الإمام المبين في الآية من سورة يس
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
سلام عليكم
قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾([1]).
شيخنا هل نفهم من هذه الآية أنَّ الله عزَّ وجل يُطلِع الامام على كلِّ شيء؟هل يُطلعُه على الغيب كله ؟
الجواب:
الإمامُ المبين هو اللَّوح المحفوظ:
مفادُ الآية -كما استظهر الكثيرُ من المفسِّرين- هو أنَّ الله تعالى قد دوَّن كلَّ شيء مقدَّر ممَّا هو كائن أو يكون في كتابٍ مبين وهو اللَّوح المحفوظ، فالإمامُ في الآية استُعمل وأُريد منه الكتاب، فيكون مفادُ الآية هو مفادُ قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾([2]) أي كلٌّ مثبَت ومدوَّنٌ في كتاب مبين وهو اللَّوح المحفوظ.
وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾([3]) وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾([4]).
وقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾([5]) يعني لم نترك شيئًا إلا وأثبتناه في الكتاب أي في اللَّوح المحفوظ، فنفي التفريط يعني نفي الإغفال والتضييع ومقتضاه نفي الترك.
الإمامُ المبين هي صحائفُ الأعمال:
واحتُمل أنْ يكون المراد من الإمام المبين في الآية هو الكتابُ الذي يُدوِّن فيه الحفَظَةُ من الملائكة ما يفعلُه المكلَّف من خيرٍ أو شرٍّ، فما مِن شيءٍ يفعلُه المكلَّف من خطيرٍ أو حقير إلا ويتمُّ تدوينُه وإثباته في إمامٍ مبين يعني في كتابٍ مبين، فالكتابُ المبين -بناءً على هذا المعنى- هي صحائف الأعمال التي أشار إليها مثلُ قوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾([6]) نستسخ أي نكتب، وقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾([7]).
ولعلَّ من ذلك قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾([8]) أي وكلُّ عملٍ عملتموه دوَّناه تدوينًا أو ضبطناه مكتوبًا أو في كتاب
وعليه يكون معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾([9]) إنَّ الله تعالى يُحيي الموتى ليوم القيامة، وقد كلَّف ملائكته أنْ يكتبوا كلَّما قدَّمه العباد من أعمال، وكذلك كلَّفهم بأنْ يكتبوا آثارهم أي الأعمال الصالحة والسيئة التي لها بقاءٌ وامتداد لِمَا بعد موتهم، فكما تُدوَّن أعمال العباد في حياتهم كذلك تُدوَّن آثار أعمالهم بعد موتهم إذا كان لهذه الأعمال بقاءٌ وامتداد، فإذا كان أحدُهم قد بنى مسجدًا -مثلًا- أو شيَّد مدرسةً أو مبرَّة للأيتام فإنَّ الملائكة تظلُّ تكتبُ له حسناتٍ ما دام المسجدُ قائمًا يُصلَّى فيه، وما دامت المدرسةُ أو المبرَّة قائمة يُنتفعُ بها، وكذلك إذا كان قد بنى دارًا يُشرب فيها الخمر أو كتب كتابَ ضلالٍ فإنَّ الملائكة تظلُّ تكتبُ عليه الإثم ما دامت الدار قائمة يُشرب فيها الخمر، وما دام الكتاب متداولًا يشقى الناس بضلاله ثم قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ يعني وكلُّ شيءٍ من أعمال العباد التي قدَّموها في حياتهم أو خلَّفوها بعد موتِهم قد تمَّ احصاؤه وضبطُه في كتابٍ مبين.
وبهذا يكون المراد من الإمام المبين في الآية الشريفة إمَّا هو اللَّوح المحفوظ الذي أُحصيت وضُبطت فيه جميعُ المقدَّرات أو هي صحائف الأعمال التي أُحصيت وضُبطت فيها أعمال العباد وآثار أعمالهم.
منشأ وصف الكتاب بالإمام المبين:
وأمَّا وصفُ الكتاب بالإمام فلأنَّه -بناءً على أنَّه اللوح المحفوظ- بمثابة الدليل الذي يتعرَّفُ منَّه ملائكةُ التدبير على أوامر الله تعالى ومرادته ومقدَّراته وما قضاه في خلقه وعلى عباده، فهو إمامٌ لأنَّه دليلٌ للملائكة المكلَّفة بإنفاذ أوامر الله تعالى، فمنه تهتدي إلى مرادات الله تعالى وأوامره وبه تقتفي وإيَّاه تتبع، وعليه تعتمد، لذلك فهو إمامُها الذي تأخذُ عنه ما هو مطلوبٌ منها إنفاذه.
وأمَّا وصفُه بالمبين فلأنَّ فيه تفصيلَ كلِّ شيءٍ من خطيرٍ وحقير كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
وأمَّا وصفُ الكتاب بالإمام -بناءً على أنَّه كتاب الأعمال- فلأنَّه الدليل الذي تعتمده الملائكة في التعرُّف والاهتداء إلى ما يستحقُّه كلُّ إنسانٍ يوم القيامة من ثوابٍ وعقاب، وأمَّا وصفُه بالمبين فلانَّ فيه تفصيلَ كلِّ شيءٍ عمله الإنسان وما يستحقُّ عليه من مثوبة وعقوبة. كما قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾([10]) وقال تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾([11]) فوصفُه بالمبين نشأ عن كونه مشتملًا على تفاصيل ما كان قد فعله الإنسان في حياته، فالمبين بمعنى المفصَّل أو قل الظاهر لكونه مفصَّلًا.
