هل عيَّر أبو ذر بلالاً بأمِّه؟! 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما مدى صحَّة الرواية المشهورة والتي مفادها أنَّ أبا ذر (رضوان الله عليه) قد اختلف مع بلالٍ (رضي الله عنه) فعيّره بأُمِّه وقال له: يا بن السوداء فشكاه بلال إلى رسول الله (ص)؟

 

أليس ذلك منافياً للحديث الذي يصف أبا ذر بأنَّه: "ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر"؟

 

الجواب:

الرواية المشار إليها لم ترد في شيءٍ من طُرقنا وإنَّما وردت في بعض طُرق العامَّة، فقد أوردها ابن بطَّال في شرح صحيح البخاري قال:

 

روى الوليد بن مسلم، عن أبى بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: كان بين أبى ذر وبين بلال محاورة، فعيره أبو ذر بسواد أمه، فانطلق بلال إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فشكى إليه تعييره بذلك، فأمره رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ يدعوه، فلمَّا جاءه أبو ذر، قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): شتمتَ بلالاً وعيَّرته بسواد أمه؟ قال: نعم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كنتُ أحسبُ أنَّه بقي في صدرك مِن كِبْر الجاهلية شيء، فألقى أبو ذر نفسَه بالأرض، ثم وضعَ خدَّه على التراب، وقال: والله لا أرفعُ خدِّى من التراب حتى يطأ بلالٌ خدِّى بقدمِه، فوطأ خدَّه بقدمه"(1).

 

التعليق على سند الرواية:

وهذه الرواية ضعيفة السند حتى بناءً على مسلك العامَّة فراويها ضمرة بن حبيب من طبقة التابعين فهو لم يُدرك زمن الواقعة التي ينقلها ولم يذكر اسم مَن أخذ عنه الخبر لذلك فالرواية مرسلة، وكذلك فإنَّ سندها مشتملٌ على أبي بكر بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف كما في العلل لأحمد بن حنبل قال عنه: ضعيف الحديث (2)، وفي الكامل للجرجاني عن يحيى قال أبو بكر بن أبي مريم الغساني شامي ضعيف الحديث ليس بشيء وهذا مثل الأحوص بن حكيم ليس بشيء قال: حدثنا ابن حماد قال وحدثني عبد الله سُئل أبي عن أبي بكر بن أبي مريم قال كان عيسى بن يونس لا يرضاه .."(3). 

 

الرواية من طريقٍ آخر:

هذا وقد أورد الرواية -مع اختلافٍ في المتن- البيهقي في شُعَب الإيمان من طريقٍ قال: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنا أحمد بن عبيد حدثنا أبو شعيب الحراني حدثني أحمد بن أبي شعيب حدثنا موسى بن أعين عن خالد بن يزيد حدثنا أبو عبد الملك عن القاسم عن أبي أمامة قال: عيَّر أبو ذر بلالاً بأُمِّه فقال: يا بن السوداء، وإنَّ بلالاً أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره فغضب، فجاء أبو ذر ولم يشعر فأعرضَ عنه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما أعرضَك عني إلا بلغك يا رسول الله قال: أنت الذي تُعيِّر بلالاً بأُمِّه قال: النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي أنزل الكتاب على محمَّد أو ما شاء اللهُ أنْ يحلف ما لأحدٍ على أحدٍ فضل إلا بعمل، إن أنتم إلا كطف الصاع"(4).

 

وسندُ هذه الرواية ضعيف أيضاً لاشتماله على مثل أبي عبد الملك قال الذهبي في ميزان الاعتدال: علي بن يزيد الألهاني الشامي .. يكنى أبا عبد الملك. قال البخاري: منكرُ الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال الدارقطني: متروك .."(5).

