تفنيد دعوى أنَّ الماء كان موفورًا قبل العاشر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم

ذكر أحدهم مقالًا فحواه أنَّ الحسين (ع) وأهله لم يكونوا عطاشى لثلاثة أيام كما هو متعارف، واستدلَّ على بحثه بمصادر من الكتب الموثوقة كالصدوق والمفيد والمقاتل المتقدِّمة .. وأنَّ الماء كان متوفِّرًا فاغتسل واستخدم النورة ليحلق وأنَّه صبَّ الماء على أخته زينب حينما أُغمى عليها، وهو يُقِرُّ أنَّ هنالك عطش ظهيرة عاشوراء نتيجة منع الماء والحرب والصحراء والأعداء لكن ليس لثلاثة أيام وبتلك الصورة المنتشرة. فما هو ردُّكم؟

 

الجواب:

دعوى أنَّ الماء كان موفورًا في مخيَّمات الإمام الحسين (ع) وأصحابه وأنَّ العطش إنَّما أصابهم عند ظهيرة يوم العاشر، هذه الدعوى لا تصح، وتمهيدًا للجواب عن الشواهد الثلاثة التي استندتْ إليها الدعوى نذكرُ عددًا من المقدِّمات نُشير فيها إلى الوقائع المتِّصلة بهذا الشأن:

 

المنع من الماء قبل المقتل بثلاثة أيَّام:

المقدمة الأولى: إنَّ المعسكر الأموي منعَ الإمام الحسين (ع) وأصحابه من الماء قبل مقتل الحسين (ع) بثلاثة أيام، وذلك بعد أنْ صدر مرسومٌ من عبيد الله بن زياد يأمرُ فيه عمر بن سعد قائد الجيش الأموي بفرض طوقٍ مشدَّد على الفرات حتى لا يتمكَّن الحسين (ع) وأصحابه ليس من التزوُّد بالماء وحسب بل حتى لا يتاح لهم أنْ يذوقوا منه قطرة، فامتثل عمر بن سعد للأمر فبعث قطعةً من جيشه وأمرَهم بالمرابطة على الشريعة ليلَ نهار ليحولوا بين الحسين (ع) وأصحابِه وبين الماء، فكان أثرُ ذلك أنْ أضرَّ العطشُ بالحسين (ع) وبمَن معه.

 

ولتوثيق ذلك نذكر عددًا من النصوص:

النص الأول: ما أورده الطبري في تاريخه قال: جاءَ مِن عُبَيدِ اللَّهِ بنِ زِيادٍ كِتابٌ إلى عُمَرَ بنِ سَعدٍ: أمّا بَعدُ، فَحُل بَينَ الحُسَينِ وأصحابِهِ وبَينَ الماءِ، ولا يَذوقوا مِنهُ قَطرَةً، كَما صُنِعَ بِالتَّقِيِّ الزَّكِيِّ المَظلومِ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ بنِ عَفّانَ.

 

قالَ: فَبَعَثَ عُمَرُ بنُ سَعدٍ عَمرَو بنَ الحَجّاجِ عَلى خَمسِمِئَةِ فارِسٍ، فَنَزَلوا عَلَى الشَّريعَةِ، وحالوا بَينَ حُسَينٍ (عليه السّلام) وأصحابِهِ وبَينَ الماءِ أن يُسقَوا مِنهُ قَطرَةً، وذلِكَ قَبلَ قَتلِ الحُسَينِ (عليه السّلام) بِثَلاثٍ([1]).

 

النص الثاني: ما أورده ابنُ قتيبة الدينوري في الأخبار الطوال قال: وَرَدَ كِتابُ ابنِ زِيادٍ عَلى عُمَرَ بنِ سَعدٍ أنِ امنَعِ الحُسَينَ وأصحابَهُ الماءَ، فَلا يَذوقوا مِنهُ حُسوَةً، كَما فَعَلوا بِالتَّقِيِّ عُثمانَ بنِ عَفّانَ.

 

فَلَمّا وَرَدَ عَلى عُمَرَ بنِ سَعدٍ ذلِكَ أمَرَ عَمرَو بنَ الحَجّاجِ أن يَسيرَ في خَمسِمِئَةِ راكِبٍ، فَيُنيخَ عَلَى الشَّريعَةِ، ويَحولوا بَينَ الحُسَينِ (عليه السّلام) وأصحابِهِ وبَينَ الماءِ، وذلِكَ قَبلَ مَقتَلِهِ بِثَلاثَةِ أيّامٍ، فَمَكَثَ أصحابُ الحُسَينِ (عليه السّلام) عَطاشى"([2]).

 

النص الثالث: ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف قال: وجاء كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد: أنْ حُل بين حسين وأصحابِه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرةً كما صُنع بالتقي الزكي المظلوم عثمان، فبعث عمر بن سعد خمس مائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه ومنعوهم أن يستقوا منه، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام([3]).

 

النص الرابع: ما أورده الشيخ المفيد في الإرشاد قال: وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى عمر بن سعد: أنْ حُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرةً، كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان، فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام .."([4]).

