَيْتِي وكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْه بَعْضَ مَنَازِلِه أَخْلَانِي وأَقَامَ عَنِّي نِسَاءَه فَلَا يَبْقَى عِنْدَه غَيْرِي وإِذَا أَتَانِي لِلْخَلْوَةِ مَعِي فِي مَنْزِلِي لَمْ تَقُمْ عَنِّي فَاطِمَةُ ولَا أَحَدٌ مِنْ بَنِيَّ وكُنْتُ إِذَا سَأَلْتُه أَجَابَنِي وإِذَا سَكَتُّ عَنْه وفَنِيَتْ مَسَائِلِي ابْتَدَأَنِي فَمَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّه ص آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وأَمْلَاهَا عَلَيَّ فَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي وعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وتَفْسِيرَهَا ونَاسِخَهَا ومَنْسُوخَهَا ومُحْكَمَهَا ومُتَشَابِهَهَا وخَاصَّهَا وعَامَّهَا ودَعَا اللَّه أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَهَا وحِفْظَهَا فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّه ولَا عِلْمًا أَمْلَاه عَلَيَّ وكَتَبْتُه مُنْذُ دَعَا اللَّه لِي بِمَا دَعَا ومَا تَرَكَ شَيْئًا عَلَّمَه اللَّه مِنْ حَلَالٍ ولَا حَرَامٍ ولَا أَمْرٍ ولَا نَهْيٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ ولَا كِتَابٍ مُنْزَلٍ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَه مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَّمَنِيه وحَفِظْتُه فَلَمْ أَنْسَ حَرْفًا وَاحِدًا ثُمَّ وَضَعَ يَدَه عَلَى صَدْرِي ودَعَا اللَّه لِي أَنْ يَمْلأَ قَلْبِي عِلْمًا وفَهْمًا وحُكْمًا ونُورًا فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّه بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي مُنْذُ دَعَوْتَ اللَّه لِي بِمَا دَعَوْتَ لَمْ أَنْسَ شَيْئًا ولَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ لَمْ أَكْتُبْه أفَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ فَقَالَ: لَا لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ والْجَهْلَ"([4]). والروايات في هذا المعنى كثيرة.

 

وكان يختلي به طويلًا في أسفاره حتى قال الناس -كما في سنن الترمذي-: يا رسول الله: لقد طالت مناجاتك لعليٍّ؟ قال: "ما انتجيته ولكنَّ الله انتجاه"([5]).

 

وفي المعجم الكبير بسندٍ حسن عن جابر قال: لمَّا كان يوم غزوة الطائف قام النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مع علي (عليه السلام) مليًّا من النهار فقال له أبو بكر: يا رسول الله: لقد طالت مناجاتك عليًّا منذ اليوم؟فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه"([6]).

 

الوسيلة الرابعة: تصدِّي النبيِّ الكريم (ص) لتعليم عليِّ (ع) للملاكات الواقعية للأحكام وعلَّمه المقاصد الواقعيَّة للشريعة ومقاصد القرآن الكريم، فكان بذلك قادرًا على معرفة حدود الأحكام وقيودها ليس من طريق الاجتهاد والاستنباط المبتني على القواعد والاجتهادات الظنيَّة بل من طريق المعرفة الوجدانية بملاكات الأحكام وعللها الواقعية والتي كان قد تلقَّاها فمًا بفم من رسول الله (ص) وهذا هو معنى ما ورد في مثل صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: ".. عَلَّمَ رَسُولُ اللَّه (ص) عَلِيًّا (ع) أَلْفَ بَابٍ يُفْتَحُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ .."([7]).

 

وبعد هذا الإعداد الخاص بالوسائل الثلاث أعلن في الأمَّة بما يقطع العذر أنَّ عليًّا (ع) هو المرجع في تمام الشؤون بعده، فأفاد (ص) أنَّ عليًّا (ع) هو وليُّكم بعدي وهو الإمام والخليفة والوصي والمعلِّم وقال: إنِّي مخلِّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي.

