تحديدُ معنى البِكْر

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

البكر الذي يتعيَّن عليها استئذان وليِّها في التزويج هل تشمل مَن ذهبت بكارتها بالزنا ومن ذهبت بكارتُها بغير الوطء كالرياضة مثلاً؟

الجواب:

القدر المتيقَّن ممَّا يصدق عليه عنوان البكر هو المرأة التي لم تتزوَّج ولم تذهب عُذرتها بغيره، فالمرأة المحتفِظة بعُذرتها ولم يسبق لها زواج هي القدر المتيقَّن ممَّا يصدق عليه عنوان البكر.

ويبقى البحث حول أربعة فروض:

الفرض الأول: المرأة التي لم يسبق لها زواج وذهبتْ عُذرتُها بغير الوطء.

الفرض الثاني: المرأة التي لم يسبق لها زواج وذهبت عُذرتها بالزنا أو وطء الشبهة.

الفرض الثالث: المرأة التي سبق لها أنْ تزوَّجت ولكنَّه لم يتم الدخول بها فلم تذهب عُذرتها.

الفرض الرابع: المرأة التي سبق لها أنْ تزوَّجت وتمَّ الدخول بها في غير الموضع، فهي محتفظة بعذرتها رغم أنَّ حكمها حكم المدخول بها.

مَن ذهبت عُذرتها بغير الوطء:

أمَّا الفرض الأول: -وهي المرأة التي لم تتزوَّج وذهبت عُذرتها بغير الوطء كما لو ذهبت لوثبةٍ ثقيلة أو دواءٍ استعملته فأدَّى إلى زوال عُذرتها- فمقتضى الاستعمال اللغوي أنَّ المرأة في هذا الفرض تكون بكراً، وذلك لأنَّ عنوان البكر في استعمال اللغة يُطلق -كما في العين للفراهيدي- على المرأة التي لم تُمسْ بعدُ(1) أي لم يتم الدخول بها، وقال ابن منظور في لسان العرب: والبِكر من النساء هي التي لم يقربْها رجل(2) وعليه فمَن ذهبت عُذرتها دون أنْ يقربها رجل تكون بمقتضى هذا التعريف بِكراً، ولعلَّ مما يُؤيِّد دعوى أنَّ البكر هي التي لم يقربْها رجل وإنْ ذهبت عُذرتها بغير ذلك -كما أفاد السيد الخوئي(3)- قولُه تعالى في سورة الواقعة يصفُ الحور العين في الجنَّة: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً / فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا﴾(4)، فإنَّ وصف الحور بالأبكار قد تمَّ تفسيره في قوله تعالى من سورة الرحمن: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ .. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾(5) فإنَّ الظاهر هو أنَّ هذه الآية من سورة الرحمن متصدّية لبيان المراد من الأبكار في سورة الواقعة.

إلا أنَّ الصحيح هو أنَّ مِن غير المُحرَز عدم أخذ وجود العذرة في صدق عنوان البكر لغةً، فلعلَّ مقصود اللُّغوين من تعريف البكر بأنَّها المرأة التي لم يقربها رجل، لعلَّ مقصودهم من ذلك هو الكناية عن المرأة التي لم تذهب عُذرتها لعدم الدخول بها، فلو كان ذلك هو مرادُهم لكان مقتضاه أنَّ البكر هي الواجدة للخصوصيتين وهي احتفاظها بعُذرتها وعدم دخول رجلٍ بها، وعليه فمَن ذهبتْ عذرتُها لا تكون بكراً وإنْ لم يمسَّها من رجل.

ولعلَّ ممَّا يؤيد أنَّ ذلك هو مرادُهم هو تعريف عددٍ منهم البكر بالعذراء، وظاهر ذلك أنَّ البكر هي المحتفظة بعُذرتها، وكذلك تعريف بعضهم البكر بالجارية التي لم تفتض ولم تُقتض، فالتي ذهبت عُذرتها تكون خارجة موضوعاً، إذ ليس لها ما يُفتض وما يُقتض، وقالوا أيضاً ابتكر الرجل المرأة أي أخذ قضتها أي أخذ عذرتها(6).

