أسماءُ السِوَر .. هل هي توقيفيَّة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

من أين جاءت تسمية سِوَر القرآن هل هي من عند الله تعالى أو هي تسميات تعارف عليها الناس؟

الجواب:

وقع البحث بين المفسِّرين والمشتغلين بعلوم القرآن في أنَّ أسماء السور هل هي توقيفيَّة بمعنى أنَّها نزلتْ من عند الله تعالى كما نزل القرآن من عند الله تعالى فيتعيَّن بناءً على ذلك الوقوف عليها، وكذلك تكون أسماء السور توقيفيَّة لو كان قد تمَّ وضعُها من قِبَل الرسول الكريم (ص) فهل كان الأمر كذلك أو أنَّ أسماء السور كان قد جرى التباني عليها من قبل الصحابة والتابعين لمناسباتٍ مختلفة؟

الظاهر أنَّه لم يرد نصٌّ ولم يدَّع أحدٌ أنَّ أسماء السور قد نزلت من عند الله تعالى، وبذلك لم يثبت أنَّ أسماء السور توقيفيَّة بالمعنى الأول.

وكذلك لم يرد نصٌّ صريحٌ في أنَّ تسمية السور القرآنيَّة كانت بأمر الرسول الكريم (ص) وبذلك لا يمكن البناء على أنَّ تسمية السور كانت من وضع رسول الله (ص)، نعم ورد في بعض الأحاديث أنَّ الرسول (ص) قد استعمل بعض أسماء السور كسورة الفاتحة والبقرة وآل عمران والكهف في معرض كلامه أي أنَّه ورد أنَّه (ص) قد استعمل هذه الأسماء في سياق كلامه دون أن يكون في ذلك ظهورٌ في أنَّه استعملها لأنَّه كان قد وضع تلك الأسماء لتكونَ علمًا على تلك السور أو أنَّه استعملها لأنَّه قد تعارف إطلاق تلك الأسماء على تلك السور، وعليه لا يكون استعمالُه دليلًا على أنَّ أسماء تلك السور كانت من وضعه أو بأمره (ص) ولذلك لا يكون استعماله لتلك الأسماء مانعًا من استعمال أسماء أخرى للتعريف بتلك السور.

القرينةُ الأولى على عدم توقيفيَّة أسماء السِوَر:

ولعلَّ ممَّا يؤكِّد على أنَّ أسماء السور لم تكن من وضع رسول الله (ص) ولا بأمره أنَّ مصاحف الصحابة -وكذلك المصحف الإمام الذي كُتب في عهد عثمان- لم تكن مشتملةً على أسماء السور وإنَّما يُعرف ابتداء السورة وانتهاء التي قبلها بالبسملة، فهي التي تفصلُ بين السورة والأخرى، فلو كانت أسماء السِوَر من وضع رسول الله (ص) وبأمره لكان على الصحابة إثباتُ كلِّ اسمٍ على رأس كلِّ سورة كما هو المتعارف الآن، على أنَّه لو سلَّمنا أنَّ أسماء السِوَر أو بعضها كانت وضع رسول الله (ص) فإنَّ عدم الأمر بإثباتها في المصاحف على رأس كلِّ سورة يدلُّ ظاهرًا على أنَّه لم يقصد من وضعِها سوى التعريف بالسورة دون أنْ يقصد من ذلك عدم صحَّة استعمال اسمٍ آخر يصلح للتعريف بالسورة.

القرينةُ الثانية على عدم توقيفيَّة أسماء السِوَر:

وكذلك يُمكن تأكيد أنَّ أسماء السور لم تكن من وضع رسول الله (ص) ولا بأمره يُمكن تأكيد ذلك بما تعارف من إطلاق أكثر مِن اسم على أكثر السِوَر بل إطلاق أسماء متعدِّدة على الكثير من سِور القرآن حتى أنَّ بعض السور لها أكثرُ من تسعة أسماء، فإنَّ ذلك يكشفُ عن أنَّ التسميات كانت لغرض التعريف ولم يكن الغرض منها التعيين والتعبُّد بهذه التسميات، وإلا لما تعدَّدت التسميات، فإنَّ تعدُّد التسميات لا يخلو إمَّا يكون من الصحابة وهذا يكشف عن أنَّ الرسول (ص) لم يُلزمهم باسمٍ خاص، وإمَّا أنْ تكون التسميات من الرسول (ص) وهذا يدلُّ ظاهرًا عن أنَّه لم يقصد التعيين وإلا لكان قد خصَّ كلَّ سورةٍ باسمٍ واحد أو اسمين، فإنَّ المستظهَر عرفًا أنَّ تعدُّد التسميات لا يكون إلا لغرض الإشارة والتعريف بالمسمَّى وليس لغرض للتعيين والتعبُّد.

على أنّه لو كان الغرض من التسميات الواردة في بعض الأحاديث هو التعيين لكان ذلك مقتضيًا التصدِّي من قبل الرسول (ص) لتسمية تمام سِوَر القرآن، وهذا ما لم يدَّعه من أحدٍ ظاهرًا، فمقدار السور التي وردت تسميتها في الأحاديث كان محدودًا ولم يكن مستوعبًا لتمام السور، وهو ما يكشف -ظاهرًا- عن أنَّه لم يكن من غرض الرسول (ص) تحديد اسمٍ خاص لكلِّ سورة.

التوقيفيَّة لدى مشهور العامَّة:

هذا وقد تبنَّى مشهور العامَّة أو الكثير منهم أنَّ أسماء السِوَر توقيفيَّة واستدلَّ بعضُهم على ذلك بدليلين:

الدليل الأول: هو دعوى أسماء السور قد تعارف استعمالها لدى الصحابة وهو ما يكشف عن أنَّ هذه الأسماء كانت متلقاة عن الرسول الكريم (ص).

والجواب:

أولًا: أنَّه لم يثبت أنَّ جميع أسماء السور كانت متعارفة ومتداولة بين الصحابة بل الظاهر أنَّ الكثير منها لم يجرِ التعارف عليها إلا في عصر التابعين، ففي عصرهم استقرَّت الأسماء على ما هي عليه الآن. ويكفي لنفي إحراز أنَّها لم تكن متعارفة أنَّ الكثير من الأسماء لم تصل من طريق الصحابة.

وثانيًا: لو سلَّمنا أنَّ أسماء السور كانت متعارفة ومتداولة بين الصحابة فإنَّ ذلك لا يكشف عن أنَّها مُتلقاة عن الرسول الكريم (ص) أو لا أقلَّ من عدم كشف ذلك عن أنَّ جميعها كانت مُتلقاة عن الرسول الكريم (ص)، إذ أنَّ من المحتمل قويًا أنَّهم كانوا يلاحظون مناسبة معينة صالحة للتعريف بالسورة فيسمُّونها بها، ويؤكد ذلك -كما ذكرنا- تعدُّد التسميات للكثير من السور، فبعضهم يُسمِّي السورة بأول أيةٍ فيها فيقول سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وسورة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، وسورة ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وبعضُهم يسمِّيها بأول كلمة في السورة كسورة الحمد، وسورة الصافات، وسورة براءة، وسورة ص، وسورة طه وسورة يس، وبعضُهم يسمِّي السورة بأبرز مضامينها فيقول مثلًا سورة التوحيد والمعوذتين والمنافقون، وبعضُهم يسميها بكلمة ملفتة اشتملت عليها السورة فيقول مثلًا سورة الكوثر، وسورة التكاثر وسورة العلق، والمدثِّر والمزمِّل، وبعضُهم يُسمِّيها بأبرز حدثٍ أو قصَّة وردت في السورة كسورة الأحزاب وسورة الفتح، وسورة البقرة، وبعضُهم يُسمي السورة بأبرز شخصيةٍ وردت في السورة مثل سورة محمد (ص) وسورة هود وسورة مريم، ونلاحظ أنَّ ذات هذه السورة أو تلك قد سُمِّيت بأسماء أخرى لاعتباراتٍ ومناسبات أخرى، فمثلًا سورة العلق سُمِّيت بهذا الاسم باعتبار اشتمالها على هذا اللفظ المُلفت، وسُمِّيت كذلك بسورة اقرأ باعتبار أنَّ هذه الكلمة هي أول كلمةٍ بدأت بها السورة، وكذلك مثلًا سورة براء سُميت بذلك باعتبار أنَّ هذه الكلمة هي أول كلمةٍ بدأت بها السورة وسُميت ذات السورة بالتوبة لتضمُّنها هذا المفهوم في العديد من آياتها، وسميت كذلك بالفاضحة لأنَّها فضحت المنافقين وهكذا، فالتسميات لعلَّها جاءت من قبل الصحابة لغرض التعريف ولذلك تعدَّدت التسميات لتعدُّد الاعتبارات الملحوظة حين التسمية.