 

فإذا كان الناس قد وقعوا فيما يُخالف الشريعة مائةً أو مائتي سنة أو أكثر فبسوء اختيارهم أو بظلم الظالمين فكان من الممكن أنْ تصلهم أحكام الشريعة كاملة أو عند احتياجهم لو أنَّهم امتثلوا ما رسمه لهم الرسول (ص) بتكليفٍ من الله جلَّ وعلا إلا أنَّهم لم يفعلوا فكان من تبعات هذا التمرُّد على أوامر الله وبيِّناته أنْ وقعوا في مفسدة المخالفة للكثير من أحكام الشريعة قبل أنْ يتهيأ لأهل البيت (ع) بيان ما أُتيح لهم بيانه.

 

حمل الأحكام والمخصِّصات المتأخِّرة وصولاً على الولائية خطأٌ فادح:

وأمَّا دعوى أنَّ ما ورد عن أهل البيت (ع) من أحكامٍ وقيودٍ ومخصِّصات لم تكن سوى أحكامٍ ولائية رُوعي فيها مصلحة الوقت فقد انتفى موضوعُها بما تقدَّم، وبقطع النظر عن ذلك فهي في غاية الغرابة، فكيف يصحُّ حملُ هذا الكم الهائل من الأحكام والقيود والمخصِّصات والشروط التي هي جملة ما صدر عن أهل البيت (ع) في الفقه وكان معظم ذلك بعد رحيل الرسول (ص) بأكثر من مائة سنة كيف يصحُّ حملُها على أنَّها أحكام ولائية؟!! إنَّ مقتضى هذه الدعوى هو إلغاء الفقه الوارد من طريق أهل البيت (ع) برمَّته إلا ما شذَّ وندر وهو تعبيرٌ آخر عن إلغاء السنَّة الشريفة حيثُ نعتقد أنَّ الطريق الموصِل إليها هم أهل البيت (ع) خاصَّة.

 

هذا مضافًا إلى أنَّ هذه الدعوى منافية للمتواتر عن أهل البيت (ع) من التصريح بأنَّهم إنَّما يُبينون أحكام الشريعة الخاتمة والباقية ما بقي الدهر وأنَّ مستندهم في ذلك هو كتاب الله تعالى والمأثور عندهم من سنَّة رسول الله (ص) وأنَّ ذلك الذي يُبينونه للناس هو حلال محمدٍ (ص) وحرامه إلى يوم القيامة فكيف يتَّسق ذلك مع دعوى أنَّها أحكامٌ ولائية رُوعي فيها مصلحة الوقت وتكون فاقدة للاعتبار بمضي الوقت!!.

 

وهنا نذكر عددًا يسيرًا من الروايات ومن أراد المزيد فليراجِع المجاميع الروائية مثل كتاب الوسائل كتاب القضاء من الباب الرابع إلى الباب الرابع عشر من أبواب صفات القاضي.

 

الأولى: صحيحة قُتَيْبَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَه فِيهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وكَذَا مَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا فَقَالَ لَه: مَه مَا أَجَبْتُكَ فِيه مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَنْ رَسُولِ اللَّه (ص) لَسْنَا مِنْ أرَأَيْتَ فِي شَيْءٍ"([8]). ومفاد الرواية كما هو واضحٌ أنَّ الإمام (ع) إنَّما هو مبلِّغٌ للسنَّة المأثورة عنده من رسول الله (ص) فهو إذن مبلغ للأحكام التي صدع بها الرسول (ص) والتي هي خالدة ما بقي الدهر. 

 

الثانية: موثَّقة سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (ع) قَالَ: قُلْتُ لَه: أكُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّه وسُنَّةِ نَبِيِّه (ص) أَوْ تَقُولُونَ فِيه؟ قَالَ: بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّه وسُنَّةِ نَبِيِّه (ص)"([9]). يعني كلُّ ما نُدلي به فهو من كتاب الله وسنَّة رسوله (ص) فهو إذن مما يلزم اعتماده أبدًا لأنَّه حكم الله تعالى ورسوله (ص).