 

النص الخامس: ما أورده الخوارزمي في مقتل الحسين (ع) قال: ".. ورجعت تلك الخيل حتى نزلتْ على الفرات، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فأضرَّ العطشُ بالحسين وبمَن معه"([5]).

 

حفرُ بئرٍ خلف مخيَّم النساء:

المقدمة الثانية: حين أضرَّ العطشُ بالإمام الحسين (ع) وأصحابه بعد تطويق الفرات والحيلولة بينهم وبين الوصول إليه أمَرَ الإمامُ الحسين (ع) أصحابَه -كما أفاد ذلك عددٌ من المؤرِّخين- أنْ يحفروا بئرًا خلفَ المخيَّم فنبعتْ منه عينٌ فشربوا واستقوا ثم ما لبثتْ أنْ غارت، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فأرسل إلى عمر بن سعد أنْ يشدِّد الحصار على الحسين (ع) وأصحابه ويمنعهم من حفر الآبار، وهكذا فعلَ عمر بن سعد.

 

ولتوثيق ذلك أنقل لكم نصَّين:

النص الأول: ما أورده ابن أعثم في كتابه الفتوح قال: "ثم إنَّ ابن زياد كتب إلى عمر بن سعد: أمَّا بعد، فقد بلغني أنَّ الحسين يشرب الماء هو وأولاده وقد حفروا الآبار ونصبوا الأعلام، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيِّق عليهم، ولا تدعْهم يشربوا من ماء الفرات قطرةً واحدة، وافعل بهم كما فعلوا بالتقي النقي عثمان بن عفان -والسلام- قال: فعندها ضيَّق عليهم عمر بن سعد غاية التضييق .. فاشتدَّ العطشُ من الحسين وأصحابه وكادوا أنْ يموتوا عطشا"([6]).

 

النص الثاني: ما أورده الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين (ع) قال: ".. رَجَعَت تِلكَ الخَيلُ حَتّى نَزَلَت عَلَى الفُراتِ، وحالوا بَينَ الحُسَينِ (عليه السّلام) وأصحابِهِ وبَينَ الماءِ، فَأَضَرَّ العَطَشُ بِالحُسَينِ (عليه السّلام) وبِمَن مَعَهُ، فَأَخَذَ الحُسَينُ (عليه السّلام) فَأسًا وجاءَ إلى وَراءِ خَيمَةِ النِّساءِ، فَخَطا عَلَى الأَرضِ تِسعَ عَشرَةَ خُطوَةً نَحوَ القِبلَةِ، ثُمَّ احتَفَرَ هُنالِكَ، فَنَبَعَت لَهُ هُناكَ عَينٌ مِنَ الماءِ العَذبِ، فَشَرِبَ الحُسَينُ (عليه السّلام) وشَرِبَ النّاسُ بِأَجمَعِهِم، ومَلَؤوا أسقِيَتَهُم، ثُمَّ غارَتِ العَينُ، فَلَم يُرَ لَها أثَرٌ.

 

وبَلَغَ ذلِكَ عُبَيدَ اللَّهِ، فَكَتَبَ إلى عُمَرَ بنِ سَعدٍ: بَلَغَني أنَّ الحُسَينَ يَحفِرُ الآبارَ، ويُصيبُ الماءَ، فَيَشرَبُ هُوَ وأصحابُهُ، فَانظُر إذا وَرَدَ عَلَيكَ كِتابي فَامنَعهُم مِن حَفرِ الآبارِ مَا استَطَعتَ، وضَيِّق عَلَيهِم، ولا تَدَعهُم أن يَذوقوا مِنَ الماءِ قَطرَةً، وَافعَل بِهِم كَما فَعَلوا بِالزَّكِيِّ عُثمانَ وَالسَّلامُ. فَضَيَّقَ عَلَيهِمُ ابنُ سَعدٍ غايَةَ التَّضييقِ"([7]).

 

أصحابُ الحسين (ع) يخوضون معركةً على الماء:

المقدِّمة الثالثة: بعد أنْ اشتدَّ الحصار على معسكر الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه وضاق بهم الخناق حتى كادوا يموتون عطشًا على حدِّ تعبير ابن أعثم في الفتوح لجأ الإمام الحسين (ع) إلى وسيلةٍ أخرى للوصول إلى الماء، وهي أنْ يخوض معركةً مع الموكَّلين بتطويق الفرات، فبعث لذلك أخاه العباس ليلًا على رأس ثلاثين فارسًا وعشرين راجلًا، ومعهم عشرين قربة، فاشتبك بعضُهم بالفرسان الموكَّلين بالفرات وشاغلوهم، واقتحم آخرون الفرات وملأوا القرب ورجعوا ظافرين، وقد نصَّ على هذه الواقعة أكثرُ -إنْ لم يكن جميع- المؤرِّخين ممَّن أرَّخ لمقتل الحسين (ع)، ولتوثيق ذلك ننقل عددًا من النصوص:

 

