إنكارُ ابن مسعود للمعوِّذتين لا يضرُّ بتواترهما

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

 

المسألة:

إنكار عبد الله بن مسعود لقرآنيَّة المعوِّذتين ألا يضرُّ بدعوى تواتر القرآن أو لا أقلَّ مِن أنَّ ذلك يضرُّ بدعوى تواتر قرآنيَّة المعوِّذتين؟

 

الجواب:

لا يعتبر في انعقاد التواتر عدم المخالف:

لا يُعتبر في تواتر نصٍّ أو واقعةٍ أنْ يعلم به وبوقوعها كلُّ أحدٍ أو لا يُنكرها مِن أحد، فتواترُ النصِّ معناه أنْ ينقله جماعةٌ بلغوا من الكثرة بحيثُ يمتنع عقلًا اتَّفاق خطئهم أو تواطؤهم على الكذب، وهكذا ينقلُ عن الجماعة جماعةٌ يبلغون من الكثرة حدًّا يمتنعُ عقلًا اتَّفاق خطئِهم أو تواطؤهم على الكذب، وينقلُ عن هؤلاء الناقلين جماعةٌ يبلغون من الكثرة مبلغ الذين سبقوهم، وعلى ذلك يتمُّ التناقل للخبر من جيلٍ إلى جيل، فإذا اتَّصلت سلسلةُ النقل، وكانت كلُّ حلقةٍ من حلقات السلسلة ينقلُها جمعٌ يمتنع اتَّفاق خطئِهم وتواطؤهم على الكذب، فالخبرُ المذكور يكون من مصاديق الخبر المتواتر بل هو من أجلى مصاديقه وبه يكون المخالف لمؤدَّاه مقطوع الخطأ بحساب الاحتمالات.

 

وبهذه الطريقة وصل القرآن -بما فيه المعوِّذتان- فقد نقله إلينا خلقٌ كثيرون عن كثيرين عن كثيرين وهكذا تتَّصل السلسلة إلى عصر التابعين، ومنه إلى عصر الصحابة حيثُ نقلَه خلقٌ كثير منهم عن رسول الله (ص) فكان يقرأ عليهم ما ينزلُ عليه منجَّمًا فيأمر باستنساخه وتدارُسِه فيما بينهم وحفظه وتلاوته في صلواتهم ومحافلِهم وخلواتهم وتعليمه لصبيانهم ونسائهم وتعليمه لمَن استجدَّ دخوله الإسلام، وكان (ص) يختار من أصحابه مَن يستمع إلى قراءتهم ثم يأمرهم بالجلوس إلى الناس فيقرأون عليهم ويستمعون إلى قراءتهم، وكان هؤلاء يُعرَفون بالقراء وهم بالمئات وكان منهم مَن يبعثُهم الرسول (ص) إلى القبائل التي دخلت الإسلام وهكذا استمرَّ الحال إلى ما بعد رحيل الرسول (ص) إلى ربِّه جلَّ وعلا فكانت حلقاتُ التلاوة والتحفيظ منتشرة في عموم الحواضر الإسلامية كالمدينة ومكة والكوفة والبصرة واليمن والشام وغيرها من الحواضر.

 

وعليه لا يضرُّ بتواتر القرآن جهل البعض بقرآنية سورةٍ أو آية، إذ لا يُعتبر في التواتر علم الجميع كما لا يضرُّ بالتواتر إنكار البعض، فإنَّ حقيقية التواتر هو تلقِّي جماعةٌ للخبر أو شهودهم لواقعة، ومن الطبيعي أنَّ الذي لم يتلقَّ الخبر أو لم يشهد الواقعة أنْ يكون جاهلًا بالخبر وبالواقعة، فلو تحدَّث متحدِّث في محضر مائة ونقل هؤلاء المائة حديثَه الذي سمعوه منه فإنَّ خبرهم يكون متواترًا دون ريب رغم أنَّ غير المائة الذين لم يسمعوه لا يعلمون بحديثه، وهكذا لو وقعت مشاجرةٌ بين اثنين وشهدها مائة، ونقل هؤلاء المائة أحداثَ المشاجرة فجاءت متطابقة فإنَّ خبرهم عن الواقعة يكون متواترًا رغم أنَّ الذين لم يشهدوا المشاجرة يكونون جاهلين بها، فجهلُ البعض بل الكثير بالمشاجرة لا ينفي عن الإخبار بها من قِبَل المائة وصفَ التواتر.

