الإشكال في إعراب: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ..﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى من سورة الأنبياء: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾(1) لماذا أسندت الآيةُ الشريفة الفعل "أسرَّ" إلى فاعلَين أحدهما مضمر أعني واو الجماعة، والثاني مظهَر وهو: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؟ أليس ذلك منافياً لما تقتضيه قواعد النحو؟

 

الجواب:

لم تُسنِد الآيةُ الفعلَ "أسرَّ" إلى فاعلَين بل هو مُسندٌ إلى فاعلٍ واحد وهو ضمير الجمع، فأسرَّ فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضمير الجمع الغائب المعبَّر عنه بواو الجماعة، فأسرَّ فعلٌ والواو فاعل.

 

وأما قوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ففيه وجوه أهمُّها:

 

الوجه الأول: هو أنَّه مفعولٌ به لفعلٍ محذوف تقديره أعني أو أخصُّ، فيكون تقدير الآية وأسرُّوا النجوى أعني وأقصدُ الذين ظلموا أو أخصُّ الذين ظلموا، فيكون قوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بمثابة التفسير والإيضاح للمراد من ضمير الجمع الغائب في قوله: ﴿وَأَسَرُّوا﴾.

 

الوجه الثاني: أنَّ إعراب: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ خبرٌ لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم الذين ظلموا، فيكون مفاد الآية أنَّ الذين أسرُّوا النجوى هم الذين ظلموا، ففاعل الفعل أسرُّوا مُضمَر تمَّ تفسيره بالاسم الموصول وصلته أي أنَّ واو الجماعة والذي هو في موضع الفاعل للفعل أسرَّ قد تمَّ تفسيرُه بالذين ظلموا.

 

الوجه الثالث: أنَّ إعراب: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بدل عن الفاعل يعني أنَّ فاعل أسرَّ هو ضمير الجمع الغائب "الواو"، وأما فقرة: {الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فهي في موضع البدل عن الفاعل، والبدل كما هو معلوم من التوابع يُؤتى به لغرض البيان والتوضيح.

 

فهذه الوجوه الثلاثة متَّحدة في البناء على أنَّ الفاعل للفعل "أسرَّ" هو ضمير الجمع الغائب أعني واو الجماعة، وأما فقرة: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فالغرض من سَوْقِها هو البيان أو الذم للفاعل المُضمر، وليست هي فاعل كما توهَّم السائل.

 

فلو أنَّ الآية الشريفة اقتصرتْ على فقرة: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ لتوهَّم المتلقِّي للخطاب أنَّ المقصودين مِن ضمير الجمع هم عموم الناس الذين تحدَّثت عنهم الآية السابقة وهي قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُم﴾(2) إلا أنَّ الآية حين عقَّبت قوله: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ بقوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ علمنا أنَّ الذين أسرَّوا النجوى هم خصوص الظالمين أو قل هم الموسومون بالظلم من الناس، فليس جميعهم قد أسرَّ النجوى بل هم خصوص الذين ظلموا، ولذلك ناسب أنْ نُعرِب فقرة: {الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ مفعولاً به لفعلٍ محذوف تقديره أعني أو أخصُّ، هذا بناءً على الوجه الأول والذي هو أظهر الوجوه.

 

وأمَّا بناءً على الوجه الثاني والثالث ففائدة قوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ هو توصيف واقع الذين أسرُّوا النجوى وذمِّهم والتنبيه على أنَّهم ظالمون فيما يتناجون به، ولولا فقرة: {الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ لكانت الآية قاصرة عن أداء تمام الغرض، فالآية تستهدفُ البيان لواقعِهم وذمِّهم بما هو شنيع والتنبيه لهم على ترك ما هم عليه، وتنبيه الآخرين على الحذر من أثر مناجاتهم، ومجموع هذا الغرض لا يتحقَّق لو اقتصرت الآية على فقرة: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾.

 

قد يُقال: يُمكن أداء هذا الغرض بجعل الذين ظلموا فاعلاً للفعل "أسرَّ" دون الحاجة إلى جعله ضمير جمع ثم تفسيره بالذين ظلموا، فيُمكن أنْ يُقال لتحقيق الغرض المذكور: وأسرَّ الذين ظلموا النجوى.