النص الأول: ما أورده ابنُ قتيبة الدينوري في الأخبار الطوال، قال: "ولَمَّا اشتَدَّ بِالحُسَينِ (عليه السّلام) وأصحابِهِ العَطَشُ أمَرَ أخاهُ العَبّاسَ بنَ عَلِيٍّ (ع) .. أن يَمضِيَ في ثَلاثينَ فارِسًا وعِشرينَ راجِلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ قِربَةٌ حَتّى يَأتُوا الماءَ، فَيُحارِبوا مَن حالَ بَينَهُم وبَينَهُ، فَمَضَى العَبّاسُ (عليه السّلام) نَحوَ الماءِ، وأمامَهُم نافِعُ بنُ هِلالٍ حَتّى دَنَوا مِنَ الشَّريعَةِ، فَمَنَعَهُم عَمرُو بنُ الحَجّاجِ، فَجالَدَهُمُ العَبّاسُ (عليه السّلام) عَلَى الشَّريعَةِ بِمَن مَعَهُ حَتّى أزالوهُم عَنها، وَاقتَحَمَ رَجّالَةُ الحُسَينِ (عليه السّلام) الماءَ، فَمَلَؤوا قِرَبَهُم، ووَقَفَ العَبّاسُ عليه السّلام في أصحابِهِ يَذُبّونَ عَنهُم، حَتّى أوصَلُوا الماءَ إلى عَسكَرِ الحُسَينِ (عليه السّلام)"([8]).

 

النص الثاني: ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف قال: "فلما اشتدَّ على الحسين العطشُ بعثَ العباسَ بن علي بن أبي طالب .. في ثلاثين فارسًا وعشرين راجلًا، وبعثَ معهم بعشرين قربة فجاؤوا حتى دنوا من الشريعة، واستقدم أمامهم نافع ابن هلال المرادي ثم الجملي فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي -وكان على منع الماء-: مَن الرجل؟ قال: نافع بن هلال .. فأمر -نافع بن هلال- أصحابه باقتحام الماء ليملئوا قربهم فثارَ إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابُه فحمل عليهم العباس ونافع بن هلال فدفعوهم ثم انصرفوا إلى رحالهم وقد ملأوا قِربهم. ويُقال إنَّهم حالوا بينهم وبين ملئها فانصرفوا بشيءٍ يسير من الماء"([9]).

 

النص الثالث: ما أورده الطبري في تاريخه قال: "لَمَّا اشتَدَّ عَلَى الحُسَينِ وأصحابِهِ العَطَشُ، دَعَا العَبّاسَ بنَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ أخاهُ، فَبَعَثَهُ في ثَلاثينَ فارِسًا وعِشرينَ راجِلًا، وبَعَثَ مَعَهُم بِعِشرينَ قِربَةً، فَجاؤوا حَتّى دَنَوا مِنَ الماءِ لَيلًا، وَاستَقدَمَ أمامَهُم بِاللِّواءِ نافِعُ بنُ هِلالٍ الجَمَلِيُّ.

 

فَقالَ عَمرُو بنُ الحَجّاجِ الزُّبَيدِيُّ: مَنِ الرَّجُلُ؟ .. فَقالَ: ما جاءَ بِكَ؟ قالَ: جِئنا نَشرَبُ مِن هذَا الماءِ الَّذي حَلَّأتُمونا عَنهُ .. فَقالَ: لا سَبيلَ إلى سَقيِ هؤُلاءِ، إنَّما وُضِعنا بِهذَا المَكانِ لِنَمنَعَهُمُ الماءَ.

 

فَلَمّا دَنا مِنهُ أصحابُهُ قالَ -نافع- لِرِجالِهِ: املَؤوا قِرَبَكُم، فَشَدَّ الرَّجّالَةُ فَمَلَؤوا قِرَبَهُم، وثارَ إلَيهِم عَمرُو بنُ الحَجّاجِ وأصحابُهُ، فَحَمَلَ عَلَيهِمُ العَبّاسُ بنُ عَلِيٍّ (ع) ونافِعُ بنُ هِلالٍ، فَكَفّوهُم، ثُمَّ انصَرَفوا إلى رِحالِهِم .. وجاءَ أصحابُ حُسَينٍ (عليه السّلام) بِالقِرَبِ، فَأَدخَلوها عَلَيهِ([10]).

 

النص الرابع: ما أورده أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين، قال: "لمَّا اشتدَّ العطشُ على الحسين دعا أخاه العباس بن علي فبعثه في ثلاثين راكبًا وثلاثين راجلًا، وبعث معه بعشرين قِربة فجاءوا حتى دنوا من الماء فاستقدم أمامَهم نافعَ بن هلال الجملي، فقال له عمرو بن الحجاج: مَن الرجل؟ قال: نافع بن هلال .. فقال له عمرو: لا سبيل إلى ما أردتُم إنَّما وضعونا بهذا المكان لنمنعكم من الماء، فلمَّا دنا منه أصحابُه قال للرجالة: املؤوا قِرَبكم فشدَّت الرجَّالة فدخلت الشريعة فملؤوا قِربَهم ثم خرجوا ونازعهم عمرو بن الحجاج وأصحابُه فحمَلَ عليهم العباس بن علي ونافع بن هلال الجملي جميعا فكشفوه ثم انصرفوا إلى رحالِهم، وقالوا للرجَّالة: انصرفوا، فجاء أصحابُ الحسين (ع) بالقِرَب حتى أدخلوها عليه"([11]).

