التدليس والكذب المُفترَع

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

وبِهَذَا الإِسْنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَفَعَه قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) إِيَّاكُمْ والْكَذِبَ الْمُفْتَرِعَ قِيلَ لَه: ومَا الْكَذِبُ الْمُفْتَرعُ؟ قَالَ: أَنْ يُحَدِّثَكَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ فَتَتْرُكَه وتَرْوِيَه عَنِ الَّذِي حَدَّثَكَ عَنْه"(1).

 

ما هو المراد من الكذب المُفترَع؟

 

الجواب:

قد بيَّن الإمام (ع) -بحسب الرواية- مراده من الكذب المُفترَع فأفاد بأنَّ المراد منه ما يُعبَّر عنه في علم الدراية بالتدليس، وهو أنْ يتجاوز الراوي الواسطة التي سمِع منها الحديث ويرويه عمَّن رواه للواسطة، فيُوهِم المتلقِّي أنَّه سمع الحديث عن الرواي للواسطة مباشرةً، فهذا هو مراد الإمام (ع) -ظاهراُ- من الكذب المُفترَع.

 

وتوضيح ذلك:

لو روى زيدٌ لخالدٍ حديثاً عن صحابيٍّ عن رسول الله (ص) فزيدٌ هو الواسطة بين خالد وبين الصحابي، فلو أنَّ خالداً جلس للناس فقال: حدَّثني الصحابي فلان عن رسول الله (ص) فخالدٌ هذا كذَّاب مدلِّس لأنَّ الصحابي لم يُحدِّثه، والذي حدَّثه إنَّما هو زيدٌ عن الصحابي، فهو قد حذف الواسطة ليُوهِم الناس أنَّه تلقَّى الحديث عن الصحابي مباشرة.

 

غايات المدلِّسين:

وهذا النحو من التدليس يتعاطاه بعضُ المحدِّثين لغاياتٍ مختلفة، فبعضُهم يحذف الواسطة ويروي الحديث عمَّن رواه للواسطة ليُوهِم الناس بأنَّ الراوي للواسطة من مشايخه ليكتسب بذلك شرفاً ومكانة، فقد يتَّفق أنَّ الراوي للواسطة من المشايخ ذوي المنزلة الرفيعة، فهو يدَّعي أنَّه يروي عنه مباشرة ليُوهم الناس أنَّه من تلامذته فيكتسب بذلك منزلةً عند الناس.

 

فمثلاً: زيد لم يلتقِ بزرارة ولم يسمع منه الحديث ولكنَّه اِلتقى بأحد تلامذته وسمِع منه الحديث، فحين يُحدِّث زيدٌ الناس فيقول حدَّثني زرارة أو عن زرارة أو قال زرارة فيحذف الواسطة بينه وبين زرارة فهو مدلِّس لأنَّ زرارة لم يحدِّثه وإنَّما حدَّثه تلميذه فكان يجب عليه أن يقول حدَّثني تلميذ زرارة عن زرارة، فهو قد حذف اسم التلميذ ليُوهِم الناس أنَّ زرارة من مشايخه فيكتسب بذلك منزلةً عند الناس.

 

وقد يكون غرضه من حذف الواسطة هو علمه أنَّ الواسطة غيرُ ثقة أو متَّهم بالكذب، فلو أسند الحديث إليه لم يُقبل منه، لذلك فهو يحذف الواسطة ويروي الحديث مباشرةً عمَّن روى للواسطة فيُوهِم الناس أنَّه سمع منه مباشرةً فيسلم حديثه من الحكم عليه بالضعف.

 

فمثلاً: لو سمِع زيدٌ من خالدٍ حديثاً يرويه عن الصحابي فلان، وزيدُ يعلم أنَّ خالداً متَّهم بالكذب، فلو حدَّث الناس عنه لم يقبلوا حديثه فيحذف اسم خالد ويقول حدَّثني الصحابي فلان أو قال الصحابي فلان، فيتوهَّم الناس أنَّه قد سمِع من الصحابي مباشرةً والواقع أنَّه لم يسمع منه مباشرةً وإنَّما سمِع من خالدٍ عن الصحابي، فهو قد حذف اسم خالد حرصاً منه على أنْ يكون حديثه مقبولاً، إذ أنَّه لو حدَّث به عن خالدٍ لم يُقبَل منه لأنَّ خالداً متَّهم.

 

وقد ينسى المحدِّث اسم الواسطة التي بينه وبين رواي الحديث، فلو قال للناس مثلاً حدَّثني رجل عن الصحابي فإنَّ حديثه سيُحكم عليه بالإرسال والضعف لذلك فهو يقول حدَّثني الصحابي فلان أوقال الصحابي فيُوهِم الناس أنَّه قد سمِع منه مباشرةً، وغرضه من ذلك هو إيهام الناس بأنَّ حديثه متَّصل وليس مرسَلاً.

 

وقد يكون غرضه من التدليس وحذف الواسطة هو الخوف، وقد يكون الغرض هو الاستنكاف والاستكبار لأنَّه يرى أنَّ من غير اللائق بمقامه أنْ يروي عن هذه الواسطة الوضيعة بنظره أو المنافسة لذلك يقوم بحذفِها فيروي عن الراوي للواسطة مباشرةً.

