التعليقُ على روايات سحر اليهوديِّ للنبيِّ (ص)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل صحَّ ما رُوي أنَّ يهوديًّا سحر النبيَّ (ص) فأنزل الله تعالى عليه المعوِّذتين فقرأهما فذهب عنه أثرُ السحر؟

 

الجواب:

وردت عدَّة من الروايات -أكثرُها من طُرقِ العامَّة- مفادها أنَّ رجلًا من اليهود يُسمَّى لبيد بن الأعصم سحر النبيَّ (ص) ووضع ذلك في جفِّ طلعة ودسَّه تحت صخرة في بئرٍ لبني زُريق يُقال له ذروان -وقيل كان معه بناته- فأصاب النبيَّ (ص) من أثر ذلك السحر إعياءٌ وآلام في جسده، وامتدَّ ذلك لوقتٍ قيل إنَّه سنة وقيل ستة أشهر وقيل غير ذلك، ثم إنَّه هبط عليه ملكان وهو نائم وجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، وقيل إنَّ الملَكين هما جبرئيل وميكائيل، فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل قال: مطبوب يعني مسحورًا قال: مَن طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال في أيِّ شيءٍ؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة، قال: وأين هو؟ قال في بئر ذروان.

 

فانتبه النبيُّ (ص) وبعث عليًّا (ع) وقيل بعث معه الزبير وعمَّارًا إلى البئر فنزحوه ثم رفعوا الصخرة فإذا فيه مشاطة رأس وأسنان مشط، وفيه معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر فنزلت هاتان المعوذتان فجعل كلما يقرأ آية انحلَّت عقدة، ووجد رسول الله (ص) خفة، فقام فكأنما أنشط من عقال.

 

هذا حاصل ما ذكرته العديد من الروايات ومقتضاها أنَّ الرسول (ص) قد وقع تحت تأثير السحر إلا أنَّ السحر لم يؤثر إلا على بدنه الشريف فكان من أثره عليه أنَّه صار وجِعًا وكان يشعر بالإعياء والضعف.

 

وثمة روايات ذكرت أنَّ السحر قد أثَّر على ذاكرة الرسول (ص) ومخيلته -كالذي روته عائشة- قالت: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُخيل إليه أنْ يفعل الشيْء وما يفعله" "وأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سحر له حتى كان يُخيل إليه أنَّه يصنع الشيء ولم يصنع"، وقالت: "لبث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي فاتاه"([1])، وقالت عائشة -كما في صحيح البخاري-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا"([2]).

 

وكذلك ورد في بعض كتبنا خبر موهون دون سند أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سحره لبيد بن أعصم اليهودي فقال أبو بصير لأبي عبد الله عليه السلام وما كاد أو عسى ان يبلغ من سحره قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام بلى كان النبي (صلى الله عليه وآله) يرى أنَّه يُجامع وليس يجامع، وكان يريد الباب ولا يُبصره حتى يلمسَه بيده"([3]).

 

وورد أيضًا في كتاب دعائم الإسلام للقاضي المغربي خبرٌ مرسل لا سند له عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (ع) قال: سحر لبيد بن الأعصم اليهودي وأم عبد الله اليهودية، رسول الله (ص) في عقد خيوط من أحمر وأصفر، فعقدا له فيه إحدى عشرة عقدة. ثم جعلاه في جف طلع. ثم أدخلاه في بئر، ثم جعلاه في مراقي البئر بالمدينة، فأقام رسول الله (ص) لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ولا يتكلم ولا يأكل ولا يشرب، فنزل عليه جبرئيل (ع) بمعوِّذات ثم قال له: يا محمد، ما شأنك؟ فقال: لا أدري، أنا بالحال الذي ترى، فقال: إن لبيد بن الأعصم اليهودي وأم عبد الله اليهوديين سحراك، وأخبره بالسحر حيث هو، ثم قرأ عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فقال رسول الله (ص) ذلك، فانحلَّت عُقدة. ثم قرأ أخرى فانحلَّت عُقدةٌ أخرى، حتى قرأ إحدى عشرة مرة، فانحلَّت إحدى عشرة عُقدة .."([4]).