 

النص الخامس: ما أورده الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين (ع) قال: ودَعا -ابنُ سَعدٍ- بِرَجُلٍ يُقالُ لَهُ: عَمرُو بنُ الحَجّاجِ الزُّبَيدِيُّ، فَضَمَّ إلَيهِ خَيلًا كَثيرَةً، وأمَرَهُ أن يَنزِلَ عَلَى الشَّريعَةِ الَّتي هِيَ حِذاءَ مُعَسكَرِ الحُسَينِ (عليه السّلام)، فَنَزَلَتِ الخَيلُ عَلَى شَريعَةِ الماءِ.

 

فَلَمَّا اشتَدَّ العَطَشُ بِالحُسَينِ (عليه السّلام) وأصحابِهِ دَعا أخاهُ العَبّاسَ (عليه السّلام)، وضَمَّ إلَيهِ ثَلاثينَ فارِسًا وعِشرينَ راجِلًا، وبَعَثَ مَعَهُم عِشرينَ قِربَةً في جَوفِ اللَّيلِ حَتّى دَنَوا مِنَ الفُراتِ .. فَصاحَ هِلالٌ بِأَصحابِهِ ودَخَلُوا الفُراتَ، وصاحَ عَمرٌو بِأَصحابِهِ لِيَمنَعوا، فَاقتَتَلَ القَومُ عَلَى الماءِ قِتالًا شَديدًا، فَكانَ قَومٌ يُقاتِلونَ وقَومٌ يَملَؤونَ القِرَبَ حَتّى مَلَؤوها .. ثُمَّ رَجَعَ القَومُ إلى مُعَسكَرِهِم بِالماءِ، فَشَرِبَ الحُسَينُ (عليه السّلام) ومَن كانَ مَعَهُ .."([12]).

 

عدد أفراد من كان في معسكر الحسين (ع):

المقدِّمة الرابعة: إنَّ عدد أفراد المقاتلين في معسكر الحسين (ع) بناءً على أقلِّ التقادير اثنان وسبعون مقاتلًا، وأنهى بعضُهم العدد إلى اثنين وثمانين مقاتلًا، وذكر ابنُ نما الحلِّي -في مثير الأحزان- وغيرُه أنهم كانوا خمسة وأربعين فارسًا ومائة راجل وهو قول الأشهر -ظاهرًا- وقيل سبعين فارساً ومائة راجل([13]).

 

فإذا أضفنا إلى هذا العدد ما يضمُّه المعسكر من نساء بني هاشم وأطفالهم ونساء بعض الأنصار والإماء والموالي الذين لم يشاركوا في القتال فإنَّ العدد سوف يتضاعف أو يقترب من الضعف أو يزيد، هذا مضافًا إلى أنَّ معسكر الحسين (ع) يضمُّ -على أقلِّ التقادير- ما يقرب أو يزيد على أربعين فرسًا ومثل هذا العدد أو يزيد عليه من الإبل، وكلُّ هؤلاء يحتاجون إلى الماء على نحو الدوام خصوصًا وأنَّهم في العراء ولفح الهجير ولهيب الشمس.

 

المتحصَّل من المقدِّمات الأربع:

ومع اتِّضاح هذه المقدِّمات كيف يصحُّ أنْ يُقال إنَّ الماء كان موفورًا في مخيَّمات الحسين (ع) إلى اليوم العاشر وأنَّ العطش إنَّما أصابَهم في ظهيرة يوم العاشر؟!! كيف يصحُّ ذلك وقد صرَّح المؤرِّخون من الفريقين أنَّ العطش قد اشتدَّ على الحسين (ع) وأصحابه ومَن معه بعد الحيلولة بينهم وبين الماء وأنَّه قد أضرَّ بهم، وأنّه قد بلغ منهم مبلغًا أشرفوا فيه على الهلاك، وبقطع النظر عمَّا صرَّح به عامَّةُ المؤرِّخين من الفريقين فإنَّ مقتضيات الأحوال تُفضي إلى هذه النتيجة -وهي اشتداد العطش بهم- فإذا كانوا قد مُنعوا من الماء قبل مقتل الحسين (ع) بثلاثة أيام فمعنى ذلك أنَّ المنع قد تمَّ في اليوم السابع من المحرَّم، فلنفترض أنَّهم قد تبلَّغوا بما كان لديهم من ماء فإنَّ ذلك لن يمتدَّ لأكثر من يومٍ واحد على أحسن التقادير نظرًا لكون الحاجة إلى الماء -لهم ولنسائهم وأطفالهم ودوابَّهم- ماسَّة ومتشعِّبة، ولذلك لم يمضِ وقتٌ طويل حتى اشتدَّ العطشُ بهم فلجأوا إلى حفر بئرٍ خلف مخيَّم النساء فاستنبطوا منه عينًا فشربوا منه واستقوا ثم ما لبثتْ أنْ غارت، فلولا حاجتهم الملحَّة للماء لما تجشَّموا عناء الحفر للبئر، ورغم ذلك فإنَّه حين بلغ عبيدَ الله بن زياد أنَّ أصحاب الحسين (ع) احتفروا بئرًا أمر بتشديد الحصار عليهم ومنعهم من حفر الآبار، وذلك هو ما وقع.