الجواب عن الاستشهاد بالآية:

وأمَّا الاستشهاد بالآية من سورة الرحمن فلعلَّها على خلاف ما أفاده السيد الخوئي أدلُّ فإنَّ الآية استعملت لبيان أنَّه لم يدخل بهنَّ مِن قبلُ انسٌ ولا جان استعملت الفعل: ﴿يَطْمِثْهُنَّ﴾ وهو يستبطن معنى الدخول الذي يترتَّب عنه نزول الطمث وهو الدم، ولذلك فسَّر بعض اللُّغوين هذا الفعل بقوله: لم يطمثهن أي لم يدمهن بالنكاح، يقال طُمِثَتْ تُطْمَثُ أَي أُدْمِيَتْ بالاقْتضاض(7)، فالآية لم تقل لم يغشاهنَّ أو لم يمسهنًّ وإنَّما قالت: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ ونزول الدم بالدخول لا يتَّفق عادةً إلا مع وجود العُذرة، فتكون هذه الآية مؤيِّدة لاحتمال أنَّ البكر هي المرأة التي لم تذهب عُذرتها لعدم الدخول بها أي هي الواجدة للخصوصيتين العُذرة وعدم دخول رجلٍ بها.

والمتحصَّل أنَّه لا يُمكن البناء على أنَّ مفهوم البِكر لغةً هي غير المدخول بها مطلقاً وإنْ ذهبت عُذرتُها بغير الدخول، فإنَّ من المُحتمل قويَّاّ اعتبار عدم ذهاب العذرة بغير الدخول مضافاً إلى عدم الدخول، وعليه فإنَّ مِن غير المحرَز صدق عنوان البكر لغةً على من ذهبت عُذرتها وإنْ لم يتم الدخول بها.

هذا بقطع النظر عمَّا أفادته الرواياتُ الواردة عن أهل البيت (ع) فهي وإنْ لم تتصدَّ لبيان حدود مفهوم البِكر إلا أنَّه يُمكن البناء على أنَّ التي لم يتم الدخول بها تكون بكراً وإنْ ذهبت عُذرتها بغير الدخول فإنَّ ذلك هو مقتضى ما يظهر من صحيحة عليِّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: سألتُه عن الرجل، هل يصلحُ له أنْ يُزوِّج ابنته بغير إذنها؟ قال: نعم، ليس يكون للولد أمرٌ إلّا أنْ تكون امرأةٌ قد دُخل بها قبل ذلك، فتلك لا يجوزُ نكاحُها إلّا أنْ تُستأمر"(8).

فمفاد هذه الصحيحة أنَّ التي تُستأمر في نكاحها هي خصوص المرأة التي دُخل بها، ومنها يُعرف أنَّ المراد من البكر -في الروايات التي أفادت أنَّه لا يجوز نكاحها إلا بإذن أبيها- هي التي لم يتم الدخولُ بها، فتكون هذه الرواية -كما أفاد السيد الخوئي(9)- شارحةً للمراد من البِكر التي أفادت الروايات أنَّه يُعتبر في نكاحها إذن أبيها.

وعليه فمَن ذهبتْ عُذرتها بغير الدخول تُعدُّ بكراً حقيقةً أو تنزيلاً، فلا يصحُّ نكاحُها دون إذن أبيها.

من ذهبت عُذرتها بالزنا أو وطء الشبهة:

ومِن ذلك يتَّضحُ الحال في الفرض الثاني وهي التي ذهبتْ عُذرتها بالزنا أو وطء الشبهة فإنَّها لا تُعدُّ بكراً لغةً، لأنَّها فاقدةٌ لكلا الخصوصيتين، فهي بحسب الفرض قد ذهبت عُذرتها وقد تمَّ الدخول بها، فهي من القدر المتيقَّن خروجُه عن عنوان البكر لغةً.