 

والجواب أنَّ الغرض المذكور وإنْ كان يتحقَّق حين جعل الذين ظلموا فاعلاً للفعل أسرَّ ولكن المتلقِّي للخطاب سوف يتوهَّم أنَّ فقرة وأسرَّ الذين ظلموا جملة مستأنفة منفصلة عمَّا سبقها، فيفوت بذلك غرضُ الآية من جعل فقرة: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ متصلاً بالفقرات التي سبقتها وأنَّ الذين أسرُّوا النجوى هم ذاتهم الذين وصفتهم الفقرات السابقة بالغفلة والإعراض واللَّعب واللَّهو، فلا يؤدَّى الغرضان إلا بما جاء في الآية الشريفة.

 

الإعراب على لغة "أكلوني البراغيث":

هذا ويُمكن إعراب الآية على لغة "أكلوني البراغيث" وهي لغةٌ فصيحة معروفة منسوبة إلى قبيلة طيء (3)، ونسبها بعضُهم إلى قبيلة بني الكعب بن الحارث (4) ونُسبت كذلك إلى لغة الإزد شنوءة (5) ولعلَّها لغة لعموم هذه القبائل، وبناءً على هذه اللُّغة يكون الفاعل للفعل أكل هو البراغيث، وأمَّا الواو في أكلوني فهي مجرَّد علامة على الجمع لا محلَّ لها من الإعراب وكذلك يقال مثلاً -بناءً على هذه اللَّغة- ضرباني أخواك، فالفاعل للفعل ضرب هو أخواك، وأما الألف في "ضرباني" فهو علامة على التثنية لا محلَّ لها من الإعراب تماماً كما هي التاء الداخلة على الفعل الماضي مثل "ضربتْ هند" فإنَّها أي التاء علامة على التأنيث وليس لها محلٌّ من الإعراب.

 

وعليه فالفاعل في قوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ هو ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وأمَّا الواو في أسرُّوا فهو علامة على الجمع لا محلَّ لها من الإعراب.

 

وقد ورد في أشعار العرب استعمال هذه الَّلغة، ومِن أمثلة ذلك:

يَلومونَني في اشتراء النخيل ** أهلي فكلُّهم يعذلُ (6)

 

فالفاعل -بناء على هذه اللَّغة- للفعل "يلومون" هو قوله: "أهلي" وأما الواو في يلومون فهو علامة على الجمع.

 

ومنه: قول الشاعر:

يَلومونَني في حبِّ ليلى عواذلي ** ولكنَّني من حبِّها لعميدُ (7)

 

فعواذلي هو فاعل "يلومون" وأمَّا الواو فهي علامة على الجمع لا محلَّ لها من الإعراب.

 

ومنه: قول الشاعر:

تولَّى قتالَ المارقين بنفسِه ** وقد أسلماهُ مبعدٌ وحميمٌ(8)

 

فالفاعل للفعل "أسلماه" هو مبعدٌ وحميم، وأمَّا في الألف في أسلماهُ فهو علامة على التثنية لا محلَّ له من الإعراب.

 

ومن ذلك يتبيَّن أنَّه يمكن اعتبار {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هو الفاعل للفعل "أسرُّوا" وتكون الواو علامة على الجمع وليست فاعلاً، فلا يكون الفعل أسرَّ قد أُسند إلى فاعلين ولكنَّه ورغم صحَّة هذا الإعراب إلا أنَّه لا موجب للبناء عليه، بل لا مصحِّح له، فهذه اللغة وإن كانت مستعملة إلا أنَّ القرآن يُحمل على الأفصح من كلام العرب، والأفصح هو حمل فقرة: {الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ على أنَّها بدل أو هي في محلِّ مفعول به لفعلٍ محذوف تقديره أعني أو أخص.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

9 / رجب المرجب / 1443ه

11 / فبراير / 2022م

______________________________________

[1]- سورة الأنبياء / 3.

[2]- سورة الأنبياء / 1، 2، 3.

[3]- النهاية في غريب الحديث والأثر -ابن الأثير ج3 / ص297، لسان العرب ج3/ 303، تفسير البحر المحيط -أبو حيان الأندلسي- ج8 / ص174.

[4]- التسهيل لعلوم التنزيل -الغرناطي الكلبي-ج2 / ص18.

[5]- تفسير البحر المحيط -أبو حيان الأندلسي- ج6 / ص275.

[6]- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج 3 / ص388.

[7]- شرح ابن عقيل -ابن عقيل الهمداني- ج1 / ص363.

[8]- شرح ابن عقيل -ابن عقيل الهمداني- ج1 / ص469.