 

فأصاب من ذلك الحسين (ع) ومَن معه نصَبٌ وعطشٌ شديد حتى أضرَّ بهم -كما صرَّح بذلك عامَّة المؤرِّخين- ولهذا اضطرَّ الإمامُ الحسين (ع) أنْ يخوض معركة للوصول إلى الفرات عبأ لها أكثرَ مَن كان معه من المقاتلين، وكانت المحصِّلة لهذه المعركة عشرين قربة يعني -على أحسن التقادير- أربعمائة لترٍ من الماء لو قسمتها على معسكر الحسين (ع) بنسائه وأطفاله ودوابِّه لم يصفُ لكلِّ واحدٍ منهم لترٌ من ماء، فكم من الوقت سيظلُّ أثرُ هذا الماء الذي شربوه على ظمأ؟ وماذا عن سائر الحاجات والدواب التي كانوا بأمسِّ الحاجة إليها للحرب والتموين؟

 

وخلاصة القول: إنَّه لم يدَّع أحدٌ أنَّ الحسين (ع) ومَن كان معه لم يذوقوا الماء خلال الثلاثة أو الأربعة أيَّام التي مُنعوا فيها من الماء، إذ لابدَّ أن يكون شيءٌ من ماء موجودًا في المخيَّمات حين صدر الأمر بالمنع، فهذا المقدار قد تبلَّغوا به لوقتٍ يسير فما لبث أنْ نفد وعندها أصابهم العطش وبمرور الوقت اشتدَّ بهم فلجأوا إلى حفر البئر- بناءً على ما ذكره بعضُ المؤرخين- فحصلوا منه على شيءٍ من ماء تبلَّغوا به لوقتٍ يسير ثم عاود إليهم العطش وبلغ منهم مبلغًا شديدًا -كما صرَّح بذلك عامَّة المؤرِّخين- فلجأوا إلى خوض معركةٍ كانت المحصَّلة منها عشرين قِربة من ماء لو قسمتها على المعسكر بنسائه وأطفاله ودوابِّه لم يَفِ هذا المقدار لساعة دون أن ينفد وكان ذلك ليلة العاشر يعني بعد أن صارعوا العطش ليومين على أقلِّ تقدير.

 

وعليه فدعوى أنَّ الماء كان موفورًا وأنَّ العطش إنَّما أصابهم ظهيرة اليوم العاشر تفتقد لأبسط مقوِّمات البحث الموضوعي.

 

مناقشة الشواهد الثلاثة:

وأمَّا الاستناد لإثبات هذه الدعوى على الشواهد الثلاث المذكورة فنجيبُ عن كلِّ شاهدٍ منها على حدة

 

صبُّ الماء على وجه السيِّدة زينب (ع):

ونبدأ بما أوردَه بعضُ المؤرِّخين من أنَّ الإمام الحسين (ع) صبَّ على وجه السيدة زينب (ع) الماء ليلة العاشر حين أُغميَ عليها

 

أورد ذلك مثلُ الطبري في تاريخه بسنده عن الإمام زين العابدين (ع) قال: "إنّي جالِسٌ في تِلكَ العَشِيَّةِ الَّتي قُتِلَ أبي صَبيحَتَها، وعَمَّتي زَينَبُ عِندَي تُمَرِّضُني، إذِ اعتَزَلَ أبي بِأَصحابِهِ في خِباءٍ لَهُ، وعِندَهُ حُوَيٌّ مَولى أبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ، وهُوَ يُعالِجُ سَيفَهُ ويُصلِحُهُ، وأبي يَقولُ:

 

يا دَهرُ أفٍّ لَكَ مِن خَليلِ ** كَم لَكَ بِالإِشراقِ وَالأَصيلِ

مِن صاحِبٍ أو طالِبٍ قَتيلِ ** وَالدَّهرُ لا يَقنَعُ بِالبَديلِ

وإنَّمَا الأَمرُ إلَى الجَليلِ ** وكُلُّ حَيٍّ سالِكُ السَّبيلِ

 

فَعَلِمتُ أنَّ البَلاءَ قَد نَزَلَ، فَأَمّا عَمَّتي فَإِنَّها سَمِعَتْ ما سَمِعتُ .. فَقالَت: وَاثُكْلاه لَيتَ المَوتَ أعدَمَنِي الحَياةَ.. قالَ: فَنَظَرَ إلَيهَا الحُسَينُ (ع) فَقالَ: يا اُخَيَّةُ، لا يُذهِبَنَّ حِلمَكِ الشَّيطانُ.