وهي كذلك لا تُعدُّ بكراً بمقتضى إطلاق صحيحة عليِّ بن جعفر إذ أنَّ البكر بحسب مفاد الصحيحة هي التي لم يتم الدخول بها، والموطوءة عن شبهة أو زنا قد تمَّ الدخول، فهي داخلة تحت قوله (ع): "إلّا أنْ تكون امرأةٌ قد دُخل بها قبل ذلك، فتلك لا يجوزُ نكاحُها إلّا أنْ تُستأمر" فلم يقيِّد الإمام (ع) الدخول بالدخول عن نكاحٍ صحيح فيكون مقتضى إطلاقها أنَّ المزنيَّ بها والموطوءة شبهة ليستا من صنف الأبكار اللاتي لا يجوز نكاحهن إلا بإذن الولي.

ما يُستدلُّ به على اعتبار الدخول الصحيح وجوابه:

نعم ثمة روايات قد يُستدلُّ بها على أنَّ المراد من الدخول هو الدخول عن نكاحٍ صحيح

فمِن ذلك صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع أَنَّه قَالَ فِي الْمَرْأَةِ الثَّيِّبِ تَخْطُبُ إِلَى نَفْسِهَا قَالَ هِيَ أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا تُوَلِّي أَمْرَهَا مَنْ شَاءَتْ إِذَا كَانَ كُفْواً بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْ رَجُلاً قَبْلَه"(10).

ومنها: صحيحة الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): الْمَرْأَةُ الثَّيِّبُ تَخْطُبُ إِلَى نَفْسِهَا قَالَ: هِيَ أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا تُوَلِّي أَمْرَهَا مَنْ شَاءَتْ إِذَا كَانَ لَا بَأْسَ بِه بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْ زَوْجاً قَبْلَ ذَلِكَ"(11).

ومنها: رواية عبد الخالق قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الثيب تخطبُ إلى نفسها قال: هي أملكُ بنفسها تولِّي مَن شاءت إذا كان كفواً بعد أنْ تكون قد نكحت زوجاً قبل ذلك"(12).

ومنها: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثيِّب تخطب إلى نفسها؟ قال: نعم، هي أملك بنفسها تولِّي أمرَها مَن شاءت إذا كانت قد تزوَّجت زوجاً قبله"(13).

إلا أنَّ هذه الروايات ليست ظاهرة في حصر الثيِّب التي حكم بأنَّها أملك بنفسها بالمرأة التي سبق لها أنْ تزوَّجت زواجاً صحيحاً بل الظاهر منها أنَّ الإمام (ع) كان بصدد الجواب عن مقدار ما سأل عنه السائل وهي الثيَّب التي سبق لها أن تزوجت فإنَّ هذا الفرد هو الشائع الذي يشغل اهتمام السائل ويؤكد ذلك قوله (ع) "بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْ رَجُلاً قَبْلَه" فهذه الصياغة أشبه بتكرار موضوع السؤال ولكن بتعبير آخر، فجواب الإمام (ع) كان بصدد بيان حكم هذا الفرض ولم يكن بصدد الاحتراز عن فرض آخر حتى يكون ذلك مقتضياً للدلالة على نفي الحكم المذكور عن غير هذا الفرض فلذلك يكون حكم المرأة المدخول بها بغير زواج مسكوت عنه في هذه الروايات فلا تصلح هذه الروايات للمنع من التمسك بإطلاق صحيحة علي بن جعفر القاضي بثبوت الاستقلال بالنكاح لمُطلق المرأة المدخول بها بقطع النظر عن شرعيَّة الدخول وعدمه.

ويُمكن تأييد ذلك بأنَّ المرأة المدخول بها من طريق الزنا أو العقد الفاسد ليست بِكراً دون ريب لغةً وعرفاً، وحتى لو وقع الشك فيمَن وقع منها الزنا لمرَّةٍ أو وُطئت عن شبهة لمرَّة فإنَّه لا ريب في أنَّ مَن اعتادت الزنا أو تزوَّجت بعقدٍ فاسدٍ عن علم وتعمُّد لسنين فإنَّها تكون زانية وكذلك مَن تزوَّجت بعقد فاسدٍ لسنين عن شبهة فإنَّ هذه المرأة والتي سبقتها لا تُعدُّ بكراً دون ريب، وقد ثبت من الروايات أنَّ التي يتعيَّن عليها الاستئذان من وليِّها هي البكر، والمرأة في مفروض المثالين ليست بكراً رغم أنَّه لم يسبق لها أنْ نُكحت بعقدٍ صحيح. وهو ما ينبِّه على أنَّها داخلة في صنف الثيِّب من النساء إذ ليس في البين سوى صنفين من النساء البكر التي يجب عليها الاستئذان، والمرأة في مفروض المثالين ليس من هذا الصنف حتماً فيتعيَّن أنَّها من الصنف التي أفادت الروايات بأنها أملك بنفسها وأنَّ لها أن تتزوج دون إذن وليِّها.

