المراد من العلم الاجمالي والحجَّة الاجماليَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

مسألة ۸: إذا اختلف المجتهدون في الفتوى وجب الرجوع إلى الأعلم (أي الأقدر على استنباط الأحكام بأن يكون أكثر إحاطة بالمدارك وبتطبيقاتها بحيث يكون احتمال إصابة الواقع في فتاواه أقوى من احتمالها في فتاوى غيره). ولو تساووا في العلم أو لم يحرز وجود الأعلم بينهم فإن كان أحدهم أورع من غيره في الفتوى أي أكثر تثبتاً واحتياطاً في الجهات الدخيلة في الإفتاءــ تعين الرجوع إليه، وإلا كان المكلف مخيراً في تطبيق عمله على فتوى أي منهم ولا يلزمه الاحتياط بين أقوالهم إلا في المسائل التي يحصل له فيها علم إجمالي منجّز أو حجة إجمالية كذلك ـكما إذا أفتى بعضهم بوجوب القصر وبعض بوجوب التمام فانه يعلم بوجوب أحدهما عليه، أو أفتى بعضهم بصحة المعاوضة وبعض ببطلانها فإنه يعلم بحرمة التصرف في أحد العوضينـ فلا يترك مراعاة مقتضى الاحتياط فيها. (منهاج السيد السيستاني1430).

1- ما المقصود بالعلم الاجمالي المنجز والحجة الاجمالية في المسألة الثامنة؟

2- ما المقصود بالمثال (أو أفتى بعضهم بصحة المعاوضة ..) في نهاية المسألة الثامنة؟

الجواب:

المقصود من العلم الإجمالي في المقام هو العلم واليقين بثبوت شيءٍ ووجوده مع الشك في منطبَقه، ومثاله أن يعلم المكلف بوجود النجس ولكنه يشك أنَّ هذا النجس هل هو موجود في الإناء الأبيض أو الإناء الأسود، فالنجس معلوم الوجود يقيناً والشك إنَّما هو في منطبَقه ومحلِّه. والمقابل للعلم الإجمالي هو العلم التفصيلي، وهو العلم بوجود الشيء والعلم بمنطبَقه، ومثاله أن يعلم بوجود النجس ويعلم أنه في الإناء الأبيض مثلاً.

والمراد من العلم الإجمالي المنجِّز هو العلم الإجمالي المُنِتج للإلزام، ومثاله أن يعلم بأنَّه ملزم بالصلاة عند زوال الشمس من هذا اليوم ولكنه يشك أنَّ الصلاة الواجبة في ذمته هل هي قصر أو تمام أو يعلم عند زوال يوم الجمعة أنَّه مكلف بأداءِ صلاة ولكنه يشك أنَّ الصلاة الواجبة في ذمته هل هي صلاة الظهر أو الجمعة. فهذا العلم الإجمالي منجِّز أي أنَّ متعلَّقه أمر إلزامي.

ففي مثل هذا الفرض لو أفتى أحد الفقيهين بوجوب القصر وأفتى الآخر بوجوب التمام وكانا متساويين في الأعلمية والأورعية والمكلف بحسب الفرض يعلم إجمالاً بوجوب صلاةٍ عليه إما قصر وإما تمام فوظيفته بحسب مفاد المسألة المذكورة هي الاحتياط، والاحتياط في المقام يكون بالجمع في الأداء بني القصر والتمام.

وأما المراد من الحجَّة الإجماليَّة فهي العلم التعبُّدي الإجمالي، فالتكليف الإلزامي قد يكون معلوماً يقيناً كالعلم بوجوب صلاة في ظهر كلِّ يوم فإذا شك أنها قصر أو تمام فهو علم ويقين إجمالي، وقد لا يكون المكلَّف عالماً يقيناً بالتكليف الإلزامي ولكنه يعلم بالتكليف تعبُّداً، ومثاله لو قامت البينة بدخول شهر رمضان المبارك، فهنا يحصل العلم للمكلَّف بوجوب صوم أول يومٍ عليه إلا أنَّ هذا العلم ليس علماً يقينيَّاً وذلك لاحتمال خطأ البينة ولكنه علم تعبُّدي لأنَّ الشارع قد اعتبر البيِّنة حجةً ونَّزلها منزلة العلم، فمؤدى البيِّنة لذلك علم تعبدي، وهذا هو معنى الحجَّة ثم ان العلم التعبدي "الحجة" في هذا المثال علم تعبُّدي تفصيلي أي أنه حجَّة تفصيلية لأن مؤداها وجوب صوم يومٍ بعينه. وقد تكون الحجة إجمالية كما لو كان مؤدى ما جعله الشارع حجَّةً وعلماً تعبّداً مقتضياً لدوران التكليف الإلزامي بين أمرين لا يعلم أيَّهما هو منطبَق ذلك التكليف.

ومثاله ما لو أفتى أحد الفقيهين -الواقعين في دائرة الأعلمية- بصحة البيع المعاطاتي وأفتى الآخر بفساد البيع المعاطاتي، فحيث أنَّ فتوى كلا الفقيهين قد اعتبرها الشارع -بحسب الفرض- حجةً وعلماً تعبُّداً في حق المكلَّف لذلك يحصل للمكلف العامي علم إجمالي تعبُّدي بحرمة التصرُّف في أحد العوضين إما المبيع أو الثمن.

فلو أنَّ المكلَّف العامي باع داره من آخر بيعاً معاطاتياً أي دون أن يقول للمشتري "بعتُك" فيجيب المشتري بقوله "قبلت". فهذه المعاوضة "البيع" صحيحة بناءً على فتوى الفقيه الأول وفاسدة بناءً على فتوى الفقيه الثاني، والمفروض أنَّ فتوى كلٍّ منهما حجة في حق المكلف العامي لافتراضهما متساويين في الأعلمية.

لذلك يحصل للمكلَّف علم إجمالي تعبُّدي بحرمة التصرُّف في أحد العوضين، فبناءً على صحَّة المعاملة يكون تصرُّف البائع في المبيع "الدار" محرماً لأنه تصرفٌ في ملك المشتري لأن المشري قد ملك الدار بالبيع بناء على صحة المعاملة.

وبناءً على فساد المعاملة يكون تصرُّفُ البائع في الثمن محرَّماً لأنَّه لا زال على ملك المشتري، فهو لم ينتقل إليه بالبيع لأنَّه باطل بحسب الفرض فالتصرُّف فيه تصرف في ملك الغير.

فالمكلف العامي وهو البائع يعلم تعبُّداً بحرمة تصرفه إما في الدار التي كان يملكها أو في الثمن الذي قبضه من المشتري، فحرمة التصرف في أحد العوضين معلوم تعبداً بنحو العلم الإجمالي التعبدي المعبَّر عنه بالحجة الإجمالية.

والاحتياط في مثل هذا الفرض إما بتجديد العقد وجعله عقداً لفظياً لأنَّ كلا الفقيهين يُفتيان بصحة العقد اللفظي أو بالتقايل بأن يُقيل كلٌّ منهما الآخر عن طيبٍ من نفسه فيسترجع البائع داره ويسترجع المشتري الثمن الذي دفعه أو بتمليك كلٍّ منهما ما انتقل عنه إلى الآخر بأحد أنحاء التمليك المعتبرة كالهبة مثلاً.

وبما ذكرناه اتضح جواب السؤال الثاني فالمراد من المعاوضة هي العقد الذي يترتب عليه نقل الملكية لآخر في مقابل عوض كالبيع والإجارة والهبة المعوضة.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

30 / اكتوبر/ 2011م