 

كذلك هو الشأن في جهل عبد الله بن مسعود بقرانيَّة المعوِّذتين فإنَّه لا ينفي عن الإخبار بقرآنيَّتهما وصفَ التواتر بعد أنْ أخبر عن ذلك مئات بل آلافُ الصحابة وتفرَّد هو دون سائر الصحابة -من المهاجرين والأنصار وغيرهم- بالنفي.

 

كيف لمثل ابن مسعود الجهل بقرآنيَّة المعوذتين:

قد يُقال كيف لمثلِ عبد الله بن مسعود أنْ يجهل بقرآنيتهما، فإذا كان لم يسمع ذلك من النبيِّ (ص) مشافهةً فلا أقلَّ من أنَّه سمِعَ ذلك من الصحابة.

 

والجواب هو أنَّه أيُّ محذورٍ في أنْ يجهل عبد الله بن مسعود أو غيره بشيءٍ من القرآن أو الأحكام؟! فهل من الضروري أنَّ يعلم كلُّ صحابيٍّ بكلِّ سور القرآن وإلا كان ذلك دليلًا على عدم الثبوت للسورة المجهولة له؟! فهل يصحُّ أنْ ننفي عن السورة وصفَ التواتر لمجرَّد نفي واحدٍ من الصحابة لقرآنيتها في مقابل مئات بل آلاف المُخبرِين من الصحابة عن الرسول (ص) أنَّها من القرآن.

 

ثم إنَّ ابن مسعود لم يكن ينفي نزول المعوِّذتين على الرسول (ص) من عند الله تعالى بل كان يُقرُّ أنَّهما نازلتان على رسوله (ص) من عند الله تعالى وأنَّه سمِع رسول الله (ص) يتلوهما، وكان هو كغيره من الصحابة يحفظونهما، فهو لا ينفي نزولهما من عند الله تعالى وإنَّما كان ينفي قرآنيتهما ويدَّعي أنَّهما نزلتا على الرسول (ص) لتعويذ الإمامين الحسن والحسين (ع) أو للتعويذ مطلقًا، فنفيه لقرآنيتهما نشأ عن شبهةٍ علقتْ في ذهنه وهي أنَّهما حيث نزلتا للتعويذ أو لتعويذ الحسن والحسين (ع) فهما إذن تعويذتان وليستا قرآنًا، فالنفيُ لقرآنيَّتهما نشأ عن شبهةٍ علقتْ في ذهنِه ثم استحكمتْ في نفسِه فاعتقد أنَّهما ليستا من القرآن، لأنَّ الغرض من نزولهما هو التعويذ بهما، وغفِل عن أنَّ نزولهما للتعويذ -بحسب اعتقاده- لا يقتضي نفي قرآنيَّتهما، فاعتقادُه بالملازمة هو الذي قاده إلى عدم الإصغاء إلى عموم الصحابة -رغم تطابق قولهم- إمَّا مكابرة واعتدادًا بالنفس -ولا ننزِّه عن ذلك بشرًا إلا مَن عصم الله- أو بزعم الاحتياط للقرآن وأنَّه لا يصحُّ أنْ يُثبِتَ فيه ما لا يُعلم أنَّه منه كما أُثِر عنه، فكان: "يحكُّ المعوِّذتين من مصاحفه ويقول: إنَّهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى"([1]).

 

وأخرج أحمد بن حنبل بسنده عن زرِّ بن حبيش قال: قلتُ لأُبي -بن كعب- إنَّ أخاك يحكُّهما من المصحف فلم يُنكر، قيل لسفيان: ابن مسعود؟ قال: نعم، وليسا في مصحف ابن مسعود كان يرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يُعوِّذ بهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرؤهما في شيءٍ من صلاته، فظنَّ أنَّهما عوذتان وأصرَّ على ظنِّه وتحقَّق الباقون كونهما من القرآن فأودعوهما إيَّاه"([2]).