 

الثالثة: موثقة سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (ع) قَالَ: ".. فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّه أَتَى رَسُولُ اللَّه (ص) النَّاسَ بِمَا يَكْتَفُونَ بِه فِي عَهْدِه قَالَ: نَعَمْ ومَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْه إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقُلْتُ: فَضَاعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَقَالَ: لَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِه"([10]) فسنَّة الرسول (ص) كلُّها بتمام تفاصيلها محفوظةٌ عند أهل البيت(ع) لم يفتهم منها شيء وأما ما عند الناس فضاع منها الكثير -كما لا يخفى- فما يبثُه أهل البيت (ع) بين الناس إنَّما هو من السنَّة المحفوظة عندهم وليس في وسعهم أنْ يبثوا بين الناس غير السنة الشريفة بعد الإقرار بأنَّ الرسول قد جاء بما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة.

 

الرابعة: رواية هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وغَيْرِه قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)، وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّه (ص)، وحَدِيثُ رَسُولِ اللَّه قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ"([11]). فإذن حديثهم في بيان الأحكام وحدودها ومخصِّصاتها هو ذاته الحديث الذي أدَّاه رسول الله (ص) عن ربِّه جلَّ وعلا والذي أمر عباده بقوله: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

 

الخامسة: موثقة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ".. فقال: والله إنّ عندنا لجلدي ماعز وضأن إملاءُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطُّ عليٍّ (عليه السلام) وإنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعًا أملاها رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وخطَّها عليٌّ (عليه السلام) بيده وإنّ فيها لجميع ما يحتاج إليه حتى أرش الخدش". فكلُّ ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة من سنَّة الرسول (ص) مخزونٌ عندهم بإملاء رسول الله (ص) وخطِّ عليٍّ (ع) فما بينوه للناس من أروش الجنايات وأحكام الضمان ومسائل البيع والخيارات وسائر المعاملات وتفاصيل أحكام الحدود والقضاء في الأموال والدماء ممَّا لم يصل للناس قبل بيانهم إنَّما أخذوه مما هو مخزونٌ عندهم من سنَّة الرسول (ص) وإلا فاقبلوا عليهم كتم السنَّة التي أراد الله تعالى لها أن تكون جارية إلى يوم القيامة!!.

 

السادسة: رواية جابر قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): إذا حدَّثتني بحديث فأسنده لي فقال: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل، عن الله تبارك وتعالى، وكلُّ ما أحدثك بهذا الإسناد"([12]). فكلُّ أحاديث الإمام (ع) هي أحاديث الرسول (ص) فلم يكن للاإمام (ع) سوى دور التبليغ فما يبلغه إذن هي شريعة خاتم المرسلين الملزِمة للناس كافَّة. 

 

السابعة: معتبرة أَبَانٍ عَنْ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: ضَلَّ عِلْمُ ابْنِ شُبْرُمَةَ عِنْدَ الْجَامِعَةِ إِمْلَاءِ رَسُولِ اللَّه (ص) وخَطِّ عَلِيٍّ (ع) بِيَدِه إِنَّ الْجَامِعَةَ لَمْ تَدَعْ لأَحَدٍ كَلَامًا فِيهَا عِلْمُ الْحَلَالِ والْحَرَامِ إِنَّ أَصْحَابَ الْقِيَاسِ طَلَبُوا الْعِلْمَ بِالْقِيَاسِ فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَّا بُعْدًا إِنَّ دِينَ اللَّه لَا يُصَابُ بِالْقِيَاسِ"([13]). فما يرد عن أهل البيت (ع) من الحلال بحدوده والحرام بحدوده هو من إملاء رسول الله (ص) لا يُعمِلون فيه رأي أوقياس.

 

الثامنة: صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْحَلَالِ والْحَرَامِ فَقَالَ: حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وحَرَامُه حَرَامٌ أَبَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ غَيْرُه ولَا يَجِيءُ غَيْرُه .."([14]). فأحكام الحلال والحرام التي يسأل عنها زرارة والتي يبثها أهل البيت (ع) في الناس هي حلال محمد (ص) وحرامه وهي جارية إلى يوم القيامة لا يصحُّ تبديلها والاستعاضة عنها بغيرها. 

