معنى الفلَق في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما هو المقصود من الفلق في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾([1])؟
الجواب:
الفلَق لغةً يعني الشِّقِّ، يقال: فلق الشيء يعني شقَّه وأبانَ بعضَه من بعض، ومن ذلك قولهم فلق السيف رأسه فلقاً أي شقَّه وفرقَه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾([2]) فالبحر كان وحدةً واحدة متَّصلة، فحين ضرب موسى (ع) بعصاه البحر انفلق أي انشقَّ بإذن الله تعالى فصار كلُّ شقٍّ كالطود أي كالجبل العظيم تعبيراً عن عمقِ البحر الذي عبره موسى (ع) وقومُه.
والفلق -كما قيل- صفةٌ مشبهة بمعنى المفعول كالقَصَص بمعنى المقصوص، والنقض بمعنى المنقوض، والنكث بمعنى المنكوث، فالفلق يُراد به المفلوق عن الشيء والمشقوق عنه.
هذا بحسب المدلول اللُّغوي لكلمة الفلق، وأمَّا ما هو المراد من الفلَق في الآية الشريفة فذُكرت لذلك معانٍ عدَّة أهمُّها:
المعنى الأول: أنَّ المراد من الفلق هو الصبح فمعنى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ هو قل أعوذ بربِّ الصبح، والمناسبة اللغوية المصححة لإطلاق لفظ الفلق على الصبح هو أنَّ الصبح مفلوقٌ عن الليل ومشقوق عن ظلمته، فكأنَّ الصبح كان مستوراً بالظلام فشُقَّ عنه الظلام فظهر، فالصبح فلَقٌ لانفلاق ظلمة الليل عنه وانشقاقه عن ضياء الصبح، فالموصوف بالفلق هو الصبح لأنه مفلوق عنه الظلام ومشقوق عنه ظلام الليل، فالمفلوق والمشقوق هو ظلمة الليل والمفلوق عنه هو ضياء الصبح.
فإطلاق الفلق على الصبح تعبيرٌ مجازي ولكنَّه رائجٌ في كلام العرب، ولذلك قال تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾([3])، ومن ذلك أيضاً ما ورد في المأثور أنَّ النبيَّ (ص): "لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلَق الصبح"([4])، أي أنَّ رؤاه تأتي كفلق الصبح في الوضوح والمطابقة للواقع.
المعنى الثاني: هو أنَّ المراد من الفلق في الآية الشريفة هو مطلق الوجودات الممكنة أي أنَّ المقصود من الفلق هو عامَّة المخلوقات الماديَّة والمجرَّدة، فيكون معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ هو قل أعوذ بربِّ الخَلق. ولعلَّ ممَّا يعزِّز هذا الرأي هو الآية التي تلَت هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾([5])، فالاستعاذة تكون بربِّ الخلق من شرِّهم.
والمناسبة اللُّغويَّة المصحِّحة لإطلاق وصف الفلَق على عامَّة المخلوقات هو أنَّها كانت في كتم العدم فشقَّ الله تعالى عنها ظلمة العدم بنور الإيجاد لها فكأنَّها كانت مستورة بظلمة العدم وكان خلقها بمثابة شقِّ ظلمة العدم عن نور وجودها، فالخلق فلَقٌ أي أنَّه مفلوقٌ عن كتم العدم وظلمته.
وثمة مَن أفاد أنَّ المناسبة اللُّغوية لإطلاق وصف الفلق على المخلوقات أنَّ طبيعة الخلق عادة ما تكون عن انشقاق شيءٍ عن شيء، فالحبَّة تنفلق عن نبيتة، والصخرة تنفلق عن العيون، والسحاب ينشقُّ عن المطر، وغشاء الرحم ينشقُّ عن الجنين، فالجنين مشقوق عن الرحم ومفلوقٌ عنه، فهو فلَق بمعنى مفلوقٌ عنه وهكذا سائر المخلوقات، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾([6]) فالحبَّةُ تنفلق ويخرج منها النبات، فالنبات منفلِقٌ عن الحبَّة فهو فلَق بمعنى أنَّه مفلوق عنه. وبناءً على هذا التقريب يكون المراد من الفلَق في الآية الشريفة هو المخلوقات الماديَّة.
المعنى الثالث: هو ما أفادته الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) من أنَّ الفلَق صدعٌ في النار أو أنَّه جبٌّ في النار، فمِن ذلك:
الرواية الأولى: ما أورده الشيخ الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن معاوية بن وهب: "قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقرأ رجل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ فقال الرجل: وما الفلق؟ قال (ع): صدْعٌ في النار، فيه سبعون ألف دار .. في كل بيت سبعون ألف أسود .. لا بدَّ لأهل النار أنْ يمرُّوا عليها"([7]).