 

قالَت: بِأَبي أنتَ وامّي يا أبا عَبدِ اللَّهِ، استَقتَلتَ نَفسي فِداكَ، فَرَدَّ غُصَّتَهُ، وتَرَقرَقَت عَيناهُ، وقالَ: لَو تُرِكَ القَطا لَيلًا لَنامَ، قالَت: يا وَيلَتى، أفَتُغصَبُ نَفسُكَ اغتِصابًا، فَذلِكَ أقرَحُ لِقَلبي، وأشَدُّ عَلى نَفسي .. وخَرَّت مَغشِيًّا عَلَيها. فَقامَ إلَيهَا الحُسَينُ (ع) فَصَبَّ عَلى وَجهِهَا الماءَ .."([14]).

 

فقوله: "فَصَبَّ عَلى وَجهِهَا الماءَ" فيه دلالة على أنَّ الماء كان موجودًا في مخيَّمات الحسين (ع) ليلة العاشر

 

مناقشة الشاهد الأول: 

والجواب:

أولًا: إنَّ الرواية ذاتها أوردها أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين عن الإمام زين العابدين (ع) إلا أنَّها لم تشتمل على فقرة: "فَصَبَّ عَلى وَجهِهَا الماءَ" بل أفادت أنَّه بعد أنْ أغشي عليها ظلَّ (ع) يناشدُها واحتملها حتى أدخلها الخباء.

 

قال -بعد أنْ ذكر الرواية بطولها-: ".. وأمّا عَمَّتي فَسَمِعَتْهُ دونَ النِّساءِ، فَلَزِمَتهَا الرِّقَّةُ وَالجَزَعُ، فَشَقَّت ثَوبَها، ولَطَمَت وَجهَها .. لَيتَ المَوتَ أعدَمَنِي الحَياةَ، فَقالَ لَها الحُسَينُ (عليه السّلام): يا أختي لَو تُرِكَ القَطا لَنامَ.

 

قالَت: فَإِنَّما تُغتَصَبُ نَفسُكَ اغتِصابًا، فَذاكَ أطوَلُ لِحُزني، وأشجى لِقَلبي، وخَرَّت مَغشِيًّا عَلَيها، فَلَم يَزَل يُناشِدُها، وَاحتَمَلَها حَتّى أدخَلَهَا الخِباءَ"([15]).

 

وكذلك أورد البلاذري في أنساب الأشراف ذات الرواية عن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ولم يذكر أنَّه أغشي عليها فصبَّ عليها الماء

 

قال بعد أنْ أورد الرواية بطولها: ".. وسَمِعَتها -أي الأبيات- زَينَبُ بِنتُ عَلِيٍّ (عليها السّلام)، فَنَهَضَت إلَيهِ تَجُرُّ ثَوبَها وهِيَ تَقولُ: واثُكلاه! لَيتَ المَوتَ أعدَمَنِي الحَياةَ .. فَقالَ الحُسَينُ (عليه السّلام): يا أُخَيَّةُ، لا يُذهِبَنَّ حِلمَكِ الشَّيطانُ.

 

قالَت: أتَغتَصِبُ نَفسَكَ اغتِصابًا؟! ثُمَّ لَطَمَت وَجهَها، وشَقَّت جَيبَها، وهُوَ يُعَزّيها ويُصَبِّرُها([16]).

 

وعليه لا يُمكن التثبُّت من وجود فقرة: "فَصَبَّ عَلى وَجهِهَا الماءَ" لاختلاف الرواة فيما هو المنقول عن الإمام زين العابدين (ع) ولا سبيل لترجيح أحد النقلين على الآخر بعد أن كان كلا طرقيه مجهولًا.

 

وثانيًا: إنَّ عددًا من المؤرِّخين -كابن أعثم في الفتوح، والخوارزمي في مقتل الحسين (ع)، وابن نما الحلِّي في مثير الأحزان، والسيِّد ابن طاووس في اللهوف- نقلوا ذات الواقعة إلا أنَّ مقتضى ما أفادوه هو أنَّها لم تحدث في ليلة العاشر بل حدثتْ في الليلة التي تلَتْ نزول الإمام الحسين (ع) أرضَ كربلاء، ومعنى ذلك أنَّ الواقعة حدثتْ في ليلة الثالث من المحرَّم حين كان الماء موفورًا ولم يُفرض المنع للماء على معسكر الحسين (ع).

 

قال ابنُ أعثم في كتابه الفتوح عند: "ذكر نزول الحسين (ع) بكربلاء، فقال الحسين لأصحابه: انزلوا هذا موضعُ كربٍ وبلاء، ههنا مناخُ ركابنا ومحطُّ رحالنا وسفك دمائنا. قال: فنزل القومُ وحطُّوا الأثقال ناحية من الفرات، وضُربت خيمةُ الحسين لأهله وبنيه، وضَرب عشيرتُه خيامَهم من حول خيمتِه، وجلس الحسينُ وأنشأ يقول:

 

يا دهر أفٍ لك من خليل ** كم لك بالإشراقِ والأصيل

قال: وسمعتْ ذلك أختُ الحسين زينب .. فقال زينب: وا ثكلاه ليت الموت أعدَمني الحياة .."([17]).

