استلقاءُ الحسين (ع) بين جثماني الأكبر والقاسم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

سماحة الشيخ

هل لديكم تحقيق بخصوص دعوى سمعتُها هذا العام وفي الأعوام السابقة من البعض أنَّ الإمام الحسين (ع) استلقى على الأرض بين جثتي الأكبر والقاسم، وتارةً ينظر لهذا وتارةً لذاك، كهيئة المحتضر تدورُ عيناه في أمِّ رأسه، فنادت السيِّدة زينب على سكينة أن تتدارك أباها قبل أنْ تفيض روحُه؟

 

الجواب:

لا وجود للخبر في المصادر المعتبرة في الجملة:

لم أجد لهذا الخبر ذكرًا في شيءٍ من مصادرنا المُعتبرة في الجملة، وكذلك لم أجد له ذكرًا في شيءٍ من مصادر العامَّة رغم الفحص عنه في مظانِّه بل لا وجود لهذا الخبر في الكثير من الكتب المتأخِّرة غير المعتبرة، وعليه كيف يسوغُ نسبة فعلٍ للمعصوم (ع) دون قيام ما يًصحِّح نسبته إليه وما هو المعذِّرُ الشرعيُّ لذلك؟!

 

القرينةُ الثانية على وهْنِ الخبر:

على أنَّ مثل هذا الفعل لو صدر من الإمام الحسين (ع) لكان مُلفِتًا نظرًا لغرابة صدوره من مثل الإمام (ع) وذلك يقتضي أنْ يكثر تناقلُه من قبل النساء لو كان الحدثُ قد وقع في محضرهن كما هو ظاهر الخبر أو مِن قبل المعسكر الأموي لو كان على مرًاى منهم، ولو تناقله أيٌّ منهم لانعكس ذلك على ما يتناقلُه الرواة وحملةُ الأخبار، فكيف لا نجد لهذا الخبر عينًا ولا أثرًا رغم أنَّ الدواعي لنقله -لو كان قد وقع- متوافرة، وليس ثمة ما يمنعُ من نقلِه، وقد نقلوا ما هو دونه، فنقلوا أنَّ الإمام (ع) وضع خدَّه على خدِّ الشهيد التركي(1) ومسحَ التراب عن وجه الحُرِّ بن يزيد الرياحي(2) ووقف على مصرع مسلم بن عوسجة(3) وحملَ القاسم بن الحسن (ع) على صدره الشريف(4) وأرخى عينيه بالدموع عند وداع الأكبر (ع)(5) وأبَّنه بقوله: "على الدنيا بعدك العفا"(6) وكلُّ ذلك وشبهه كان منتظرًا من الإمام الحسين (ع) ولم يكن صدوره منه مستغرَبًا ورغم ذلك تصدَّى الرواة لنقله. فلو كان قد استلقى بين جثماني الأكبر والقاسم بعد أن وُضعا أمام الفسطاط لكان ذلك أولى بالنقل لغرابة هذا الفعل، فلتُكن هذه قرينة أخرى على وهنِ الخبر.

 

القرينةُ الثالثة على وهْنِ الخبر:

وثمة قرينةٌ ثالثة على وهنِ الخبر المذكور وهو منافاتُه لِما هو معلوم من حال الإمام الحسين (ع) وأنَّه واجدٌ لأعلى درجات الصبر والتجلُّد، فأيُّ مشهدٍ أبلغُ في الكشف عن الانهيار وفقدان أدنى درجاتِ الصبر من أنْ يُصبحَ المُصاب مِن فرط الحزن في هيئة المُحتضِر فيُخشَى عليه الفَوْت والهلاك؟! وأيُّ تعبيرٍ عن الانكسار وعدم التجلُّد أبلغُ من أنْ يستلقيَ المُصاب -في مشهدٍ من النساء أو الأعداء أو هما معًا- بين جثماني قتيلين ينظرُ تارةً لهذا وتارةً لذاك وتدورُ عيناه في أمِّ رأسه؟ فهل لمثل هذا المُصاب أنْ يأمرَ بعد ذلك النساءَ بالصبر والتجلُّد؟! أليس في مثل هذا الفعل وهذا المشهد ما يدفعُ بالنساء أنْ يفقدن صوابَهن وهنَّ يُشاهدنَ عميدَهنَّ ومقتداهُنَّ ومَن يستلهمنَ منه الصبر والثبات وهو مستلقٍ بين قتيلين عزيزين وقد بلغَ منه الجزعُ والانهيار مبلغًا عظيمًا لا يكاد يتَّفق إلا لضعَفة الناس!! إنَّ ذلك لفظيع أنْ تبلغَ الإساءةُ لمقام سيِّد الشهداء (ع) هذا المبلغ المُستبشَع!!.