 

ومقتضى هذه الروايات أنَّ السحر قد أثَّر على شيءٍ مِن مداركِ الرسول (ص)!! فصار ينسى ويتوهَّم أنَّه يصنعُ الشيء وهو لم يصنعه واقعًا بل أثَّر السحرُ- بناء على الرواية الأخيرة- على فهمِه فصار لا يفهم، ولا يسمعُ، ولا يُبصر.

 

روايات تأثير السحر على مدارك النبيِّ (ص) مكذوبة:

فهذه الروايات -أعني التي ذكرت أنَّ السحر قد أثَّر على مداركِ النبيِّ (ص) وحواسِّه- مكذوبة قطعًا ودون ريب، وذلك لمنافاتها لأصلٍ من أصول العقيدة الثابت من الدين بالضرورة، وهي عصمة الرسول الكريم (ص) عن الزلل والسهو والنسيان والتوهُّم والغفلة والذهول وعن كل ما يُؤثِّر على العقل ووعيه.

 

وكذلك هي منافية لصريح القرآن الذي شنَّع على الكافرين وصفَهم للنبيِّ (ص) بأنَّه مسحور قال تعالى: ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا﴾([5]) فالآية قد وصفت المدَّعين على الرسول (ص) الوقوع تحت تأثير السحر بالظالمين ومعنى ذلك أنَّ دعواهم لا تعدو الجناية ثم إنَّ الآية نسبتهم إلى الضلال تعبيرًا عن كذب دعواهم ومجانبتها للواقع.

 

والكافرون إنَّما بهتوا الرسول الكريم (ص) بهذه الفرية لتوهينه والتقليل من تأثيره وسلب المصداقية عن قوله، وهذا هو تمامًا ما تُحدثه هذه الروايات المكذوبة، ولهذا اتَّخذ منها المرجفون مدخلًا للطعن على الرسول (ص) والتشكيك في مصداقيَّة ما يصدرُ عنه بذريعة أنَّه إذا جاز عليه أنْ يقع تحت تأثير سحر هذا الساحر فما هو الضامن لعدم وقوعه قبل ذلك أو بعده تحت تأثير السحر من آخرين وبهذا يتسرَّب الشك في مجمل ما صدر عن الرسول الكريم (ص) ولهذا ليس ثمة من ريبٍ في أنَّ واضع هذه الروايات كان يبتغي من ورائها الكيد للإسلام وأهله، والمؤسف أنَّ أكثر علماء العامَّة قد تلقوا هذه الروايات بالقبول -لورودها بطرقٍ معتبرة بحسب مبانيهم- مغفلين ما يترتب عليها من لوازم فاسدة وأنَّها منافية لصريح القرآن وعصمة الرسول الكريم (ص) وأما علماء الشيعة فإنَّهم لا يقيمون وزنًا لهذه الروايات لوهن سندها ومنافاتها لما ثبت عندهم من عصمة النبيِّ (ص) المطلقة ومنافاتها كذلك لصريح القرآن.

 

روايات تأثير السحر على بدن النبيِّ (ص) موهونة:

وأمَّا الروايات التي ذكرت أنَّ سحر لبيد اليهودي قد أثَّر على بدن النبيِّ (ص) ولم يؤثِّر على شيءٍ من مداركه وحواسِّه فهي كذلك ساقطة عن الاعتبار لوهنها وضعف سندها، ولما ثبت أنَّ السحر لا يؤثر مطلقًا على الأنبياء والأئمة (ع) بل الصحيح أنَّ السحر ليس له تأثير على عامَّة الناس فضلًا عن الأنبياء.

 

