(ما) الموصولة في آية المكاتبة

 بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة: 

استوقفتني الآية التالية:

﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ﴾(1).

فهي تتكلَّم عن العبيد -الذين يطلبون المكاتبة، أي دفع مبالغ لسادتهم مقابل تحريرهم- بلفظ (ما) وهي في لغة العرب خطاب للجمادات أو غير العاقل.

 

فهل يسوغ مخاطبة الإنسان بها مع قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾(2).

 

أفيدونا دام فضلكم

 

الجواب:

كلمة "ما" في قوله تعالى: ﴿مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أسم موصول فيكون تقدير الآية هكذا: والذين يبتغون المكاتبة من الذين ملَكتْ أيمانكم، فكلمة "ما" تكون بمعنى الذين وتأتي بمعنى الذي والتي، وهي تُستعمل كثيراً لغير العاقل، وعلى خلاف ذلك كلمة "مَن" التي هي اسم موصول أيضاً -بمعنى الذين والذي والتي- فإنَّها كثيراً ما تُستعمل للعاقل. إلا أنَّ ذلك ليس مطَّرداً.

 

فكما تُستعمل كلمة "ما" كثيراً لغير العاقل كذلك يكثرُ استعمال "ما" للعاقل، وكما تُستعمل كلمة "مَن" الموصولة كثيراً للعاقل، كذلك يكثرُ استعمال "مَن" لغير العاقل

لذلك قالوا: "والعرب يُعقِّب ما مَن، ومَن ما" أي أنَّ العرب تستعمل "ما" الموصولة في موضع "مَن الموصولة" وتستعمل "مَن" الموصولة في موضع "ما" الموصولة"(3).

 

ولتأكيد ذلك نذكرُ نماذج استعمل القرآنُ فيها كلمة "ما" للعاقل، واستعمل فيها كلمة "مَن" لغير العاقل:

 

النموذج الأول: قوله تعالى: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾(4) أي ولا أنتم عابدون الذي أعبد، والذي يعبدُه النبيُّ محمد (ص) هو الله جلَّ وعلا، فهل استُعملت "ما" في الآية لغير العاقل؟! وهل أراد القرآن الانتقاص من شأن الله جلَّ وعلا؟!

 

النموذج الثاني: قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا / وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا / وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾(5) فكلمة "ما" في الآيات الثلاث موصولة بمعنى الذي أي أُقسم بالسماء والذي بناها، وأُقسم بالأرض والذي طحاها، وأُقسم بالنفسِ والذي سوَّاها، والضمير في صلة الموصول للآيات الثلاث يعود على الله تعالى، فهو الذي بنى السماء، والذي طحا الأرض، وهو الذي سوَّى النفس ورغم ذلك استُعملت له كلمة "ما" الموصولة.

 

النموذج الثالث: قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرً﴾(6) أي نذرتُ لك الحمل الذي في بطني، والحملُ الذي في بطن زوجة عمران إمَّا أن يكون ذكراً، وإمَّا أنْ يكون أنثى، وعلى كلا التقديرين هو إنسانٌ عاقل، ورغم ذلك استعملت الآية لوصفه كلمة "ما" الموصولة ولم تستعمل كلمة "مَن الموصولة".

 

النموذج الرابع: قوله تعالى: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾(7) فالآية تُقسم بالوالد وهو آدم (ع) والذي ولَد وهم ذرية آدم (ع)، وقيل الوالد آدم والذي ولد هو الأنبياء والأوصياء (ع)، وعلى أيِّ تقدير فالآية استعملت "ما" الموصولة للعاقل.

 

النموذج الخامس: قوله تعالى: قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ / قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾(8) أي قال فرعون: ومَن ربُّ العالمين، فاستعملت الآية "ما" في موضع "من" رغم أنَّ الموصوف بها هو ربُّ العالمين.

