معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمَّد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾(1)، ما هو المقصود من قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾؟

 

الجواب:

المقصود من ذلك هو امتناع دخول المكذِّبين بآيات الله للجنَّة، لأنَّ الآية الشريفة علَّقت دخولهم الجنَّة على امكانيَّة دخول الجمل وهو البعير مِن ثقب الخياط وهي الإبرة، وحيث إنَّ دخول البعير من ثُقب الخياط مستحيل لذلك فدخولُ المكذِّبين بآيات الله للجنَّة مستحيل، لأنَّ المعلَّق على المُحال مُحال. فالآية سِيقت لغرض التأكيد على عدم دخول الكافرين الجاحدين بآيات الله للجنَّة وأنَّهم محرومون من دخولها أبداً.

 

وبيان ذلك:

إنَّ الآية تنفي دخول الجاحدين بآيات الله تعالى للجنَّة إلا أنْ يلجَ الجمل في سمِّ الخياط، ومعنى "يلج" يدخل مِن ولَج يلجُ ولوجاً وهو الدخول بمعنى النفوذ في الشيء كما في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها﴾(2).

 

ومعنى الجَمَل -بفتح الجيم والميم- هو البعير -كما أفاد ذلك أكثر المفسِّرين(3)- وهو الحيوان المعروف والذي هو ابن الناقة وزوج الناقة.

 

هذا وقد نُسب إلى ابن عبَّاس قراءة الجمل بضمِّ الجيم وتشديد الميم كالقمَّل، ولهذا فُسَّر الجُمَّل بالحبل الغليظ، والحبل الذي تُشدُّ به السفينة، والحبل الذي يُصعد به النخل، ونُسب إلى سعيد بن جبير قراءة الجمل بضمِّ الجيم وفتح الميم المخفَّفة، ونسب إليه أيضاً وكذلك لغيره القراءة بتسكين الميم يعني ضم الجيم وتسكين الميم، ومعناه القلس الغليظ، لأنه حبال جُمعت وجعلت جُملة واحدة قيل إنَّه يُتَّخذ من الليف أو الخوص، وقيل من نبات القنب(4).

 

وأما معنى السَّمّ بفتح السين -كما في الآية- وكذلك السُّمّ بضمِّ السين فهو كلُّ ثقبٍ ضيّق كخرق الإبرة، وثقب الأنف، والأذن، وجمعه سُمُومٌ، وسمَّه أي دخل فيه(5)، وسُمِّي السمُّ القاتل بالسم لأنَّه يدخل من المسام الضيِّقة بلطف إلى الباطن فيفتك به، وكذلك يُقال للخاصَّة السامَّة الذين يتداخلون في بواطن الأمر.

 

وأمَّا معنى الخياط فهو اسم الآلة التي يُخاط بها وهي الإبرة، ويُقال لها المِخيَط كالإزار والمئز واللِّحاف والمِلحَف.

 

وباتِّضاح مفردات الآية يتَّضح المراد منها وأنَّها بصدد التأكيد على امتناع دخول الجاحدين بآيات الله للجنَّة، ولا يضرُّ بإفادة هذا المعنى قراءة الجمل بضمِّ الجيم - والتي وُصفت بالشاذَّة(6) فإنَّ تفسير الجمل بالحبل الغليظ وإنْ كان منافياً لما عليه الأكثر فإنَّه لا يضرُّ بالمعنى المراد من الآية، لأنَّ غرض الآية الشريفة هو إفادة استحالة دخول الجاحدين بآيات الله للجنَّة وذلك من طريق تعليق دخولهم على أمرٍ ممتنع الوقوع، ومن الواضح أنَّه كما يمتنع دخول البعير في ثقب الإبرة كذلك يمتنع دخول الحبل الغليظ في ثقب الإبرة. وإنْ كان تعليق دخول الجنَّة على دخول البعير في ثقب الإبرة أبلغ، وذلك لأنَّ البعير هو أعظم الحيوانات المتعارفة حجماً، وثقبُ الإبرة هو أضيقُ المنافذ، فتعليقُ دخول الجنَّة على ولوج البعير في منفذ الإبرة فيه مبالغةٌ شديدة لإفادة الاستحالة وتأكيد النفي، وهي كذلك أبلغ في بعث اليأس في قلوب الجاحدين من دخول الجنَّة.

 

وكيف كان فمساق الآية هو مساق قول العرب لا يقعُ هذا الأمر حتى يشيبَ الغراب ويبيَّضَّ القار كما قال الشاعر:

 

إذا شابَ الغرابُ أتيتُ أهلي ** وصارَ القارُ كاللَّبن الحليب(7) 

 

يُريد بذلك أنَّه لن يأتيَ أهله أبداً، لأنَّ الغراب لن يشيب ولن يستحيل لونُ ريشه إلى البياض البتَّة، وكذلك فإنَّ القار أو القير الأسود لن يُصبحَ يوماً ما كاللَّبنِ الحليب.

 

هذا وقد ورد في المأثور بسندٍ معتبر عن عليِّ بن إبراهيم القمِّي قال: حدثني أبي عن فضالة بن أيوب عن أبان بن عثمان عن ضريس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلتْ هذه الآية في طلحة والزبير وجملِهم"(8).

 

وروى العياشي مثله في تفسيره عن منصور بن يونس عن رجلٍ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ نزلت في طلحة والزبير والجمل جملهم"(9).

 

والمراد من نزولها في المذكورين هو انطباقها عليهم لا أنَّهم سببُ نزولها، وهذا ما يُعبَّر عنه في علوم القرآن بالجري والانطباق أو التطبيق، فالإمام (ع) بحسب الرواية كان بصدد تطبيق الآية عليهم وليس بصدد حصرها بهم فإنَّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

2 / رجب / 1443ه

4 / فبراير / 2022م 

--------------------------------------------------------------------

[1]- سورة الأعراف / 40.

[2]- سورة سبأ / 2، سورة الحديد / 4.

[3]- التبيان في تفسير القرآن -الطوسي- ج4 / ص400.

[4]- لاحظ: تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج4 / ص252، معاني القرآن -النحاس- ج3 / ص36، زاد المسير -ابن الجوزي- ج3 / ص135.

[5]- لاحظ: مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص424.

[6]- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج4 / ص252.

[7]- تفسير السمعاني -السمعاني- ج2 / ص182.

[8]- تفسير القمِّي -القمي- ج1 / ص230.

[9]- تفسير العياشي -العياشي- ج2 / ص17.