 

فمثلُ هذا الفعل لو كان قد وقع على مرأى من الأعداء كما هو مقتضى أنَّ الجثمانين قد وُضِعا عند الفسطاط الذي يقاتلون أمامه- فإنَّه سيكون أولى بالشماتة من صُراخ النساء الذي كان يُحذِّر منه الحسين (ع) وينهى عنه كي لا يشمتُ به الأعداء، ولو كان قد وقع في محضر النساء لكان ذلك منافياً لما كان يُشدِّد عليه من الأمر لنسائه بالصبر والتجلُّد إذ ليس من شيءٍ أبعد عن الصبر والتجلُّد من الاستلقاء على التراب بين جثماني قتيلين وقد بلغ الحال بالمُستلقِي أنْ صار كهيئةِ المُحتضِر تدورُ عيناه في أمِّ رأسه.

 

والمستغرَب ما يُوحيه ذيلُ الخبر من أنَّ السيَّدة زينب (ع) والسيدة سكينة (ع) كانتا أكثرَ صبرًا وتجلُّدًا من سيِّد الشهداء (ع) وأنَّهما خشيتا على الحسين (ع) ممَّا صار إليه وهو ما دفع بهما إلى أنْ تتداركاه كي لا يموت بين جثماني الشهيدين!!

 

وقد عجبتْ مِن صبرِكَ ملائكةُ السماوات:

فأين مثلُ هذا الخبر المزعوم ممَّا نصَّت عليه الروايات الواردة عن أهل البيت(ع) والمتصدِّية لبيان حال الحسين(ع) وعظيم صبره وشديد ثباته كالذي ورد في الزيارة المأثورة عن الناحية المقدَّسة قال(ع) يصفُ صبرَ الحسين(ع): ".. وقد عجبتْ من صبرِك ملائكةُ السماوات .."([7]).

 

فالصبرُ الذي تجلَّى من مواقف الحسين (ع) يوم كربلاء قد عجبتْ منه ملائكةُ السماوات الذين كانوا قد شاهدوا وعاينوا صبرَ الأنبياء والمرسَلين على ما أصابهم من شديد المِحَن وعظيمِ البلاء ورغم ذلك استثار عجبَ الملائكة صبرُ الحسين (ع) وهو ما يكشفُ عن أنَّه لم يكن لصبرِه من نظيرٍ في تاريخ الرسالات.

 

يُشرِقُ لونُه (ع) كلَّما اشتدَّ عليه الأمر:

هذا وقد أورد الشيخُ الصدوق في كتابه معاني الأخبار بسندٍ قريب عن الإمام الهادي (ع) عن آبائه عن الإمام عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: "لما اشتدَّ الامرُ بالحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهما السلام)، نَظر إليه مَن كان معه فإذا هو بخلافِهم لأنَّهم كلَّما اشتدَّ الأمر تغيرتْ ألوانُهم وارتعدتْ فرائصُهم ووجبَتْ قلوبُهم وكان الحسينُ (عليه السلام) وبعضُ مَن معه مِن خواصِّه تُشرِقُ ألوانُهم وتهدئُ جوارحُهم وتسكنُ نفوسُهم، فقال بعضُهم لبعض: انظروا لا يُبالي بالموت! فقال لهم الحسين (عليه السلام): صبرًا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرةٌ تعبرُ بكم عن البؤس والضرَّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيُّكم يكرهُ أنْ ينتقلَ من سجنٍ إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلا كمَن ينتقلُ من قصرٍ إلى سجنٍ وعذاب. إنَّ أبي حدَّثني عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ الدنيا سجنُ المؤمن وجنَّةُ الكافر والموتُ جسرُ هؤلاءِ إلى جناتِهم وجسرُ هؤلاء إلى جحيمِهم، ما كذبتُ ولا كُذِّبتْ"([8]).

 

فالحسينُ (ع) كما أفاد زينُ العابدين (ع) كان كلَّما اشتدَّ الأمرُ عليه يوم عاشوراء وتوالت عليه عظائمُ المِحَن يُشرقُ لونُه يعني تعلو محيَّاه البشرى كمَن ينتظرُ معشوقًا حان موعدُ وصولِه، وتهدأُ جوارحُه فيكسوها جلالُ الوقار، وتسكنُ نفسُه أي تطيب وتحتسب فلا ينتابُها اضطرابٌ ولا يعتريها وجَل، ولذلك لا يطيشُ له صواب ولا تفتُّ من عضُدِه نازلة، ولا يُخرجُه عن سَمتِه ووقاره خطْبٌ وإنْ تعاظَم، وكان يرى الموتَ- لنفسِه ولأصحابه وأولاده- قنطرةً تعبرُ بهم إلى نعيم الله ودار كرامته، ولهذا كان لا يُبالي بالموت -كما أفاد زينُ العابدين (ع)- وكان يُوصِي أصحابَه وأولاده بقوله: "صبرًا بني الكرام، فما الموتُ إلا قنطرةٌ تعبرُ بكم عن البؤس والضرَّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيُّكم يكرهُ أنْ ينتقلَ من سجنٍ إلى قصر" فهو يستمرئُ الموت ويستعذبُه وقد ارتضاه -في سبيل إعلاء كلمة الله لنفسه ولأصحابه وأولاده- كونه القنطرة التي تعبرُ بهم من البؤس إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم، فمَن كان هذا شأنه وتلك هي بصيرته لا يُدركه جزع ولا يغشى محيَّاه انكسار.