 

التاسعة: قال: ما أورده السيد ابن طاووس من طريقه إلى كتاب حفص بن البختري قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك، فقال: ما سمعتَه مني فاِرْوهِ عن أبي، وما سمعتَه منِّي فارْوِه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)"([15]). فحديث الإمام (ع) هو حديث رسول الله (ص) فكانَّ المتحدِّث والمبيِّن للحكم هو رسول الله (ص).

 

العاشرة: صحيحة حَمَّادٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وفِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ"([16]). فالسنَّة مستوعبة لحاجات الناس ومطلق النوازل فما يبثه أهل البيت(ع) هو ما جاء في الكتاب المجيد وأدَّته السنَّة الشريفة.

 

الحادية عشرة: صحيحة زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "كُلُّ مَنْ تَعَدَّى السُّنَّةَ رُدَّ إلى السُّنَّةِ"([17]). فهو بذلك يؤكد أنَّه لا يتعدَّى السنَّة ولا يتجاوزها لأنَّها ملزمة أبداً ولولا أنَّها صالحة في كلِّ آن لم يكن في تجاوزها من بأس ولم يكن عليهم ردُّ الناس إليها وإيقافهم على صحيحها.

 

الثانية عشرة: رواية عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَحْتَاجُ إِلَيْه الأُمَّةُ إِلَّا أَنْزَلَه فِي كِتَابِه وبَيَّنَه لِرَسُولِه (ص) وجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا وجَعَلَ عَلَيْه دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَيْه وجَعَلَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ الْحَدَّ حَدًّا"([18]). إذن فالحدود والقيود التي بيَّنها أهل البيت (ع) هي ذاتها الحدود والقيود التي بينها الرسول (ص) وعدم وصولها إلى أنْ بيَّنوها لا يعني عدم صدورها، وإنَّما خلَّف رسول الله (ص) عترته في أمَّته ليحفظوا عليهم سنَّته التي لا يتيسَّر للناس حفظها واستيعابها والإحاطة بها والذود عنها. 

 

الثالثة عشرة: رواية سُلَيْمَانَ بْنِ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّه حَلَالًا ولَا حَرَامًا إِلَّا ولَه حَدٌّ كَحَدِّ الدَّارِ فَمَا كَانَ مِنَ الطَّرِيقِ فَهُوَ مِنَ الطَّرِيقِ ومَا كَانَ مِنَ الدَّارِ فَهُوَ مِنَ الدَّارِ حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ فَمَا سِوَاه والْجَلْدَةِ ونِصْفِ الْجَلْدَةِ"([19]). فحدود الحلال والحرام حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة هي من أمر الله تعالى وجعله وقد بيَّنها الرسول (ص) دون ريب، ومن الواضح أنَّ أكثرها لم يصل إلا من طريق أهل البيت (ع) بعد مائة عامٍ وأكثر.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

29 / ذو القعدة / 1442هـ

10 / يوليو / 2021م


[1]- سورة المائدة / 3.

[2]- الكافي -الكليني- ج1 / ص239.

[3]- تقييد العلم -الخطيب البغدادي- ص52، تذكرة الحفاظ -الذهبي- ج1 / ص5، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج5 / ص188، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج5 / ص59، جامع بيان العلم وفضله -ابن عبد البر- ج1 / ص274.

[4]- الكافي -الكليني- ج1 / ص64.

[5]- سنن الترمذي وحسَّنه -الترمذي- ج5 / ص303، السنة -ابن أبي عاصم ص 584، تاريخ بغداد -الخطيب البغدادي- ج7 / ص414.

[6]- المعجم الكبير -الطبراني- ج2 / ص186.

[7]- الكافي -الكليني- ج1 / ص239.

[8]- الكافي -الكليني- ج1 / ص58.

[9]- الكافي -الكليني- ج1 / ص62.

[10]- الكافي -الكليني- ج1 / ص57.

[11]- الكافي -الكليني- ج1 / ص53.

[12]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص97.

[13]- الكافي -الكليني- ج1 / ص57.

[14]- الكافي -الكليني- ج1 / ص58.

[15]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص104.

[16]- الكافي -الكليني- ج1 / ص59.

[17]- الكافي -الكليني- ج1 / ص71.

[18]- الكافي -الكليني- ج1 / ص59.

[19]- الكافي -الكليني- ج1 / ص59.