أقول: الصدْع هو الشِّقُّ كالأُخدود -فتحةٌ ممتدة على مساحةٍ في الأرض- والظاهر من الرواية أنَّ الفلَق فتحةٌ مترامية في عمق جهنَّم مصنَّفة إلى دور وحجرات، ومجهزة بالأفاعي -وهي معنى الأسود- يُعذَّب فيها العصاة والكفار، وأنَّه ما من أحدٍ من أهل النار المستحقين لها إلا ويمرُّ على هذا الموقع ويمكث فيه كما هو مقتضى تصنيفه إلى دورٍ والتي تكون محلاً للسكنى المؤقت أو الدائم. نستجير بالله تعالى ونرجو عفوه.
ولعلَّ المراد من العدد المذكور هو البيان للكثرة وليس التحديد كما هو المتعارف من استعمال عدد السبعين.
الرواية الثانية: ما أورد عليُّ بن إبراهيم القمِّي في تفسيره قال: "الفلق جبٌّ في جهنم يتعوَّذ أهلِ النار من شدَّة حرِّه .. قال: وفي ذلك الجب صندوقٌ من نار يتعوَّذ أهلُ الجبِّ من حرِّ ذلك الصندوق، وهو التابوت، وفي ذلك التابوت ستة من الأولين، وستة من الآخرين، فأما الستَّة التي من الأولين، فابنُ آدم الذي قتل أخاه، ونمرودُ إبراهيم الذي ألقى إبراهيم في النار، وفرعونُ موسى، والسامريُّ الذي اتَّخذ العجل، والذي هوَّد اليهود، والذي نصَّر النصارى، وأمَّا الستة التي من الآخرين فهو .. وصاحب الخوارج، وابنُ ملجم"([8]).
هذا وقد ورد من طرق العامَّة ما يقربُ من معنى صدر الرواية الثانية، فقد أورد الطبري في جامع البيان عن ابن عباس: "أنَّ الفلق سجن في جهنم"، ونقل عن بعض أصحاب رسول الله (ص) "أنَّ الفلق بيتٌ في جهنم، إذ فُتح هرَّ أهل النار أو صاح جميعُ أهل النار من شدَّة حرِّه"، ونقلَ عن بعضهم "أنَّ الفلق اسمٌ من أسماء جهنَّم"([9]).
وأورد السيوطي في الدرِّ المنثور عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الفلق جبٌّ في جهنم مغطَّى"([10]).
وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ قل أعوذ برب الفلق فقال: يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟ قلتُ: اللهُ ورسوله أعلم، قال: "بئرٌ في جهنَّم إذا سعرت جهنَّم فمنه تسعر، وإنَّهاها لتتأذَّى به كما يتأذَّى بنو آدم من جهنَّم". وفي رواية: "هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون وان جهنم لتعوذُ بالله منه". وفي رواية: "الفلق جبٌّ في قعر جهنم عليه غطاء فإذا كشف عنه خرجت منه نار تصيح منه جهنم من شدَّة حر ما يخرج منه"([11]).
أقول: ولا يبعد أنَّ المعاني الثلاثة مرادة من الآية الشريفة، بأن يكون المعنى -المراد واقعاً- معنىً كليَّاً يقبلُ الصدقَ على المعاني الثلاثة، فتكون هذه المعاني المذكورة بمثابة المصاديق أو التطبيقات له، وعلى أيِّ تقدير فالمعاني الثلاثة محتملة، فهو تعالى ربُّ الصبح وربُّ الكائنات التي فلقها عن العدم، وهو كذلك ربُّ الفلق الذي أعدَّه في جهنَّم للعصاة من عباده.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
13 / جمادى الأولى / 1443هـ
18 / ديسمبر / 2021م
[1]- سورة الفلق / 1.
[2]- سورة الشعراء / 63.
[3]- سورة الأنعام / 96.
[4]- مكارم الأخلاق -الطبرسي- ص292، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص257.
[5]- سورة الفلق / 2.
[6]- سورة الأنعام / 95.
[7]- معاني الأخبار -الشيخ الصدوق- ص227.
[8]- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمِّي- ج2 / ص449.
[9]- جامع البيان -الطبري- ج30 / ص455.
[10]- الدرِّ المنثور في التفسير بالمأثور -السيوطي- ج6 / ص325.
[11]- الدرِّ المنثور في التفسير بالمأثور -السيوطي- ج6 / ص418.