ويظهر من العديد من الروايات أنَّها فسَّرت الإمام المبين في الآية بالكتاب المبين، فمن ذلك ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن زِيَادٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) إِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) نَزَلَ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ فَقَالَ لأَصْحَابِه: ائْتُوا بِحَطَبٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه نَحْنُ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء مَا بِهَا مِنْ حَطَبٍ قَالَ: فَلْيَأْتِ كُلُّ إِنْسَانٍ بِمَا قَدَرَ عَلَيْه فَجَاؤُوا بِه حَتَّى رَمَوْا بَيْنَ يَدَيْه بَعْضَه عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): هَكَذَا تَجْتَمِعُ الذُّنُوبُ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ والْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ طَالِبًا أَلَا وإِنَّ طَالِبَهَا يَكْتُبُ ﴿ما قَدَّمُوا وآثارَهُمْ وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ﴾"([12]).
ومنه: رواية أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: "اتَّقُوا الْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا طَالِبًا يَقُولُ أَحَدُكُمْ: أُذْنِبُ وأَسْتَغْفِرُ إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهُمْ وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ﴾ وقَالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾"([13]).
والمتحصَّل أنَّ المعنى الظاهر لقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ هو الكتاب المبين لكنَّ ذلك لا ينفي أن يكون للآية تأويلًا يكون بمثابة المعنى الباطن للآية فإنَّ للقرآن ظهرًا وبطنًا كما نصَّت على ذلك الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع)(14)، والعلم بباطن القرآن لا يُتاح إلا من طريق الوحي، وهو بعضُ ما يعنيه قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فالراسخون في العلم وهم الرسول (ص) وأهل بيته (ع) يعلمون بتأويل القرآن من طريق ما تلقَّاه الرسول (ص) عن ربِّه جلَّ وعلا.
الإمامُ المبين هو عليُّ بن أبي طالب (ع):
وعليه فما نصَّت بعضُ الروايات الواردة عن الرسول الكريم (ص) من تطبيق الآية على الإمام عليِّ بن أبي طالب (ع) لم يكن تفسيرًا لمدلولها الظاهري وإنَّما هو بيانٌ للمعنى الباطن للآية الشريفة.
فممَّا ورد في ذلك ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أبي الجارود عن أبي جعفر محمد بن عليٍّ الباقر (عليه السلام)، قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ﴿وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ﴾ قام رجلان من مجلسهما، فقالا: يا رسول الله، هو التوراة؟ قال: لا. قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا. قالا فهو القرآن؟ قال: لا. قال: فأقبل أميرُ المؤمنين علي، فقال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): هو هذا، إنَّه الامامُ الذي أحصى اللهُ تبارك وتعالى فيه علمَ كلِّ شيء"([15]).
فقلبُ عليٍّ (ع) قد حوى علم كلِّ شيءٍ ممَّا شاء اللهُ تعالى أنْ يعلم به، فكما أطلع اللهُ تعالى ملائكته أو بعضَ ملائكته على ما اشتمل عليه اللَّوح المحفوظ أو على بعض ما اشتمل عليه اللَّوح المحفوظ ممَّا قضاه الله وقدَّره كذلك أطلعَ الإمام (ع) على ذلك.
وروى عليُّ بن إبراهيم القمي في تفسيره عن ابن عباس عن أميرِ المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: "أنا واللهِ الامامُ المبين، أُبيِّنُ الحقَّ من الباطل، وورثتُه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)"([16]).
ورود في خطبة الغدير التي أوردها الطبرسي في الاحتجاج عن الرسول الكريم (ص) أنَّه قال: ".. معاشرَ الناس ما مِن علمٍ إلا وقد أحصاهُ الله فيَّ، وكلُّ علمٍ علمتُ فقد أحصيتُه في إمام المتقين، وما مِن علم إلا علَّمتُه عليًّا، وهو الإمام المبين .."([17]).
وأورد السيد ابن طاووس في كتاب اليقين ذات الخطبة بسند ينتهي إلى علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) إلا أنَّه أورد هذا المقطع من الخطبة بهذا اللفظ: ".. معاشرَ الناس، ما مِن علمٍ إلا وقد أحصاهُ الله فيَّ، وكلُّ علمٍ علَّمنيه قد علَّمتُه عليًّا والمتقين مِن ولده. وهو الإمام المبين الذي ذكره اللهُ في سورة يس: ﴿وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ﴾ .."([18]).
والرواياتُ المؤدِّية لهذا المعنى كثيرةٌ جدًا إلا أنَّي اقتصرتُ على نقل بعض ما نصَّت فيه الروايات على أنَّ عليًّا (ع) هو المقصود من الإمام المبين.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
21 / ربيع الأول / 1443هــ
28 / اكتوبر/ 2021م
[1]- سورة يس / 12.
[2]- سورة هود / 6.
[3]- سورة النمل / 75.
[4]- سورة يونس / 61.
[5]- سورة الأنعام / 38.
[6]- سورة الجاثية / 29.
[7]- سورة الإسراء / 13.
[8]- سورة النبأ / 29.
[9]- سورة يس / 12.
[10]- سورة ق / 18.
[11]- سورة الكهف / 49.
[12]- الكافي -الكليني- ج2 / ص288.
[13]- الكافي -الكليني- ج2 / ص271.
[14] - وسائل الشيعة - الحر العاملي - 27/ 192 ، 196، 197،
[15]- الأمالي -الصدوق- ص235، معاني الأخبار -الصدوق- ص95.
[16]- تفسير القمي ج2 / ص212.
[17]- الاحتجاج -الطبرسي- ج1 / ص74، التحصين -السيد ابن طاووس- ص582.
[18]- اليقين -السيد ابن طاووس- ص343-350.