همزةُ الاستفهام في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ماذا تعني همزة الاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾([1])؟
الجواب:
الاستفهام في الآية استنكاري، والغرض منه الإنكار على الناس ظنُّهم أنْهم يُتركون دون امتحان لمجرَّد قولِهم أنَّهم آمنوا، فالاستفهام مجازيٌّ سيق لغرض الاستنكار وليس لغرض الاستعلام.
الأصل في الاستفهام:
وبيان ذلك: أنَّ الأصل في استعمال أدوات الاستفهام -كالهمزة- هو الاستعلام عن شيء مجهول أو الاستيضاح وطلب الفهم، فحينما يُخاطِبُ المتكلِّمُ السامع بشيءٍ من أدوات الاستفهام فإنَّ غرضَه من ذلك هو أنْ يستعلم من السامع عن شيءٍ لا يعلم به أو أنْ يستوضح منه عن شيءٍ يجهلُه أو لا يُدركه، فيسأله مثلًا: أجاءَ زيدٌ من السفر، فلأنَّ السائل يجهلُ بمجيء زيد من السفر أو عدم مجيئه لذلك فهو يسأل العالم بذلك، وغرضُه من السؤال هو طلب العلم بالمستفهَم عنه أي بمجيء زيدٍ أو عدم مجيئه.
وهذا هو الاستفهام الحقيقي أي أنَّ المتكلِّم حين يكون غرضُه من الاستفهام هو طلب العلم بشيءٍ مجهولٍ عنده فاستفهامه حقيقي، لأنَّ استعمالٌ لأدوات الاستفهام في الغرض وُضعت له.
الاستفهام الاستنكاري:
وقد يَستعمِل المتكلِّم شيئًا من أدوات الاستفهام ولكنَّه لا يقصدُ من ذلك الاستعلام وطلب الفهم بل له غرضٌ آخر، فالاستفهام حينئذٍ يكون مجازيًا لأنَّه استُعمل لغير الغرض الأصلي للاستفهام أي لغير الغرض الذي وُضعت له أدوات الاستفهام.
مثلًا: حين يقولُ الأب لولده: أَتلَفْتَ أموالَك فيما لا ينفع؟ فإنَّ المتكلِّم لا يقصدُ من استعمال همزة الاستفهام الاستعلام، فهو يعلم أنَّ ولده قد أتلفَ أمواله فيما لا ينفع، وإنَّما قصد من استعمال الاستفهام الاستنكار على ولده وتوبيخه على اتلاف أمواله وأراد بذلك أنْ يقوله له إنَّه لم يكن ينبغي لك أنْ تُتلف أموالك فيما لا ينفع.
وقد استعمل القرآن همزة الاستفهام لهذا الغرض في الكثير من الآيات كقوله تعالى على لسان إبراهيم (ع) لقومه: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾([2]) فليس غرضُ إبراهيم (ع) من استعمال الاستفهام هو الاستعلام، فهو يعلم أنَّهم يعبدون الأصنام التي ينحتونها بأيديهم وإنَّما كان غرضه من الاستفهام الإنكار عليهم وتوبيخهم على عبادتهم لما ينحتون.
وكذلك هو الغرض من استعمال إبراهيم (ع) لهمزة الاستفهام في قوله لآزر: إبراهيم: ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً﴾([3]) فلم يكن غرضُ إبراهيم (ع) من الاستفهام الاستعلام من آزر، فهو يعلم أنَّ آزر قد اتَّخذ الأصنام آلهةً، وإنَّما كان غرضُه من الاستفهام هو الاستنكار على آزر وتوبيخُه على اتِّخاذه الأصنام آلهة، فالاستفهامُ إذن ليس حقيقيًّا لأنَّه ليس لطب العلم بل هو استفهامٌ مجازيٌّ سِيق لغير الغرض الذي وُضع له الاستفهام.
الاستفهام التقريري:
وقد يُستعمَل الاستفهام للتقرير أي لحمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بالمُستفهَم عنه أو لغرض التذكير أو الامتنان على المخاطب كقوله تعالى يحكي سؤال فرعون لموسى (ع): ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾([4]) فالسائل وهو فرعون كان يعلم أنَّه قد ربَّى موسى (ع) صغيرًا، فهو لم يقصد من سؤاله الاستعلام وإنَّما قصد التقرير وحمل موسى (ع) على الإقرار بالمستفهَم عنه أو قصد تذكيره أو الامتنان عليه.
وكذلك هو المراد من الاستفهام في قوله تعالى على لسان قوم إبراهيم: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ فقد كانوا يعلمون أنَّ إبراهيم (ع) هو مَن كسَّر أصنامهم، فلم يكن غرضهم من السؤال الاستعلام وإنَّما قصدوا التقرير وحمل إبراهيم على الإقرار والاعتراف.
وهذا هو ذاته المعنى المراد من استعمال همزة الاستفهام في مثل قوله تعالى ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾([5]) وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾([6]) فإنَّ الغرض من الاستفهام في الآيتين هو التقرير وحمل المخاطب على الإقرار والاستحضار لهذه الحقيقة في نفسه.
وكذلك هو المراد من مثل قوله تعالى يخاطبُ نبيَّه الكريم (ص): ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾([7]) وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى﴾([8]) فإنَّ الاستفهام في تمام هذه الآيات سيق لغرض التقرير، لذلك فهو استفهامٌ مجازي وليس استفهامًا حقيقيًّا، إذ أنَّ الاستفهام الحقيقي لا يكون إلا لغرض الاستعلام والاستيضاح عن أمرٍ مجهولٍ لدى المتكلِّم.
وخلاصة القول: إنَّ الاستفهام بالهمزة قد يُستعمل لغرض الإنكار، وقد يُستعمل لغرض التقرير وكلٌّ من الاستعمالين مجازيٌّ لأنَّه استعمالٌ للاستفهام لغير الغرض الذي وُضعت له أدواتُ الاستفهام وهو الاستيضاح والاستعلام عن أمرٍ مجهول. وفي تمام الموارد التي استعمل فيها القرآن همزة الاستفهام -وكان الخطاب فيها صادرًا عن الله تعالى لعباده- فإنَّ استعماله لها كان استعمالًا مجازيًا إما لغرض الإنكار أو التقرير.
ومن ذلك يتَّضح المراد من همزة الاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ فإنَّها سيقت لغرض الإنكار على الناس ظنُّهم أنْهم يُتركون دون امتحان لمجرَّد قولِهم أنَّهم آمنوا.
فمؤدَّى الآية هو نفي الصحَّة عن هذا الظنِّ وأنَّ سنَّة الله تعالى في عباده على خلاف ما يظنَّون فلم يكن ينبغي لهم أنْ يتوهَّموا ذلك، فهو تعالى لا يتركُ عباده دون امتحانٍ وتمحيص، بل جرت سنَّته في عباده على ابتلائهم ليتميَّز الصادقُ في دعواه الإيمان من الكاذب.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
7 / ربيع الآخر / 1443هـ
12 / نوفمبر / 2021م
[1]- سورة العنكبوت / 2.
[2]- سورة الصافات / 95.
[3]- سورة الأنعام / 74.
[4]- سورة الشعراء / 18.
[5]- سورة الأعراف / 172.
[6]- سورة الزمر / 36.
[7]- سورة الشرح / 1.
[8]- سورة الضحى / 6.