 

رواية أخرى قريبة المضمون:

فالرواية بكلا طريقها ضعيفة السند حتى على مباني العامَّة، نعم أورد البخاري في صحيحه وكذلك مسلم في صحيحه وغيرهما رواية قريبة المضمون من هذه الرواية قال -البخاري- حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن واصل عن المعرور قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببتُ رجلاً فعيَّرته بأُمِّه فقال لي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر أعيَّرته بأمِّه إنَّك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمَن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإنْ كلفتموهم فأعينوهم"(6) وأوردها من طريقٍ آخر ينتهي إلى المعرور بن سويد (7) وكذلك أوردها مسلم في صحيحه قال: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدَّثنا وكيع، حدَّثنا الأعمش عن المعرور بن سويد قال: مررنا بابى ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعتَ بينهما كانت حلَّة فقال: إنه كان بيني وبين رجلٍ من إخواني كلام وكانت أُمُّه أعجمية، فعيَّرته بأُمِّه، فشكاني إلى النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فلقيتُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أبا ذر إنَّك امرؤ فيك جاهلية، قلتُ: يا رسول الله من سبَّ الرجال سبُّوا أباه وأمه، قال: يا أبا ذر إنَّك امرؤ فيك جاهليَّة هم إخوانُكم جعلهم اللهُ تحت أيديكم، فأطعموهم ممَّا تأكلون، والبسوهم ممَّا تلبسون، ولا تكلِّفوهم ما يَغلبهم فإنْ كلَّفتموهم فأعينوهم"(8) وذكرها آخرون بطُرق مختلفة ولكنه تنتهي جميعا إلى المعرور بن سويد.

 

وهذه الرواية بمختلف طُرقها ومتونها لم تشتمل على أنَّ الرجل الذي عيَّره أبو ذر هو بلال كما أنَّها لم تشتمل على أنَّه عيَّره بسواد أمِّه فلعلَّه عيَّره بعجمتها أي أنَّها غير عربيَّة كما يُستشعر ذلك من بعض متون الرواية ثم إنَّ الظاهر من الرواية أنَّ كلاً منهما سبَّ الآخر، ويظهر من بعض متون الرواية أنَّ أبا ذر لم يكن هو البادئ بالسب بقرينة قوله للرسول (ص): "قلتُ: يا رسول الله من سبَّ الرجال سبُّوا أباه وأمَّه". ثم إنَّ الظاهر أو المُستشعَر من ذيل الرواية أنَّ المسبوب كان فتىً مرقوقاً لأبي ذر (رحمه الله). 

 

وعلى أيِّ تقدير فالرواية بمختلف متونها وطُرقها لا تصحُّ عندنا لاشتمال أسانيدها على مَن لم تثبت وثاقته عندنا، على أنَّ صدور الفعل المذكور في الرواية من أبي ذر (رضوان الله عليه) وإنْ كان مُحتمَلاً نظراً لعدم عصمته إلا أنَّه مستبعَدٌ غايته، وذلك لما عُرف عنه من كريم الخُلق وشديد التواضع حتى ورد في حقِّه كما في المصنَّف لابن أبي شيبة قال: حدَّثنا يزيد عن أبي أمية بن يعلى الثقفي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدقُ من أبي ذر، ومَن سرَّه أنْ ينظرَ إلى تواضعِ عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر"(9).

 

وفي فيض القدير للمناوي قال: ورواه أحمد بلفظ: "مَن أحبَّ أن ينظر إلى تواضعِ عيسى بن مريم إلى ربِّه وصدقِه وجدِّه فلينظر إلى أبي ذر" قال الهيثمي: رجاله وثقوا، ورواه البزَّار عن أبي مسعود بلفظ: مَن سرَّه أنْ ينظر إلى شبيه عيسى خَلقاً وخُلُقاً فلينظر إلى أبي ذر" قال الهيثمي: رجاله ثقات"(10).

 

وقال الألباني في كتابه صحيح الجامع الصغير: "من سرَّه أن ينظر إلى تواضعِ عيسى فلينظر إلى أبي ذر" صحيح(11).

