مرجِعُ الضمير في قوله: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾(1) على مَن يرجعُ ضميرُ الجمع في قوله: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾؟ وما معنى قوله تعالى: ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾؟
الجواب:
الظاهرُ أنَّ ضمير الجمع في قوله: ﴿لَهُمْ﴾ يرجعُ على الشياطين، فهم المحفوظون مِن قِبَل الله تعالى في قوله: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ أي كنَّا للشياطين -الذين يعملون لسليمان (ع)- حافظين، وهذا هو ما استظهره عامَّةُ المفسِّرين.
ومعنى حفظِهم هو منعُهم من الهرب والإفساد لِما يعملونه، وتسخيرُهم وقسْرُهم على إنجاز الأعمال الموظَّفة لهم والمقرَّرة عليهم، فلا يملكون أن يتمرّدوا ولا يستطيعون أنْ يتخلَّفوا عمَّا أُمروا به.
فمعنى الحفظ في الآية هو -تماماً- معنى قولك لآخر: احفظ لي هذه الدابَّة كي لا تنفر، واحفظ هذا الطير أو هذا الجاني أي أحبسه كيلا يهرب، فالحفظ هنا جاء بمعنى المنع والحبس للجاني والحيلولة دون فراره. وكذلك حين يُقال حفظتُ الماء من التسرُّب، فهو بمعنى أنَّه وضعه أو وضع له ما يحول ويمنع مِن تسرُّبه.
وأمَّا كيف تمَّ حفظُ الشياطين فهو إمَّا بسلب اختيارهم من قِبَل الله تعالى وقسرهم على العمل لسليمان(ع) فيكونون بذلك بمثابة الأدوات الفاقدة للاختيار، وإمَّا بتسليط من هم أقوى منهم كالملائكة فيسخِّرونهم للعمل لسليمان (ع) ويُكرهونهم على الطاعة، ويحولون بينهم وبين الفرار أو التمرُّد والإفساد، أو أن حفظ الشياطين ومنعهم عن التمرُّد كان من طريق الوعيد لمَّن تمرَّد منهم بالعقوبة المشدَّدة، فالخوف من العقوبة هو ما منعَهُم من الفرار أو الإفساد وحمَلَهم على الامتثال والحرص على الإتقان لما كانوا يؤمرون بعمله، ولعلَّ ما يُؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾(2).
فالوعيدُ للعصاة منهم بالعقوبة والعذاب، ومشاهدتُهم للمصير البائس والمخيف الذي يؤول إليه حالُ من يزيغ وينحرف عن الأمر الإلهي هو ما يدفعُهم للامتناع عن الزيغ والتمرُّد ويحملُهم على انجاز الأعمال التي يأمرهم بها سليمان (ع) والتي أشارت إليها الآية من سورة سبأ وهي قوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾(3) والآية من سورة "ص" وهي قوله تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾(4) فهم يغوصون له في البحر يستخرجون منه نفائس الأمتعة والجواهر واللئالئ والمرجان، ويُشيِّدون له الأبنية، ويعملون له ما يشاء من المحاريب وبيوت العبادة، والتماثيل، والقصاع العظيمة والتي هي بحجم الحياض، والقدور الراسية الثابتة في الأرض.
وأما معنى قوله تعالى: ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ فهو أنَّهم كانوا يُنجزون لسليمان (ع) أعمالاً غير الغَوص في البحر أي مضافاً إلى الغَوص في البحر، والظاهرُ أنَّ الآية تُشير إلى الأعمال التي بينتها الآية من سورة سبأ: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ والآية من سورة "ص" قوله تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
12 / جمادى الأولى / 1443ه
17 / ديسمبر / 2021م
[1]- سورة الأنبياء / 82.
[2]- سورة سبأ / 12.
[3]- سورة سبأ / 13.
[4]- سورة ص / 37.