 

منشأ التعبير عن التدليس بالكذب المُفترَع:

وأيَّاً كان الغرض فهو مِن التدليس والكذب المُفترَع، ومنشأ التعبير عنه بالمُفترَع هو الإشارة -ظاهراً- إلى أنَّ هذا السلوك امتهنه الكثير من الرواة والمحدِّثين، فهو مفترَع لأنَّ الكثير من الرواة والمحدِّثين خصوصاً من أبناء العامَّة قد سبق لهم أنْ فعلوه، فهو ليس نحواً من الكذب البِكر المستجَد والمستحدَث بل هو كذبٌ قد افترعه وافتضَّ بكارته الكثيرُ ممَّن سبَق مِن المحدِّثين، فالإمام (ع) كان بصدد التحذير من هذا النحو من الكذب الذي افترعه وأزال بكارته الكثيرُ من المحدِّثين. فالإمام (ع) يُحذِّر المخاطَب من سلوك هذا الطريق الذي سلَكه الآخرون في نقلِ الحديث.

 

وقد يكون منشأ وصف الكذب بالمفترع هو أنَّ مثل هذا الكذب يُزيل عن الرواي ما يُوجب قبول روايته، مِن افترع البِكر أي أزال بكارتها، ولو كان هذا الاحتمال هو المراد لكان الوصف -المفترِع- اسم فاعل لا اسم مفعول كما هو مقتضى المعنى الأول، فبناءً على المعنى الأول يكون معنى الكذب المفترع هو الكذب المسبوق والذي أُزيلت بكارته ممَّن سبق، وأمَّا بناءً على الاحتمال الثاني فهو كذبٌ مُزيلٌ للعدالة، وموجبٌ لعدم القبول بالرواية، وهذا الاحتمال مستبَعد لأنَّه ما مِن كذب إلا وهو مُزيل للعدالة ومُوجبٌ لعدم القبول بخبر فاعله، فلا خصوصية لهذا النحو من الكذب وهو التدليس.

 

فالصحيح -ظاهراً- أنَّ منشأ وصف هذا الكذب بالمفترع هو الإشارة إلى أنَّه كذب قد سبق إليه الآخرون من المحدِّثين فالإمام (ع) كان بصدد تحذير المخاطَب من الابتلاء بمثله، فهو إذن مفترَع بصيغة اسم المفعول.

 

وكيف كان فمفاد الرواية هو التحذير من التدليس بالنحو الذي بيَّناه، وقد ورد التحذير منه كذلك في مثل معتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): "إِذَا حَدَّثْتُمْ بِحَدِيثٍ فَأَسْنِدُوه إِلَى الَّذِي حَدَّثَكُمْ فَإِنْ كَانَ حَقّاً فَلَكُمْ وإِنْ كَانَ كَذِباً فَعَلَيْه"(2).

 

التدليس لا يختص بنقل الحديث:

ثم إنَّ التدليس بالمعنى المذكور والذي عبَّرت عنه الرواية بالكذب المُفترع لا يختص بنقل الحديث عن المعصومين (ع) فهو يشمل إيهام الناس بنقل الخبر مباشرةً عن المروي عنه دون واسطة رغم أنَّ الواقع هو أنَّه ينقله بواسطة أو أكثر فيقول مثلاً أخبرني فلان بكذا رغم أنَّ فلان لم يُخبره وإنَّما أخبره غيرُه عنه، فهو قد دلَّس على المتلقِّي للخبر وأوهمه أنَّه يُخبِر عن فلان مباشرةً ودون واسطة فهذا من التدليس والكذب المفترَّع وإنْ لم يكن متَّصلاً بنقل الحديث عن أحد المعصومين (ع) فالتدليس قبيح وشنيع مطلقاً وإنْ كان في نقل الحديث عن أحد المعصومين (ع) أكثر شناعةً وقبحاً.

 

وهنا ينبغي التنبيه على أمرٍ وهو أنَّ الناقل للخبر لو قال: قال فلان رغم عدم سماعه منه مباشرةً لا يكون من التدليس لو كان يعلم أنَّ المتلقِّي لن يتوهَّم أنَّه سمِع من فلان مباشرة لعلمِه مثلاً أنَّه لم يُدركه كما لو قال الراوي في الزمن المتأخِّر قال رسول الله (ص) أو قال أمير المؤمنين (ع) فإنَّه لا يكون مدلِّساً لعلمِه بأنَّ المتلقِّي يعلمُ بأنَّه لم يُدرِك زمن الرسول (ص) فهو إنَّما ينقل خبراً قد بلغه عن الرسول (ص).

 

فقول الناقل للخبر قال فلان لا يكون من التدليس إذا لم يكن قولُه مُوجباً لإيهام السامع أنَّه قد تلقَّاه مباشرة. نعم يكون هذا الخبر مرسَلاً ولكنَّه لا يُحكم على الناقل بأنَّه مدلِّس.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

22 / شوال / 1443ه

23 / مايو / 2022م

---------------------

1- الكافي -الكليني- ج1 / ص52، معاني الأخبار -الصدوق- ص158، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص81.

2- الكافي -الكليني- ج1 / ص52، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص81.