 

ما يُروى عن زين العابدين هو المُناسب لمقام الحسين (ع):

وروى يحيى بن حسين الحسني الشجري الجرجاني في أماليه بسنده عن الحسين بن زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام): إنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ عليه السّلام خَطَبَ يَومَ اُصيبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيهِ، وقالَ: الحَمدُ للَّهِ الَّذي جَعَلَ الآخِرَةَ لِلمُتَّقينَ، وَالنّارَ وَالعِقابَ عَلَى الكافِرينَ، وإنّا -وَاللَّهِ- ما طَلَبنا في وَجهِنا هذَا الدُّنيا، فَنَكونَ الشّاكّينَ في رِضوانِ رَبِّنا، فَاصبِروا فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا، ودارُ الآخِرَةِ خَيرٌ لَكُم.

 

فَقالوا: بِأَنفُسِنا نَفديكَ.

فَقالَ الحُسَينُ بنُ زَيدِ بنِ عَلِيٍّ: فَكانوا -وَاللَّهِ- يُبادِرونَهُ إلى القِتالِ، حَتّى مَضَوا بَينَ يَدَيهِ، فَيَحتَسِبُهُم ويَستَغفِرُ لَهُم([9]).

 

فكان يأمرهم بالصبر ويعدُهم برضوان الله وأنَّ الدار الآخرة خيرٌ لهم من هذه الدنيا فإذا ما سقط منهم شهيد احتسبَه واستغفر له، حَتّى مَضَوا جميعًا بَينَ يَدَيهِ، وهو يَحتَسِبُهُم ويَستَغفِرُ لَهُم، فهذا الذي يحكيه الإمامُ زين العابدين (ع) عمَّا كان يصنعه الإمام الحسين (ع) كلَّما سقط بين يديه شهيد من أصحابه وأهل بيته هو المناسبُ لمقامه الشريف وهو المناسب لمقام الأنبياء والأوصياء وليس ما يُصوِّره الخبر المزعوم الذي يربأ عنه ذوو المروءات فضلًا عن ذوي البصائر والكمال والعصمة.

 

وهذا لا يعني أنَّ الحسين (ع) لا تُدركه الرقَّة ولا تسبقه الدموع فهو كجدِّه المصطفى (ص) رؤوفٌ رحيم شفيقٌ عطوف فكان حين بلغه استشهاد جعفر بن أبي طالب بكى حتى قطرت من دمعه لحيته(10) وبكى حين مات ابنه إبراهيم وقال (ص): تَدْمَعُ الْعَيْنُ ويَحْزَنُ الْقَلْبُ ولَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ وإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"(11) الكافي -الكليني- ج3 / ص262.

 

كذلك كان الحسين (ع) كما رُوي عن زين العابدين (ع) قال: "فلمَّا برز إليهم -عليُّ الأكبر- دمعت عينُ الحسين (عليه السلام)"(12).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

12 / صفر المظفّر / 1443هـ

20 / سبتمبر / 2021م


[1]- مقتل الحسين (ع) -الموفق الخوارزمي- ج2 / ص28.

[2]- مقتل الحسين (ع) -الموفق الخوارزمي- ج2 / ص14، الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص102، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص62،

[3]- الارشاد -المفيد- ج2 / ص103، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص331، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص63، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص67.

[4]- مقاتل الطالبيين -الأصفهاني- ص58، الارشاد -المفيد- ج2 / ص108، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص342، نجارب الأمم -ابن مسكويه- ج2 / ص79، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص75.

[5]- الأمالي -الصدوق- ص226، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص188، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص67، مثير الأحزان- ابن نما الحلي- ص51.

[6]- الارشاد -المفيد- ج2 / ص106، مقاتل الطالبيين- الأصفهاني- ص76، شرخ الأخبار -القاضي النعمان- ج3 / ص153، مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب- ج3 / ص257، المزار -المشهدي- ص487، تاريخ الطبري- ج4 / ص340، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج5 / ص340، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص74. 

[7]- المزار -محمد بن جعفر المشهدي- ص504، مصباح الزائر- السيد ابن طاووس- ص233.

[8]- معاني الأخبار -الصدوق- ص288، الاعتقادات في دين الإماميَّة -الصدوق- ص52.

[9]- الأمالي الخميسية -يحيى بن حسين الحسني الشجري الجرجاني- ج1 / ص211.

[10]- جامع أحاديث الشيعة- البروجردي- ج3 / ص458.

[11]- الكافي -الكليني- ج3 / ص262.

[12]- الأمالي -الصدوق- ص226، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص188.