 

النموذج السادس: قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾(9) أي وأُقسم بمَن خلق الذكر والأنثى وهو الله جلَّ وعلا فاستعملت الآية "ما" في موضع "من"

 

النموذج السابع: قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾(10) فالذي يمشي على بطنه هي الزواحف وهي غير عاقلة، والذي يمشي على أربع هي البهائم وهي غير عاقلة ورغم ذلك استعمل القرآن في الموردين كلمة "مَن" الموصولة، فهو قد استعمل "من" لغير العاقل.

 

النموذج الثامن: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾(11) فالمقصود من قوله: ﴿مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ هي الأصنام ورغم ذلك استُعملت لوصفها كلمة "مَن" الموصولة.

 

ومن موارد استعمال العرب لكلمة "ما" الموصولة للعاقل ما حكاه أبو عمرو بن العلاء: أنَّ أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: (سبحان ما يُسبِّح له الرعد)(12) يعني سبحان الذي يسبح له الرعد، وهو الله تعالى فاستعملوا كلمة "ما" رغم أنَّ الموصوف بها هو الله جلَّ وعلا.

 

ومنه ما حكاه ما حكاه أبو زيد عن العرب من قوله: "سبحان ما سخركنَّ لنا"(13). أي سبحان الذي سخركنَّ لنا فاستعملت ما للعاقل. وحكى أبو زيد عن أهل الحجاز أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: (سبحان ما سبحت له)(14).

 

ومن موارد استعمالهم كلمة "من الموصولة" لغير العاقل قول الشاعر:

أسربَ القطا هل مَن يعير جناحه ** لعلِّي إلى مَن قد هويت أطير (15)

فهنا استعمل الشاعر كلمة "مَن" لغير العاقل وهي سِرْبُ طيور القطا

 

ومن ذلك قول امرئ القيس:

أَلاَ عِمْ صَباَحاً أَيُّهاَ الطّلَلُ البَالِي ** وَهَلْ يَعِمَن مَنْ كَانَ في العُصُرِ الَخْالِي (16)

 

يعني وهل ينعمن مَن كان في العصر الخالي فاستعمل الشاعر كلمة "من" وصفاً للأطلال وهي جماد.

 

والمتحصَّل أنَّ استعمال "ما" الموصولة في موضع "من" لا يعني الانتقاص من المستعمل فيه والقرينة القطعيَّة على ذلك هو أن القرآن الكريم استعمل "ما" الموصولة وصفاً لله جلَّ وعلا كقوله تعالى: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا / وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا / وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾.

 

هذا وقد وصفَهم القرآن بالإخوان في الدين في قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾(17) وهو أبلغُ وصفٍ للتعبير عن التكريم والمساواة، وفي ذلك قرينة أخرى على أنَّ الإشارة إليهم في آياتٍ أخرى بـ "ما" الموصولة لم يكن لغرض الانتقاص بل لأنَّ "ما" و"مَن" يُستعمل كلٌّ منهما في موضع الآخر.

 

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

25 / جمادى الأولى / 1443ه

30 / ديسمبر / 2021م

_______________________________

[1]- سورة النور / 33.

[2]- سورة الإسراء / 70.

[3]- الكشف والبيان عن تفسير القرآن -الثعلبي- ت427: ج3 / ص246، معالم التنزيل في تفسير القرآن -البغوي- ت510: ج1 / ص391.

[4]- سورة الكافرون / 3، 5.

[5]- سورة الشمس / 5، 6، 7.

[6]- سورة آل عمران / 35.

[7]- سورة البلد / 3.

[8]- سورة الشعراء / 23.

[9]- سورة الليل / 3.

[10]- سورة النور / 45.

[11]- سورة الأحقاف / 5.

[12]- الكشف والبيان عن تفسير القرآن -الثعلبي- ت427: ج3 / ص246.

[13]- خزانة الأدب -البغدادي- ج6 / ص57.

[14]- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج9 / ص382.

[15]- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك -ابن هشام الأنصاري- ص31، شرح ابن عقيل -ابن عقيل الهمداني- ج1 / ص148.

[16]- معجم مقاييس اللغة -ابن فارس- ج4 / ص341.

[17]- سورة الأحزاب / 5.