 

فمَن كان شبيه نبيِّ الله عيسى (ع) في تواضعِه وسموِّ أخلاقه لا تصدر منه هذه الهفوة التي لا تصدر إلا ممَّن انطوى قلبُه على شيءٍ من كِبْر، ومثله منزَّهٌ عن ذلك وإلا لَما استحقَّ هذا الوسام الذي توَّجهُ به رسولُ الله (ص) حيث شبَّهه بواحدٍ من أنبياءِ أُولي العزم في تواضعِه وسموِّ أخلاقه، هذا مضافاً إلى الروايات المستفيضة عن الرسول (ص) في الثناء عليه وأنَّ الجنَّة تشتاقُ إليه وإلى عليٍّ (ع) وإلى عمَّار وسلمان (12) وأنَّ الله تعالى أخبر نبيَّه (ص) بحبِّه وحبِّ عليٍّ والمقداد بن الأسود وأمره بحبِّهم (13)، فمثلُ هذه المضامين المأثورة عن الرسول الكريم (ص) تكشفُ عن أنَّ أبا ذر قد بلغ من كمال الإيمان والتقوى والخُلق الرفيع مبلغاً يمتنع على مَن وجدَه الوقوع في مثل هذه السقطات التي لا تكاد تصدرُ عمَّن هو دونه بمراتب، خصوصا وأنَّ الواقعة المزعومة لو حدثت فإنَّها لن تكون بحسب مقتضيات تاريخ السيرة إلا في العهد المدني فلم يكن أبو ذر حينها حديث عهدٍ بالإسلام فهو من أوائل من أسلموا في مكة فلتكن هذه قرينة مقتضية للارتياب في صحَّة الرواية المذكورة وأنَّها مِن وضْعِ الأمويين الذين لم يكن يُعجبهم أبو ذر لشديد ولائه للإمام عليٍّ (ع) وكان يُزعجهم بإصحاره بالحقِّ ونقْدِه اللاذعِ لثرائهم واكتنازهم للأموال.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / شوال / 1443ه

8 / مايو / 2022م

------------------------------------------

1- شرح صحيح البخاري -ابن بطال أبو الحسن ابن خلف بن عبد الملك المتوفى سنة 449ه- ج1 / ص88.

2- العلل -أحمد بن حنبل- ج3 / ص99.

3- الكامل -عبد الله بن عدي الجرجاني- ج2 / ص36. 

4-شعب الإيمان -أحمد بن الحسين البيهقي- ج4 / ص288، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج10 / ص464.

5- ميزان الاعتدال -الذهبي- ج3 / ص161. 

6- صحيح البخاري -البخاري- ج1 / ص13.

7- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص85.

8- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج5/ 93.

9- المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص526، وورد صدر الحديث في مسند أحمد ج2 / ص223، ج5 / ص197، سنن الترمذي ج5 / ص334، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص211، 242، 343، معاني الأخبار -الصدوق- ص179، كفاية الأثر -الخزاز القمي- ص71، الأمالي -الطوسي- ص710، الاحتجاج -الطبرسي- ج1 / ص387، وغيرهم.

10- شرح القدير في شرح الجامع الصغير -المناوي- ج 6 / ص196.

11- وقال صحيح الجامع الصغير- الألباني- ج2 / ص1079.

12- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج21 / ص411، المعجم الأوسط -الطبراني- ج7 / ص305، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص155، الخصال -الشيخ الصدوق- ص303، عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج2 / ص72,

13- المعجم الأوسط -الطبراني- ج7 / ص157، مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج12 / ص143، قرب الاسناد -الحميري القمي- ص56، الخصال -الشيخ الصدوق- ص253، عيون أخبار الرضا (ع) ج2 / ص36، الأمالي -الشيخ المفيد- ص125، مناقب علي بن أبي طالب -ابن المغازلي- ص231.