 

أقول: هذه الرواية تكشف عن أنَّ منشأ شبهته هو أنَّه كان يرى النبيَّ (ص) يُعوِّذ بهما الحسن والحسين (ع) فظنَّ أنَّهما عُوذتان، فكان قد سمع مرارًا من رسول الله (ص) يتلو السورتين كما يظهر من قوله: "كان يرى رسول الله يُعوِّذ بهما الحسن والحسين" ويظهر من قوله: "وأصرَّ على ظنِّه" أنَّ الصحابة قد نبَّهوا عبد الله بن مسعود على خطئه ولكنَّه لم يصغٍ لتنبيههم وأصرَّ على ظنِّه.

 

وأخرج أحمد بن حنبل -وغيره- بسنده عن زرِّ بن حبيش قال: قلتُ لأُبي بن كعب أنَّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوِّذتين في مصحفه فقال: أشهدُ أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) أخبرني أنَّ جبريل عليه السلام قال له: قل أعوذ برب الفلق فقلتُها، فقال: قل أعوذُ برب الناس فقلتُها فنحن نقول ما قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم)"([3]).

 

فقوله: "انَّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوِّذتين في مصحفه" فيه -وفيما سبقه- دلالة على أنَّه شذَّ بذلك عن سائر الصحابة وعمَّا كانوا يُثبتونه في مصاحفِهم كما أنَّه يظهر جليًا من الخبر أنَّ اثبات الصحابة للمعوِّذتين لم ينشأ عن رأيٍ بل نشأ عن سؤال رسول الله (ص) لذلك ذيَّل أُبي بن كعب كلامه بقوله: "فنحن نقولُ ما قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم)".

 

لم يكن ابن مسعود الأعلم بكتاب الله تعالى:

قد يُقال إنَّ ابن مسعود كان أعلم الناس بكتاب الله تعالى، فقد ورد عنه أنَّه قال: "والذي لا إله غيره لو أعلم أحدًا أعلمُ بكتاب الله منِّي تبلغُه الإبل لأتيتُه"([4]) ويقول كما في صحيح مسلم: "فلقد قرأتُ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بضعًا وسبعين سورة ولقد علم أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) أنِّي أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلمُ أنَّ أحدًا أعلم منِّي لرحلتُ إليه"([5]).

 

وجوابه: إنَّ ذلك لم يصح عنه عندنا، والظاهر أنَّ علماء العامة لا يعتقدون في ابن مسعود ذلك، فعبد الله ابن مسعود لم يكن أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، ولو صحَّ أنَّه قال ذلك فهو من اعتقاده في نفسه، فلا يكون حجَّةً على غيره، على أنَّ هذه الدعوى لا تستقيم مع ما رُوي عنه أنَّه قال: "قرأتُ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) سبعين سورةً وختمتُ القرآن على خير الناس عليِّ بن أبي طالب" وفي رواية: ".. فأخذتُ من فِي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) سبعين سورة وأخذتُ سائر القرآن من أصحابه"([6]).

 

التعليق على خبر خذوا القرآن من أربعة:

قد يُقال إنَّه قد ورد عن الرسول (ص) أنَّه أمر بأخذ القرآن من أربعة أولهم عبد الله بن مسعود، وفي ذلك دلالةٌ على أنَّ عبد الله بن مسعود كان يعلم بجميع القرآن فقد أخرج البخاري بسنده عن مسروق قال ذكر عبدُ الله بن عمرو -بن العاص- عبدَ الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه سمعتُ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يقول: "خذوا القرآنَ من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبي بن كعب"([7]).

 

وأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن مسروق قال: كنَّا نأتي عبد الله بن عمرو- بن العاص- فنتحدَّث إليه وقال ابن نمير عنده: فذكرنا يومًا عبد الله بن مسعود فقال: لقد ذكرتم رجلًا لا أزال أُحبُّه بعد شيءٍ سمعتُه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم)، سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يقول: خذوا القرآنَ من أربعةٍ: من ابن أم عبد فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وسالم مولى أبى حذيفة"([8]).

