الغاية من طلب سليمان ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

كيف نجمعُ بين ما ثبت من أنَّ الإمام الحجَّة (ع) يملأُ الأرض كلَّ الأرض قسطًا وعدلًا وتدين له الدنيا برمَّتها وبين ما أفاده القرآن من أنَّ سليمان قد سأل ربَّه أنْ يهبه ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾([1]).

 

الجواب:

سليمان (ع) لم يسأل ربَّه ملكًا يسعُ الأرض:

إنَّ سليمان (ع) لم يسأل ربَّه ملكًا يسعُ الأرض كلَّ الأرض وإنَّما سأله نوعًا من الملك يختصُّ به فيكون ذلك دليلًا على نبوَّته، فملكُ سليمان (ع) لم يتجاوز الشامات، ولم يكن قد سأل ربَّه أوسع من ذلك، ويُؤيدُ أنَّ غرضه لم تكن السعة في رقعة المُلك ما ورد في الخصال عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: ".. وأمَّا داود فملَكَ ما بين الشامات إلى بلاد إصطخر، وكذلك كان ملكُ سليمان، وأمَّا يوسف فملكَ مصر وبراريها ولم يجاوزها إلى غيرها"([2]).

 

هذا مضافًا إلى أنَّ من المعلوم تأريخيًّا أنَّ ملك سليمان لم تتسع رقعتُه لعموم أرجاء الأرض بل ولا لِما دون ذلك بكثير، فلتكن هذه قرينة على أنَّ سليمان (ع) لم يكن يقصدُ من دعائه السعة في الملك من حيث المساحة، إذ أنَّ ظاهر الآية وكذلك الروايات أنَّ الله تعالى قد استجاب لدعائه رغم أنَّ من المقطوع به أنَّ ملكه لم يستوعب الأرض بل لم يستوعب إلا مساحةً محدودة منها.

 

فقوله: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ هو أنَّه هبْ لي نوعًا من الملك أختصُّ به، ولذلك جاءت الاستجابة من الله تعالى بأنَّه قد سخَّر له الريح والشياطين قال تعالى تفريعًا على دعاء سليمان (ع) وإيذانًا عن الاستجابة لدعائه: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ / وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ / وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ / هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([3]).

 

فقوله تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي ..﴾ جاء استجابة لدعاء سليمان (ع) كما هو مقتضى ظاهر فاء التفريع، وطبيعة الهبة التي منحَها الله تعالى لسليمان(ع) استجابةً لدعوته تدلُّ على أنَّه لم يقصد السعة في مساحة ما يملك وإنَّما سأل ربه نوعًا من الملك يختصُّ به وتكون له به خصوصيَّة.

 

الدعاء بالاختصاص لم ينشأ عن الجشع وحبِّ التميُّز:

وأمَّا لماذا سأل ربَّه الاختصاص بنوع الملك الذي سيمنحُه إيَّاه؟ فهل نشأ ذلك عن الجشع والحرص على التميُّز؟!

 

الظاهر أنَّه قصد من ذلك الإثبات لبني إسرائيل ولمَن بُعث إليهم من الإنس والجن أنَّه لم يكن مَلِكًا يستطيلُ بقوَّةِ ملكه وجنده عليهم وإنَّما هو نبيٌّ قد منحَه اللهُ تعالى الملك، فظهورُ خوارق العادات وتسخيرُ الرياح والشياطين لا تكون إلا لنبيٍّ مؤيَّدٍ من قبل الله تعالى، إذ أنَّ الملك والسلطنة الناشئة عن كثرة الجند وكثرة المال لا تقتضي مهما بلغت ظهورَ خوارقِ العادات على يدي الملِك، فظهورها على يدي سليمان (ع) سوف يكون دليلًا على نبوَّته وأنَّه مؤيَّد من عند الله تعالى، وهذا هو ما نشأ عنه -ظاهرًا- سؤال سليمان ربَّه أنْ يمنحَه ملكًا لا ينبغي لغيره أي يمنحه ملكًا يعجز الملوك عن مثله فيكونُ ذلك دليلًا على أنَّ ملكه لم ينشأ عن الأسباب التي يملكُ بها سلاطين الأرض وملوكها بل نشأ عن تأييدٍ خاص من الله تعالى وهو ما يكون دليلًا على صدق دعواه النبوَّة، وعليه يكون هذا النوع من الملك هو المعجزة التي يُبرهن بها سليمان لقومه على نبوَّته.

 

وهذا الذي ذكرناه هو مفاد ما أورده الشيخُ الصدوق بسنده عن عليِّ بن يقطين قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع) أيجوز أنْ يكون نبيُّ الله عزَّ وجل بخيلًا؟ فقال: لا، فقلتُ له: فقول سليمان (ع): ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ ما وجهه وما معناه؟

 

فقال (ع): المُلكُ ملكان: ملكٌ مأخوذٌ بالغلبة والجور وإجبار الناس، وملكٌ مأخوذٌ من قِبَل الله تعالى ذكرُه، كملك آل إبراهيم، وملك طالوت، وملك ذي القرنين، فقال سليمان (ع): "هبْ لي ملكًا لا ينبغي لاحدٍ من بعدي أنْ يقول: إنَّه مأخوذٌ بالغلبة والجور وإجبار الناس، فسخَّر الله عز وجل له الريح تجري بأمره رُخاءً حيثُ أصاب وجعل غدوَّها شهرًا، ورواحَها شهرًا، وسخَّر اللهُ عزَّ وجل له الشياطين كلَّ بنَّاءٍ وغوَّاص، وعُلِّم منطق الطير، ومُكِّن في الأرض، فعلِم الناسُ في وقته وبعده أنَّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قِبَل الناس والمالكين بالغلبَة والجور .."([4]).