 

وعليه لا يصحُّ الاستدلال بخبر صبِّ الماء في وجه السيدة زينب (ع) على وجود الماء في المخيَّمات بعد فرض الحصار، وذلك لاختلاف الناقلين للخبر في وقت حدوثه، فلعلَّ الواقع هو حدوثه ليلة الثالث من المحرَّم، ولا سبيل لترجيح أحد النقلين على الآخر بعد أنْ كان كلا طريقي الخبر مجهولًا، وقبول الخبر فيما عدا مورد الاختلاف إنَّما يعتمد على تجميع القرائن.

 

ثالثًا: لو تمَّ القبول جدلًا أنَّ الواقعة -أعني صبَّ الماء- حدثتْ في ليلة العاشر فإنَّ ذلك لا يصلحُ للدلالة على أنَّ الماء كان موفورًا في المخيَّمات بعد الحصار الذي بدأ في اليوم السابع، فلعلَّ هذا الماء ممَّا تمَّ جلبُه ليلة العاشر بعد المعركة التي خاضها أصحابُ الحسين (ع) وكانت نتيجتها عشرين قِربة من الماء. فالخبر المذكور لا يدلُّ على عدم وقوع معسكر الحسين (ع) تحت وطأة العطش المُضني قبل ليلة العاشر وبعده.

 

الأمر بالشرب والاغتسال سحر ليل العاشر:

وأمَّا الشاهد الثاني الذي استند إليه صاحبُ المقال لإثبات دعوى أنَّ الماء كان موفورًا في المخيَّمات فهو ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الأمالي عن الإمام زين العابدين (ع) قال "إنَّ الحُسَينَ (عليه السّلام) أمَرَ بِحَفيرَةٍ فَحُفِرَت حَولَ عَسكَرِهِ شِبهَ الخَندَقِ، وأمَرَ فَحُشِيَت حَطَبًا، وأرسَلَ عَلِيًّا ابنَهُ (عليه السّلام) في ثَلاثينَ فارِسًا وعِشرينَ راجِلًا لِيَستَقُوا الماءَ، وهُم عَلى وَجَلٍ شَديدٍ .. ثُمَّ قالَ لِأَصحابِهِ: قُوموا فَاشرَبوا مِنَ الماءِ يَكُن آخِرَ زادِكُم، وتَوَضَّؤوا وَاغتَسِلوا، وَاغسِلوا ثِيابَكُم لِتَكونَ أكفانَكُم ثُمَّ صَلّى بِهِمُ الفَجرَ، وعَبَّأَهُم تَعبِئَةَ الحَربِ .."([18]).

 

مناقشة الشاهد الثاني:

والجواب:

إنَّ الواضح مِن مساق الرواية أنَّ الإمام الحسين (ع) أمرَ أصحابه بشرب الماء والاغتسال منه في سحر ليلة العاشر من المحرَّم ثم صلَّى بهم صلاة الفجر وعبَّأهم للحرب، والواضح مِن الرواية هو أنَّ الماء الذي أمرهم بالشرب منه والاغتسال هو الماء الذي جلبَه أصحابُ الحسين (ع) من الفرات ليلة العاشر بعد معركة خاضوها مع المرابطين من المعسكر الأموي على الفرات.

 

وعليه فليس للرواية دلالة على وجود الماء فضلًا عن وُفرته قبل مجيء أصحاب الحسين (ع) بقِرَب الماء العشرين من الفرات ليلة العاشر بل الرواية دالَّة على عدم وجود الماء أو لا أقلَّ من دلالتها على شحَّته قبل مجيء أصحاب الحسين (ع) بالماء، إذ لو كان الماء موفورًا لما خاطر الحسين (ع) بأصحابِه وأمرَهم بخوض معركةٍ على الماء قد تكون نتيجتها الفقد لأكثر أصحابه الذين بعثَهم وذلك لعدم تكافؤهم مع المرابطين في العدد والعتاد، فلولا أنَّ معسكر الحسين (ع) كان مضطرًا للماء لما خاطر وبعث على وجلٍ شديد -كما عبَّرت الرواية- ابنَه الأكبر وأخاهُ العباس وثلاثين من فرسانه وعشرين من رجاله وهم جلُّ أنصاره والذين من المُفترض أنْ يدَّخرهم للحرب المنتظرة، فالرواية دليلٌ على اضطرارهم للماء لا أنَّها دليلٌ على وُفرته كما توهَّم صاحب المقال.

 

ثم إنَّ في الرواية إشعارًا إنْ لم يكن ظهورًا في أنَّ هذا الماء الذي أمرهم باستعماله والذي تحصَّلوا عليه بعد معركةٍ عرَّضوا فيها حياتهم للخطر، هذا الماء هو مقدارُ ما لديهم، فهو آخر زادِهم من الدنيا لن يذوقوا بعده ماءً إلى أنْ ينقلبوا إلى ربِّهم شهداء ظامئين، فكان الظمأُ هو نصيبَهم قبل أن يتبلَّغوا بهذا الماء في سحر ليل العاشر وسيكون مآل أمرهم إلى الظمأ بعده.