الدليل الثاني: حديث ابن عباس قال: قلتُ لعثمان بن عفان: "ما حملكم أنْ عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطول؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله ممَّا يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية، فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا .."([1]).

 ووجه دلالة الرواية -بحسب ما ذكر بعضُهم- هو أنَّ النبيَّ الكريم (ص) كان يأمر كتَّاب الوحي أن يضعوا الآية الفلانية التي نزلت لاحقًا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، أي التي يذكر فيها البقرة والنساء وآل عمران وهكذا ومقتضى ذلك -بحسب زعمه- أنَّ النبيَّ (ص) قد سمَّى جميع أسماء السور، وقد تلقَّى عنه تلك الأسماء أصحابه.

والجواب عن ذلك أنَّ الرواية ليس فيها دلالة على أنَّ النبيَّ (ص) قد سمَّى أسماء السور، لأنَّه -بحسب الرواية- كان يأمر بإلحاق الآية التي نزلت لاحقًا بسورة معينة، وكان يُعرِّف تلك السورة بأنَّها التي يُذكر فيها كذا وكذا وهذا التعبير ليس من التسمية بل هو من التوصيف للسورة المرادة بواسطة ذكر شيء من خصائصها المعرِّفة بها تمامًا لو سألَ أحدهم الآخر عن مشخِّصات منزله ليزوره فيقول له منزله هو ذلك المكون من طابقين ويمتاز باللون الأخضر، فإنَّ هذا من التوصيف وليس من التسمية كما هو واضح. فالرواية لا دلالة فيها على أنَّ تسمية السور كانت من وضع رسول الله (ص) وبأمره.

وخلاصة القول هو أنَّه لم يثبت أنَّ أسماء السِوَر توقيفيَّة، نعم استقرَّ المسلمون منذُ عصرٍ قريبٍ من عهد النبيِّ الكريم (ص) على تسمية السورة بأسماء محدَّدة، وأثبتوا لكلِّ سورة اسمًا أو اسمين في المصحف الشريف لغرض الضبط والتيسير والتسهيل تمامًا كما هو الشأن في ترقيم الآيات وتجزئة القرآن إلى ثلاثين جزء وضبط الكلمات بالحركات الإعرابية، فإنَّ كلَّ ذلك وشبهه إنَّما كان لغرض الضبط والتيسير، وحيث استقرَّ المسلمون على ذلك وكان بمرأىً ومسمعٍ من أئمة أهل البيت (ع) ولم يردعوا عن ذلك بل ثبت في الجملة استعمالهم لهذه الأسماء لذلك يتعيَّن الوقوف على هذه الأسماء وعدم تجاوزها إلى غيرها، إذ أنَّ استحداث أسماء جديدة لهذه السِوَر لا يخلو من إشكال بعد إمضاء أهل البيت (ع) لها ولأنَّ الاستحداث لأسماء جديدة قد يُوجب الإرباك والتوهين، ولهذا لا يصحُّ تسمية السور بغير الأسماء المعهودة بل يتعيَّن الوقوف عليها.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

29 / ربيع الأوّل / 1443هـ

5 / نوفمبر / 2021م


[1]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج1 / ص57.