 

فغرضُ سليمان (ع) من طلبه ملكًا يختصُّ به هو إثباتُ أنَّ ملكه من عند الله وهو ما يدلُّ على صدق نبوَّته أي أنَّه طلب من ربِّه معجزةً يبرهن بها على نبوَّته.

 

فسليمانُ (ع) كان قد ورث الملك من أبيه داود فلو لم يمنحْه الله تعالى هذه الخوارق لتوهَّم الناس أنَّه مَلِكٌ كسائر الملوك وأنَّ سلطنته نشأت عن قوَّته وقوة جنده، وذلك لا يثبت للناس نبوَّته، وهذا هو معنى قول الإمام (ع)، فقال سليمان (ع): "هبْ لي ملكًا لا ينبغي لاحدٍ من بعدي أنْ يقول: إنَّه مأخوذٌ بالغلبة والجور وإجبار الناس" أي حتى لا يقول أحدٌ أنَّ ملكه مأخوذ بالغلبة، فحين سخَّر الله تعالى له الريح والشياطين وعلَّمه منطق الطير علم الناس أنَّه مؤيَّد من عند الله وأنَّه صادقٌ في دعواه النبوَّة، وهذا هو معنى قول الإمام (ع): ".. فسخَّر الله عز وجل له الريح .. فعلِمَ الناسُ في وقته وبعده أنَّ ملكه لا يُشبه ملك الملوك المختارين من قِبَل الناس والمالكين بالغلبَة والجور .." فملكه من عند الله وهو مؤيَّد من الله جلَّ وعلا، فهذا الذي ثبت للناس في وقته وبعده هو ما كان قصده سليمان (ع) من طلبه ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فلم ينشأ دعاؤه عن الحرص والجشع، ولم يكن من قصده التميُّز. فما كان يطمح فيه سليمان (ع) ويحرص على نواله هو ما أفاده القرآن من دعائه: ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾([5]) فهو يطمح في أنَّ يوفِّقه اللهُ تعالى لعمل الصالحات، وغايته من ذلك رضوان الله، وأنْ يُدخله في عباده الصالحين.

 

طلب الاختصاص ولم يطلب الأفضل:

ثم إنَّ هنا أمرًا يحسن التنبيه عليه وهو أنَّ سليمان (ع) لم يطلب ملكًا يكون الأفضل على الإطلاق وإنَّما طلب نوعًا من الملك يختصُّ به للغاية التي ذكرناها ولذلك قد يمنح الله من بعده لبعض عباده ما هو أفضل وأغرب مما كان قد منحه لسليمان، فهو وإن كان قد اختصَّه بتسخير الريح غدوها شهر ورواحها شهر واختصَّه بتسخير الشياطين له إلا أنَّ الله تعالى قد منح النبيَّ محمدًا (ص) البراق فعرج به سبع سماوات إلى أن بلغ به سدرة المنتهى في أقلَّ من ليلة واحدة.

 

ويؤيد ذلك ما ورد من إجابة أمير المؤمنين (ع) على احتجاج اليهودي قال له اليهودي: ".. فإنَّ هذا سليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده؟

فقال عليٌّ عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا.

 

قال له اليهودي: فإنَّ هذا سليمان قد سُخِّرت له الرياح، فسارت به في بلاده غدوها شهر ورواحها شهر؟

قال له عليٌّ عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وآله أُعطي ما هو أفضل من هذا: إنَّه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعُرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام، في أقلَّ من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش، فدنى بالعلم فتدلَّى من الجنَّة رفرف أخضر، وغشى النور بصره فرأى عظمة ربِّه عزَّ وجل بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينها أو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى .."([6]).

 

فسليمان (ع) وإن كان قد اختصَّ بنوع من الملك لم يكن لأحدٍ من بعده ولكن ذلك لا يعني أنَّ ما اختص به كان هو الأفضل على الإطلاق. فما أعطاه الله تعالى لبعض أنبيائه وأصفيائه من بعده كان أفضل ممَّا كان قد خصَّ به سليمان (ع).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

8 / ربيع الآخر / 1443هـ

14 / نوفمبر / 2021م


[1]- سورة ص / 35.

[2]- الخصال -الصدوق- 248. تفسير العياشي- العياشي- ج2 / ص340.

[3]- سورة ص / 36-39.

[4]- علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص71، معاني الأخبار -الصدوق- ص353.

[5]- سورة النمل / 19.

[6]- الاحتجاج -الطبرسي- ج1 / ص327.