من تزوجت ولم يتم الدخول بها:

وأمَّا الفرض الثالث وهي المرأة التي سبق لها أنْ تزوَّجت ولكنَّه لم يتم الدخول بها فلم تذهب عُذرتها فمقتضى صحيحة عليِّ بن جعفر هو أنَّها تُعدُّ بكراً لأنَّها جعلت الدخول مناطاً للفرق بين المرأة التي تُستأمر في النكاح وبين البكر، فلأنَّ هذه المرأة لم يتم الدخول بها -بحسب الفرض- لذلك فهي تعدُّ من صنف الأبكار من النساء رغم أنَّه قد سبق لها أنْ تزوَّجت، وكذلك تُعدُّ هذه المرأة بكراً لغةً وعرفاً وذلك لاحتفاظها بعُذرتها -بحسب الفرض- ولم يقربها رجل فهي مِن القدر المتيقن ممَّن يصدقُ عليه عنوان البكر.

ولا ينافي ذلك ما ورد في بعض الروايات مثل معتبرة إبراهيم بن ميمون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كانت الجارية بين أبويها فليس لها مع أبويها امر، وإذا كانت قد تزوَّجت لم يزوجها إلا برضا منها"(14).

فإنَّ الظاهر من قوله: "كانت قد تزوَّجت" بقرينة الروايات الكثيرة التي عبَّرت عن هذا الصنف بالثيب هو أن المراد من قوله: "قد تزوجت" هو أنَّه قد تمَّ الدخول بها.

المدخول بها في غير موضع الحيض:

وأمَّا الفرض الرابع وهي المرأة التي سبق لها أنْ تزوَّجت وتمَّ الدخول بها في غير الموضع فحكمها لا يختلف ظاهراً عن حكم المرأة في الفرض الثالث فإنَّ المستظهر من صحيحة عليِّ بن جعفر التي أناطت الخروج من حدِّ البكر بالدخول هو اعتبار الدخول في الموضع الموجب لزوال العذرة، ويؤكد ذلك التعبير عنها في الكثير من الروايات بالثيَّب والذي هو ظاهر في المرأة المدخول بها في الموضع الموجب لزوال العذرة.

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه هو أنَّ البكر التي يتعيَّن عليها استئذان وليِّها في النكاح هي المرأة التي لم يتم الدخول بها في موضع الحيض بعقدٍ صحيح أو غيره، وأمَّا التي ذهبت عُذرتها بغير الدخول كما لو ذهبت لوثبةٍ فهي بحكم البِكر.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور 

2 / ذو القعدة / 1443ه

2 / يونيو / 2022م

------------------------

1- كتاب العين -الخليل بن أحمد الفراهيدي- ج5 / ص364.

2- لسان العرب -ابن منظور- ج4 / ص78.

3- مباني في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج33 / ص220.

4- سورة الواقعة / 35، 36

5- سورة الرحمن / 71، 74.

6- لاحظ: كتاب العين -الخليل بن أحمد الفراهيدي- ج5 / ص365، الصحاح -الجوهري- ج2 / ص595، لسان العرب -ابن منظور- ج4 / ص78، القاموس المحيط -الفيروز آبادي- ج1 / ص376، تاج العروس -الزبيدي- ج 6 / ص110.

7- أساس البلاغة -الزمخشري- ص593، لسان العرب- ابن منظور- ج2 / ص166، تاج العروس -الزبيدي- ج3 / ص232.

8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج 20 / ص286.

9- مباني في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج33 / ص221.

10- الكافي -الكليني- ج5 / ص392، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص269.

11- الكافي -الكليني- ج5 / ص392، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص269.

12- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص268.

13- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص271.

14- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / ص380، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص284.