 

والجواب: إنَّ هذه الرواية لا تصحُّ عندنا خصوصًا وأنَّها مرويَّة عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان من قادة المحاربين لعليٍّ أمير المؤمنين (ع) في صفِّين، فكان من الفئة الباغية الذين حاربوا عليًّا (ع) وقتلوا عمَّارًا بن ياسر والكثير من الصحابة البدريين وغيرهم، فمثلُه لا يُعوَّلُ على نقله.

 

على أنَّه لو صحَّ خبرُه فإنَّ ذلك لا يعني أكثر من الحثِّ على أخذ مقدار ما نزل من القرآن من هؤلاء الأربعة، فهذا الحديث لا يدلُّ على أنَّ هؤلاء الأربعة يعلمون بجميع القرآن، وكيف يعلمون به كاملًا وهو مازال في طور النزول، فمعنى خذوا القرآن من الأربعة هو أنَّه خذوا ما نزل أو خذوا ما عندهم من القرآن، على أنَّ الحديث لا يدلُّ على أنَّ ما عند هؤلاء الأربعة بمقدارٍ واحد، فقد يكون عند أحدهم سورًا لا يحفظُها الآخر أو لا يعلم بها الآخر، فالثلاثة مثلًا كانوا يُقرُّون بقرآنيَّة المعوِّذتين وابن مسعود لا يعلم بقرآنيَّتهما، ثم إنَّ الإحالة على الأربعة لا يعني أنَّ غيرهم من الصحابة لا يحفظ أو ليس عنده مقدار ما كان قد نزل من القرآن، كيف وقد كان النبي (ص) يبعثُ منهم إلى القبائل والبلدان التي دخلت الإسلام ليعلمونهم القرآن، كما أنَّ الإحالة على الأربعة لا يعني المنع من أخذ القرآن من غيرهم، ولهذا لم يفهم أحد من الصحابة حصر الأخذ بالأربعة، فحتى ابن مسعود نفسه أخذ ما عدا السبعين سورة عن عليِّ بن أبي طالب (ع) أو من سائر الصحابة، وكذلك كانوا يأخذون عن مثل زيد بن ثابت -الذي اعتمد أبو بكر وعمر وعثمان مصحفه- وكانوا يأخذون القرآن عن الإمام عليِّ بن أبي طالب(ع)، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وحذيفة بن اليمان، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي زيد الأنصاري، وأبي موسى الأشعري، والمقداد بن الأسود وغيرهم كثير، فقوله (ص): "خذوا القرآنَ من أربعةٍ" لو صحَّ فهو -ظاهراً- خطابٌ موجَّه لبعض الصحابة أو لبعض صغارهم كعبد الله بن عمرو بن العاص بأنْ يتعلَّموا القرآن من هؤلاء الأربعة فهو أمرٌ وتوجيه لهؤلاء المخاطَبين بأنْ يتتلمذوا على هؤلاء الأربعة.

 

وخلاصة القول: إنَّ انكار عبد الله بن مسعود لقرآنيَّة المعوِّذتين لا يضرُّ بتواترهما فإنّه لا يُعتبر في انعقاد التواتر أنْ لا يجهل به أحد وأنْ لا يُنكره من أحد، وحتى لو كان المنكِر مثل عبد الله بن مسعود فإنَّه ليس منزَّهًا عن الخطأ ويجوز عليه الاشتباه بل يجوز عليه أنْ يُكابر فتستحكم الشبهة من نفسه فتمنعه من الإذعان للحقِّ رغم تبيُّنِه

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

2 / جمادى الأولى / 1443هـ

7 / ديسمبر / 2021م


[1]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص130.

[2]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص130.

[3]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص129.

[4]- المعجم الكبير -الطبراني- ج9 / ص72، ج10 / ص205.

[5]- صحيح مسلم ج7 / ص148.

[6]- مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج9 / ص30.

[7]- صحيح البخاري -البخاري- ج6 / ص102.

[8]- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص147.