ويتمحَّضُ تأثير سحر السَّحَرة على أوهام الناظرين ومَن ينظرُ إلى فعلهم، ولهذا قال اللهُ تعالى عن سحرة فرعون: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾([6]) بمعنى أنهم خدعوا أبصار الناس فأوهموهم أنَّ الحبال والعِصي حيَّاتٌ تسعى وهى في الواقع ليست حيَّات، فالساحرُ لا يقدر على قلب الشيء عمَّا هو عليه واقعًا، فلا يستطيع جعل الشاة أسدًا ولا كوز الماء بحرًا كما أنَّه لا يستطيع أنْ يقتل بالسحر أو يجرح به أو يحرق أو يُمرِض، نعم هو يستطيع أنْ يُوهِم المسحور أنَّ الشاة أسد فربما أصاب المسحور بسبب توهُّمه الرعب والفزع فيموت أو يمرض، فموتُه أو مرضه مسبَّبٌ عن خوفه الناشيء عن توهُّمه، وكذلك قد يُوهمه أنَّ نارًا مشتعلةٌ في بدنه فيفزع لذلك ويموت أو يُصيبه الخبال، فهو قد مات أو جُنَّ بسبب توهُّمه وإلا فليس ثمة نارٌ مشتعلة واقعًا في بدنه، وكذلك قد يخدع الساحرُ بصرَ الرجل فيرى زوجته قبيحة أو على صورة قرد مثلًا فينفر منها إلا أنَّ ذلك لا يعني أنَّه قد بدَّل -واقعًا- صورة زوجته فهي في الواقع على ما كانت عليه، والسحرُ أنَّما أثَّر على وهم الرجل.

 

السحر يؤثر على مخيَّلة المسحور واعتقاده:

فالسحر إنَّما يُؤثِّر على مخيَّلة المسحور فيعتقد أنَّ الشيء قد تغيَّر عمَّا هو عليه، ولكن الواقع والحقيقة هو أنَّه لم يتغيَّر عمَّا هو عليه، ولهذا يستحيل وقوع الأنبياء تحت تأثير السحر لاستحالة الخطأ عليهم بعد البناء على عصمتهم أي استحالة أنْ يعتقدوا في الأشياء على خلاف واقعها لأنَّ ذلك من الخطأ الذي الذي عصم الله تعالى عنه الأنبياء.

 

وما يُقال إنَّ قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾([7]) يدلُّ على أنَّ موسى (ع) قد وقع تحت تأثير السحر فتخيَّل أنَّ الحبال والعصي حياتٍ تسعى.

 

هذا القول لا يصحُّ فإنَّه بناءً على عود الضمير في قوله تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ على موسى (ع) فإنَّ الآية لا تدلُّ على أنَّ موسى قد وقع تحت تأثير السحر لأنَّ التخيُّل يجتمع مع إدراك عدم واقعيَّة الأمرِ المُتخيَّل، فإنَّ مَن ينظرُ إلى المَروحة الكهربائيَّة المسرعة -مثلًا- يتخيلُ أنَّها على شكل دائرة متصلة، لكنَّه في نفس الوقت يُدركُ أنَّها ليست كذلك، فالواقع تحت أثر السحر هو مَن يعتقد خطًا أنَّ ما يراه هو الواقع، والأمر لم يكن كذلك بالنسبة للنبيِّ موسى (ع).

 

وخلاصة القول: إنَّ روايات سحر اليهودي للنبيِّ الكريم (ص) ساقطةٌ برمَّتها عن الاعتبار سندًا، وغيرُ قابلة للقبول متنًا حتى التي ذكرت أنَّ تأثير السحر لم يتجاوز بدن النبيِّ الكريم (ص) نعم مِن الممكن القبول باحتمال أنَّ اليهودي قد صنع سحرًا في جفِّ طلعة ودسَّه في بئر ذروان لاعتقاده أنَّ ذلك سيؤثِّر على النبيِّ (ص) فأطلعَ اللهُ تعالى نبيَّه (ص) على ما فعله اليهوديُّ فبعث عليًّا (ع) لاستخراج السحر ليكون ذلك حجَّةً على اليهود ودليلًا على صدقِه (ص) وأنَّه مؤيَّدٌ بالوحي من عند ربِّه، وأمَّا دعوى تأثُّره بالسحر فهو من زيادات الوضَّاعين.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

21 / ربيع الآخِر / 1443هـ

27 / نوفمبر / 2021م


[1]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج6 / ص57، 63، 96، صحيح البخاري- ج4/ ص91، ج7 / ص29، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص14.

[2]- صحيح البخاري- البخاري- ج7 / ص29، 88.

[3]- طب الأئمة -ابنا بسطام النيسابوري- ص114.

[4]- دعائم الإسلام -القاضي النعمان المغرب- ج2 / ص138.

[5]- سورة الفرقان / 8-9.

[6]- سورة الأعراف / 116.

[7]- سورة طه / 66.