 

استعمال النورة فجر اليوم العاشر: 

وأمَّا الشاهد الثالث: الذي استند إليه صاحبُ المقال لإثبات دعوى أنَّ الماء كان موفورًا في المخيَّمات فهو ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف وغيره، قال: أمَرَ الحُسَينُ (عليه السّلام) بِفُسطاطٍ فَضُرِبَ، فَاطَّلى فِيهِ بِالنّورَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَفنَةٍ أو صَحفَةٍ، فَميثَ فيها مِسكٌ، وتَطَيَّبَ مِنهُ، ودَخَلَ بُرَيرُ بنُ خُضَيرٍ الهَمدانِيُّ فَاطَّلى بَعدَهُ، ومَسَّ مِن ذلِكَ المِسكِ.

 

وتَحَنَّطَ الحُسَينُ (عليه السّلام) وجَميعُ أصحابِهِ، وجَعَلَتِ النّارُ تَلتَهِبُ خَلفَ بُيوتِ الحُسَينِ (عليه السّلام) وأصحابِهِ .."([19]).

 

مناقشة الشاهد الثالث: 

والجواب:

هو أنَّه لو صحَّت هذه الرواية فهي تقعُ في سياق ما ورد في الرواية السابقة من أمر الإمام الحسين (ع) أصحابه بالشرب من الماء -الذي تمَّ جلبُه ليلة العاشر- والاغتسال منه أي التنظُّف، ثم إنَّ الذين ذكرت الرواية أنَّهم اطَّلوا بالنورة هم الإمام (ع) وبرير بن خضير الهمداني، وأضاف الطبري إليهما عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري وغلامه -الذي هو مصدر الرواية- فكم من الماء يحتاجون لهذا الغرض؟ إنَّ كوزًا من ماء كافٍ لخلط النورة التي تكفي للثلاثة والأربعة، وكوزًا واحدًا تكفي كلَّ واحدٍ لإزالة أثر النورة.

 

وأمَّا قولُ البلاذري: "وتَحَنَّطَ الحُسَينُ (عليه السّلام) وجَميعُ أصحابِهِ" فهو بمعنى أنَّهم جميعًا تطيَّبوا وتحنَّطوا للسُنَّة -استعدادًا للموت- بالمِسك والحنوط الذي وُضع في الجَفنة أو الصحفة، ولذلك كانت الجَفنةُ التي وُضع فيها المِسك عظيمةً أي كبيرة -على حدِّ وصف الراوي- بحسب الطبري([20])-.

 

وبما ذكرناه تبيَّن وهنُ الدعوى التي ادَّعاها صاحبُ المقال وأنَّها منافية لما أفاده عامَّة المؤرِّخين من الفريقين ومنافية لما تقتضيه مجريات الأحداث الموثَّقة كالمنع من الماء الذي امتدَّ لثلاثة أو أربعة أيَّام مع الالتفات إلى العدد الذي يضمُّه معسكر الحسين (ع) من الرجال والنساء والأطفال والدواب وحاجاتهم المختلفة والماسَّة إلى الماء على مدار الساعة، والالتفات إلى الموضع الذي وقع فيه الحصار وأجوائه المناخية الشمس والأتربة ولفح الهجير، والالتفات كذلك إلى حالة الهلع والفزع التي تنتابُ الأطفال والنساء جرَّاء الحصار وتوارد الخيل والعساكر حول المخيَّمات، والترقُّب الذي عليه عامَّة المعسكر والذي يمنع من النوم الطويل والمستغرِق وهو ما يُضاعِف من الحاجة إلى الماء.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

17 / محرّم الحرام / 1443هـ

26 / أغسطس / 2021م


[1]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص312.

[2]- الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص255.

[3]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص180.

[4]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص86.

[5]- مقتل الحسين (ع) -الموفق الخوارزمي- ج1 / ص346.

[6]- الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص91، 92.

[7]- مقتل الحسين (ع) -الموفق الخوارزمي- ج1 / ص346.

[8]- الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص255.

[9]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص181.

[10]- تاريخ الطبري- الطبري- ج4 / ص312.

[11]- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص78.

[12]- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج1 / ص347.

[13]- راجع: الإرشاد -المفيد- ج2 / ص95، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص184، مناقب الطالبيين -ابن شهراشوب- ج3 / ص248، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص308، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي ص39، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص60، تهذيب الكمال -المزي- ج6 / ص427، تهذيب التهذيب -ابن حجر- ج2 / ص304، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص292، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج5 / ص329، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص214، مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص4 تذكرة الخواص -سبط ابن الجوزي- ج2 / ص160.

[14]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص319.

[15]- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص75.

[16]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص186.

[17]- راجع: الفتوح -ابن أعثم- ج 5 / ص84، مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج1 / ص237، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص35، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص50.

[18]- الأمالي -الصدوق- ص221.

[19]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص187.

[20]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص321.